معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

قوله تعالى : { وابتلوا اليتامى } ، الآية نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه ، وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه ثابتاً وهو صغير فجاء عمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : إن ابن أخي يتيم في حجري ، فما يحل لي من ماله ؟ ومتى أدفع إليه ماله ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية { وابتلوا اليتامى } أي اختبروهم في عقولهم ودينهم وحفظهم أموالهم .

قوله تعالى : { حتى إذا بلغوا النكاح } . أي : مبلغ الرجال والنساء .

قوله تعالى : { فإن آنستم }أبصرتم .

قوله تعالى : { منهم رشداً } ، قال المفسرون : يعني عقلاً وصلاحاً في الدين ، وحفظاً للمال ، وعلماً بما يصلحه ، وقال سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي : لا يدفع إليه ماله وإن كان شيخاً حتى يؤنس منه رشدا . والابتلاء يختلف باختلاف أحوالهم ، فإن كان ممن يتصرف في السوق فيدفع الولي إليه شيئاً يسيراً من المال وينظر في تصرفه ، وإن كان ممن لا يتصرف في السوق فيختبره في نفقة داره والإنفاق على عبيده وأجرائه ، ويختبر المرأة في أمر بيتها ، وحفظ متاعها ، وغزلها واستغزالها ، فإذا رأى حسن تدبيره ، وتصرفه في الأمور مراراً يغلب على القلب رشده دفع المال إليه . واعلم أن الله تعالى علق زوال الحجر عن الصغير وجواز دفع المال إليه بشيئين : بالبلوغ والرشد ، والبلوغ يكون بأحد أشياء أربعة : اثنان يشترك فيهما الرجال والنساء واثنان مختصان بالنساء ، فما يشترك فيه الرجال والنساء أحدهما السن والثاني الاحتلام ، أما السن : فإذا استكمل المولود خمس عشرة سنة حكم ببلوغه غلاماً كان أو جارية ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أخبرنا سفيان ، عن عيينة عن عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أحد ، وأنا ابن أربع عشرة سنة ، فردني ثم عرضت عليه عام الخندق ، وأنا ابن خمس عشرة سنة ، فأجازني . قال نافع : فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز ، فقال : هذا فرق بين المقاتلة والذرية ، وكتب أن يفرض لابن خمس عشرة في المقاتلة ومن لم يبلغها في الذرية ، وهذا قول أكثر أهل العلم . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : " بلوغ الجارية باستكمال سبع عشرة ، وبلوغ الغلام باستكمال ثماني عشرة سنة " وأما الاحتلام فنعني به : نزول المني ، سواء كان بالاحتلام أو الجماع ، أو غيرهما ، فإذا حدث ذلك بعد استكمال تسع سنين من أيهما كان حكم ببلوغه لقوله تعالى : { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا } وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ في الجزية حين بعثه إلى اليمن : ( خذ من كل حالم دينارا ) وأما الإنبات : وهو نبات الشعر الخشن حول الفرج ، فهو بلوغ في أولاد المشركين ، لما روي عن عطية القرظي قال : كنت من سبي قريظة فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل ، ومن لم ينبت لم يقتل ، فكنت ممن لم ينبت . وهل يكون ذلك بلوغاً في أولاد المسلمين ؟ فيه قولان : أحدهما : يكون بلوغاً كما في أولاد الكفار ، والثاني : لا يكون بلوغاً ، لأنه لا يمكن الوقوف على مواليد المسلمين بالرجوع إلى آبائهم ، وفي الكفار لا يوقف على مواليدهم ، ولا يقبل قول آبائهم فيه لكفرهم ، فجعل الإنبات للذي هو إمارة البلوغ بلوغاً في حقهم . وأما ما يختص بالنساء فالحيض ، والحبل ، فإذا حاضت المرأة بعد استكمال تسع سنين يحكم ببلوغها وكذلك إذا ولدت يحكم ببلوغها قبل الوضع بستة أشهر لأنها أقل مدة الحمل ، وأما الرشد : فهو أن يكون مصلحاً في دينه وماله ، والصلاح في الدين هو أن يكون مجتنباً عن الفواحش والمعاصي التي تسقط العدالة ، والصلاح في المال هو أن لا يكون مبذراً ، والتبذير : هو أن ينفق ماله فيما لا يكون فيه محمدة دنيوية ولا مثوبة أخروية ، أو لا يحسن التصرف فيها ، فيغبن في البيوع ، فإذا بلغ الصبي وهو مفسد في دينه وغير مصلح لماله ، دام الحجر عليه ، ولا يدفع إليه المال ، ولا ينفذ تصرفه ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه إذا كان مصلحاً لماله زال الحجر عنه ، وإن كان مفسداً في دينه ، وإذا كان مفسداً لماله قال : لا يدفع إليه حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة ، غير أن تصرفه يكون نافذاً قبله ، والقرآن حجة لمن استدام الحجر عليه ، لأن الله تعالى قال : { حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً }

