قوله { فارجع البصر } . مسبب عن قوله { مَّا ترى } .
و «كرتَيْنِ » نصب على المصدر كمرتين ، وهو مثنّى لا يراد به حقيقته ، بل التكثير بدليل قوله : { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } أي : مزدجراً وهو كليل ، وهذان الوصفان لا يأتيان بنظرتين ، ولا ثلاث ، وإنما المعنى كرات ، وهذا كقولهم : «لَبَّيْك وسعْديْكَ وحنَانيْكَ ، ودَوالَيْك ، وهَذَاذَيْكَ » لا يريدون بهذه التثنية تشفيع الواحد ، إنما يريدون التكثير أي : إجابة لك بعد أخرى . وإلا تناقض الغرض ، والتثنية تفيد التكثير لقرينة كما يفيده أصلها وهو العطف لقرينة ؛ كقوله : [ البسيط ]
4791 - لَوْ عُدَّ قَبْرٌ وقَبْرٌ كانَ أكْرمَهُمْ *** . . . {[57338]}
وقال ابن عطية{[57339]} : «كَرَّتَيْنِ » معناه : مرتين ، ونصبها على المصدر .
وقيل : الأولى ليرى حسنها ، واستواءها ، والثانية لينظر كواكبها في سيرها وانتهائها ، وهذا بظاهره يفهم التثنية فقط .
قوله : { هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } .
هذه الجملة يجوز أن تكون متعلقة لفعل محذوف يدلّ عليه «فارْجعِ البصَرَ » مضمناً معنى «انظُر » ؛ لأنه بمعناه ، فيكون هو المعلق .
وأدغم أبو عمرو{[57340]} : لام «هَلْ » في التاء هنا وفي «الحَاقَّة »{[57341]} ، وأظهرهما الباقون ، وهو المشهور في اللغة .
والفطور : جمع فطرٍ ، وهو الشَّقُّ ، يقال : فطره فانفطر ، ومنه : فطر ناب البعير ، كما يقال : شقّ ، ومعناه : شق اللحم وطلع .
قال المفسرون{[57342]} : «الفُطُور » الصُّدوع والشُّقوق ؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
4792 - شَقَقْتِ القَلْبَ ثُمَّ ذَرَرْتِ فِيهِ*** هَواكِ فَلِيطَ فالتأمَ الفُطُورُ{[57343]}
العامة : على جزمه على جواب الأمرِ .
والكسائي{[57344]} في رواية برفعه . وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون حالاً مقدرة .
والثاني : أنه على حذف الفاءِ ، أي : فينقلب .
و «خَاسِئاً » حال وقوله : «وهُو حَسِيرٌ » حال ، إما من صاحب الأولى ، وإما من الضمير المستتر في الحال قبلها ، فتكون متداخلة . وقد تقدّمتا «خاسئاً » و «حسير » في «المؤمنين » و «الأنبياء » .
لما قال : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } كأنه قال بعده : ولعلك لا تحكم بمقتضى ذلك البصر الواحد ، ولا يعتمد عليه لاحتمال وقوع الغلطِ في النظرة الواحدة ، ولكن ارجع البصر ، واردد النظر مرة أخرى ، حتى يتيقّن لك أنه ليس في خلق الرحمن من تفاوت ألبتَّة .
قال القرطبي{[57345]} : أمر أن ينظر في خلقه ليعتبروا به ، ويتفكَّروا في قدرته ، فقال : { فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } أي : اردُدْ طرفك إلى السماء ، ويقال : قلَّب بصره في السماء ، ويقال : اجتهد بالنَّظر إلى السَّماء ، والمعنى متقارب ، وإنما قال : «فارْجع » - بالفاء - وليس قبله فعل مذكُور ؛ لأنه قال : «مَا تَرَى » والمعنى : انظر ، ثم ارجع البصر هل ترى من فُطورٍ ، قاله قتادة{[57346]} .
قال مجاهد والضحاك : و «الفطور » الشقوق{[57347]} .
وقال قتادة : من خلل{[57348]} .
وقال السديُّ : من خروق{[57349]} .
وقال ابن عبَّاس : مِنْ وهَنٍ{[57350]} .
وقوله : { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } في موضع المصدر ؛ لأن معناه : رجعتين .
لأن الإنسان إذا نظر في الشَّيء مرتين ترى عينه ما لم تنظره مرة أخرى ، فأخبر تعالى أنه وإن نظر إلى السماء مرَّتين لا يرى فيها عيباً ، بل يتحيّر بالنظر إليها{[57351]} .
وقال ابن الخطيب{[57352]} : «معناه أنك إذا كررت نظرك لم يرجع إليك بصرك بما طلبته من وجدان الخلل ، والعيب ، بل يرجع إليك " خَاسِئاً " أي : مبعداً صاغراً عن أن يرى شيئاً من ذلك من قولك : خسأت الكلب إذا باعدته ، وطردته » .
وخسأ الكلب بنفسه ، يتعدى ولا يتعدَّى ، وانخسأ الكلب أيضاً ، وخسأ بصره أيضاً خَسْأً وخسوءاً ، أي : ستر .
قال ابن عبَّاسٍ : الخاسئ الذي لم يرَ ما يهوى{[57353]} .
وقال المبردُ هاهنا : الخاسئ المبعد المصغر .
وقوله : «وهُو حَسِيرٌ » أي : قد بلغ الغاية في الإعياء ، فهو بمعنى «فاعل » من الحسور الذي هو الإعياء ، ويجوز أن يكون مفعولاً من حسرهُ بعدُ الشيء وهو معنى قول ابن عبَّاسٍ ؛ ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
4793 - مَنْ مَدَّ طَرْفاً إلى ما فَوْقَ غَايَتِهِ*** إرتدَّ خَسْآنَ مِنهُ الطَّرْفُ قَدْ حُسِرَا{[57354]}
يقال : حسر بصره يحسر حسوراً ، أي : كلَّ وانقطع نظره من طول مدى ، وما أشبه ذلك ، فهو حسير ومحسور أيضاً .
4794 - نَظَرْتُ إليْهَا بالمُحَصَّبِ مِنْ مِنَى***فعَادَ إليَّ الطَّرْفُ وهوَ حَسِيرُ{[57355]}
وقيل هو النادم ؛ قال : [ الرمل ]
4795 - مَا أنَا اليَوْمَ على شَيْءٍ خَلاَ***يَا بْنَةَ القَيْنِ تولَّى بِحَسِرْ{[57356]}
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.