اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ثُمَّ ٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ كَرَّتَيۡنِ يَنقَلِبۡ إِلَيۡكَ ٱلۡبَصَرُ خَاسِئٗا وَهُوَ حَسِيرٞ} (4)

قوله { فارجع البصر } . مسبب عن قوله { مَّا ترى } .

و «كرتَيْنِ » نصب على المصدر كمرتين ، وهو مثنّى لا يراد به حقيقته ، بل التكثير بدليل قوله : { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } أي : مزدجراً وهو كليل ، وهذان الوصفان لا يأتيان بنظرتين ، ولا ثلاث ، وإنما المعنى كرات ، وهذا كقولهم : «لَبَّيْك وسعْديْكَ وحنَانيْكَ ، ودَوالَيْك ، وهَذَاذَيْكَ » لا يريدون بهذه التثنية تشفيع الواحد ، إنما يريدون التكثير أي : إجابة لك بعد أخرى . وإلا تناقض الغرض ، والتثنية تفيد التكثير لقرينة كما يفيده أصلها وهو العطف لقرينة ؛ كقوله : [ البسيط ]

4791 - لَوْ عُدَّ قَبْرٌ وقَبْرٌ كانَ أكْرمَهُمْ *** . . . {[57338]}

أي : قبور كثيرة ليتم المدح .

وقال ابن عطية{[57339]} : «كَرَّتَيْنِ » معناه : مرتين ، ونصبها على المصدر .

وقيل : الأولى ليرى حسنها ، واستواءها ، والثانية لينظر كواكبها في سيرها وانتهائها ، وهذا بظاهره يفهم التثنية فقط .

قوله : { هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } .

هذه الجملة يجوز أن تكون متعلقة لفعل محذوف يدلّ عليه «فارْجعِ البصَرَ » مضمناً معنى «انظُر » ؛ لأنه بمعناه ، فيكون هو المعلق .

وأدغم أبو عمرو{[57340]} : لام «هَلْ » في التاء هنا وفي «الحَاقَّة »{[57341]} ، وأظهرهما الباقون ، وهو المشهور في اللغة .

والفطور : جمع فطرٍ ، وهو الشَّقُّ ، يقال : فطره فانفطر ، ومنه : فطر ناب البعير ، كما يقال : شقّ ، ومعناه : شق اللحم وطلع .

قال المفسرون{[57342]} : «الفُطُور » الصُّدوع والشُّقوق ؛ قال الشاعر : [ الوافر ]

4792 - شَقَقْتِ القَلْبَ ثُمَّ ذَرَرْتِ فِيهِ*** هَواكِ فَلِيطَ فالتأمَ الفُطُورُ{[57343]}

قوله : «ينقلبْ » .

العامة : على جزمه على جواب الأمرِ .

والكسائي{[57344]} في رواية برفعه . وفيه وجهان :

أحدهما : أن يكون حالاً مقدرة .

والثاني : أنه على حذف الفاءِ ، أي : فينقلب .

و «خَاسِئاً » حال وقوله : «وهُو حَسِيرٌ » حال ، إما من صاحب الأولى ، وإما من الضمير المستتر في الحال قبلها ، فتكون متداخلة . وقد تقدّمتا «خاسئاً » و «حسير » في «المؤمنين » و «الأنبياء » .

فصل في تفسير الآية

لما قال : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } كأنه قال بعده : ولعلك لا تحكم بمقتضى ذلك البصر الواحد ، ولا يعتمد عليه لاحتمال وقوع الغلطِ في النظرة الواحدة ، ولكن ارجع البصر ، واردد النظر مرة أخرى ، حتى يتيقّن لك أنه ليس في خلق الرحمن من تفاوت ألبتَّة .

قال القرطبي{[57345]} : أمر أن ينظر في خلقه ليعتبروا به ، ويتفكَّروا في قدرته ، فقال : { فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } أي : اردُدْ طرفك إلى السماء ، ويقال : قلَّب بصره في السماء ، ويقال : اجتهد بالنَّظر إلى السَّماء ، والمعنى متقارب ، وإنما قال : «فارْجع » - بالفاء - وليس قبله فعل مذكُور ؛ لأنه قال : «مَا تَرَى » والمعنى : انظر ، ثم ارجع البصر هل ترى من فُطورٍ ، قاله قتادة{[57346]} .