قوله تعالى : { فادفعوا إليهم أموالهم } أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد . والفاسق لا يكون رشيداً ، وبعد بلوغه خمساً وعشرين سنة وهو مفسد لماله بالاتفاق غير رشيد ، فوجب أن لا يجوز دفع المال إليه كما قبل بلوغ هذا السن ، وإذا بلغ وأونس منه الرشد زال الحجر عنه ودفع إليه المال رجلاً كان أو امرأة تزوج أو لم يتزوج . وعند مالك رحمه الله تعالى : إن كانت امرأة لا يدفع المال إليها ما لم تتزوج فإذا تزوجت دفع إليها ولكن لا ينفذ تصرفها إلا بإذن الزوج ما لم تكبر وتجرب ، وإذا بلغ الصبي رشيداً وزال الحجر عنه ثم عاد سفيهاًنظر ، فإن عاد مبذراً لماله حجر عليه ، وإن عاد مفسداً في دينه فعلى وجهين : أحدهما يعاد الحجر عليه كما يستدام الحجر عليه إذا بلغ بهذه الصفة ، والثاني : لا يعاد لأن حكم الدوام أقوى من حكم الابتداء . وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، لا حجر على الحر العاقل البالغ بحال ، والدليل على إثبات الحجر من اتفاق الصحابة رضي الله عنهم ما روي عن هشام ابن عروة عن أبيه أن عبد الله بن جعفر ابتاع أرضاً سبخة بستين ألف درهم فقال علي : لآتين عثمان ، فلأحجرن عليك ، فأتى ابن جعفر الزبير فأعلمه بذلك فقال الزبير : أنا شريكه ، فقال عثمان : كيف أحجر على رجل في بيع شريكه في الزبير ؟ فكان ذلك اتفاقاً منهم على جواز الحجر حتى احتال الزبير في دفعه .

قوله تعالى : { ولا تأكلوها } . يا معشر الأولياء .

قوله تعالى : { إسرافاً } . بغير حق .

قوله تعالى : { وبداراً } . أي مبادرة .

قوله تعالى : { أن يكبروا } . و " أن " في محل النصب . يعني : لا تبادروا كبرهم ورشدهم حذراً أن يبلغوا فيلزمكم تسليمها إليهم ، ثم بين ما يحل لهم من مالهم .

قوله تعالى : { ومن كان غنياً فليستعفف } . أي ليمتنع من مال اليتيم فلا يرزؤه قليلاً ولا كثيراً ، والعفة : الامتناع مما لا يحل .

قوله تعالى : { ومن كان فقيراً } . محتاجاً إلى مال اليتيم وهو يحفظه ويتعهده

قوله تعالى : { فليأكل بالمعروف } .