قال مجاهد والضحاك : و «الفطور » الشقوق{[57347]} .

وقال قتادة : من خلل{[57348]} .

وقال السديُّ : من خروق{[57349]} .

وقال ابن عبَّاس : مِنْ وهَنٍ{[57350]} .

وقوله : { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } في موضع المصدر ؛ لأن معناه : رجعتين .

لأن الإنسان إذا نظر في الشَّيء مرتين ترى عينه ما لم تنظره مرة أخرى ، فأخبر تعالى أنه وإن نظر إلى السماء مرَّتين لا يرى فيها عيباً ، بل يتحيّر بالنظر إليها{[57351]} .

وقال ابن الخطيب{[57352]} : «معناه أنك إذا كررت نظرك لم يرجع إليك بصرك بما طلبته من وجدان الخلل ، والعيب ، بل يرجع إليك " خَاسِئاً " أي : مبعداً صاغراً عن أن يرى شيئاً من ذلك من قولك : خسأت الكلب إذا باعدته ، وطردته » .

وخسأ الكلب بنفسه ، يتعدى ولا يتعدَّى ، وانخسأ الكلب أيضاً ، وخسأ بصره أيضاً خَسْأً وخسوءاً ، أي : ستر .

قال ابن عبَّاسٍ : الخاسئ الذي لم يرَ ما يهوى{[57353]} .

وقال المبردُ هاهنا : الخاسئ المبعد المصغر .

وقوله : «وهُو حَسِيرٌ » أي : قد بلغ الغاية في الإعياء ، فهو بمعنى «فاعل » من الحسور الذي هو الإعياء ، ويجوز أن يكون مفعولاً من حسرهُ بعدُ الشيء وهو معنى قول ابن عبَّاسٍ ؛ ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]

4793 - مَنْ مَدَّ طَرْفاً إلى ما فَوْقَ غَايَتِهِ*** إرتدَّ خَسْآنَ مِنهُ الطَّرْفُ قَدْ حُسِرَا{[57354]}

يقال : حسر بصره يحسر حسوراً ، أي : كلَّ وانقطع نظره من طول مدى ، وما أشبه ذلك ، فهو حسير ومحسور أيضاً .

قال الشاعر : [ الطويل ]

4794 - نَظَرْتُ إليْهَا بالمُحَصَّبِ مِنْ مِنَى***فعَادَ إليَّ الطَّرْفُ وهوَ حَسِيرُ{[57355]}

وقيل هو النادم ؛ قال : [ الرمل ]

4795 - مَا أنَا اليَوْمَ على شَيْءٍ خَلاَ***يَا بْنَةَ القَيْنِ تولَّى بِحَسِرْ{[57356]}


[57338]:تقدم.
[57339]:ينظر: المحرر الوجيز 5/338.
[57340]:ينظر: إتحاف فضلاء البشر 2/550، غير أنه زاد فيمن أدغموا:"حمزة"، والكسائي، وهشام".
[57341]:آية (8).
[57342]:ينظر: القرطبي18/136، 137.
[57343]:قائله هو عبيد بن مسعود ينظر البحر 8/293 والدر المصون 6/341، والقرطبي 18/137.
[57344]:ينظر: البحر المحيط 8/293، والدر المصون 6/341.
[57345]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/136.
[57346]:ذكره القرطبي في "تفسيره".(18/136) عن قتادة.
[57347]:ذكره الماوردي في "تفسيره" (6/51) والقرطبي (18/136).
[57348]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/165) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/382) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.
[57349]:ذكره الماوردي في "تفسيره" (6/51) والقرطبي (18/136).
[57350]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/165) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" وعزاه إلى الطبري.
[57351]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/137.
[57352]:ينظر: الفخر الرازي 30/52.
[57353]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/137).
[57354]:ينظر القرطبي 18/137.
[57355]:ينظر القرطبي 18/137.
[57356]:البيت للمرار ينظر اللسان (حسر) والقرطبي 18/137.