أخبرنا محمد بن الحسن المروزي ، أخبرنا أبو سهل محمد بن عمر السنجري أخبرنا الإمام أبو سليمان الخطابي ، أخبرنا أبو بكر بن داسة التمار ، أخبرنا أبو داود السجستاني ، أخبرنا حميد بن مسعدة أن خالد بن الحرث حدثهم ، أخبرنا حسين يعني المعلم ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني فقير وليس لي شيء ولي يتيم فقال : " كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل " . واختلفوا في أنه هل يلزمه القضاء ؟ فذهب بعضهم إلى انه يقضي إذا أيسر ، وهو المراد من قوله { فليأكل بالمعروف } ، فالمعروف القرض ، أي يستقرض من مال اليتيم إذا احتاج إليه فإذا أيسر قضاه ، وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير ، قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت . وقال الشعبي : لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة . وقال قوم : لا قضاء عليه ، ثم اختلفوا في كيفية هذا الأكل بالمعروف ، فقال عطاء وعكرمة : يأكل بأطراف أصابعه ، ولا يسرف ولا يكتسي منه . وقال النخعي : لا يلبس الكتان ولا الحلل ولكن ما سد الجوعة ووارى العورة ، وقال الحسن وجماعة : يأكل من ثمر نخيله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه . فأما الذهب والفضة فلا ، فإن أخذ شيئاً منه فعليه رده ، وقال الكلبي : المعروف ركوب الدابة ، وخدمة الخادم ، وليس له أن يأكل من ماله شيئا .

أخبرنا أبو إسحاق السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن يحيى بن سعيد أنه قال : سمعت القاسم بن محمد يقول : جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن لي يتيماً وإن له إبلاً ، أفأشرب من لبن إبله ؟ فقال : إن كنت تبغي ضالة إبله وتهنا جرباها وتليط حوضها وتسقيها يوم ورودها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب .

وقال بعضهم : والمعروف أن يأخذ من ماله بقدر قيامه وأجرة عمله ولا قضاء عليه ، وهو قول عائشة وجماعة من أهل العلم .

قوله تعالى :{ فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم } . هذا أمر إرشاد ، وليس بواجب ، أمر الولي بالإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعدما بلغ لتزول عنه التهمة وتنقطع الخصومة .

قوله تعالى : { وكفى بالله حسيباً } محاسباً ومجازياً وشاهداً .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

ثم بين - سبحانه - الوقت الذى يتم فيه تسليم أموال اليتامى إليهم ، وكيف تجب حياطتهم والعناية بهم وبأموالهم فقال - تعالى - : { وابتلوا اليتامى . . . } .

وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ( 6 )

وقوله - تعالى - { وابتلوا } من الابتلاء بمعنى الاختبار والامتحان .

والخطاب للأولياء والأوصياء وكل من له صلة باليتامى .

والمراد ببلوغ النكاح هنا : بلوغ الحكم المذكور في قوله - تعالى - : { وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ } وقوله { آنَسْتُمْ } أى تبينتم وشاهدتم وأحسستم .

قال القرطبي : { آنَسْتُمْ } أى أبصرتم ورأيتم ومنه قوله - تعالى - : { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً } أى أبصر ورأى . وتقول العرب : اذهب فاستأنس هل ترى أحدا . معناه : تبصر . وقيل : آنست وأحسست ووجدت بمعنى واحد .

والمعنى : عليكم أيها الأولياء والأوصياء أن تختبروا اليتامى ، وذلك بتتبع أحوالهم في الاهتداء إلى ضبط الأمور ، وحسن التصرف في الأموال وبتمرينهم على ما يليق بأحوالهم حتى لا يجيء وقت بلوغهم إلا وقد صاروا فى قدرتهم أن يصرفوا أموالهم تصريفاً حسناً . فإن شاهدتم وأحسستم منهم { رُشْداً } أى صلاحا في عقولهم ، وحفظا لأموالهم ، فادفعوها إليهم من غير تأخير أو مماطلة .

و { حتى } هنا لغاية ، وهى داخلة على الجملة ، فهى تبين نهاية الصغر ، والجملة التي دخلت عليها ظرفية فى معنى الشرط .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف نظم الكلام ؟ قلت : ما بعد { حتى } إلى قوله : { فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } جعل غاية للابتلاء ، وهى { حتى } التى تقع بعدها الجمل . والجملة الواقعة بعدها جملة شرطية ، لأن إذا متضمنة معنى الشرط . وفعل الشرط { بَلَغُواْ النِّكَاحَ } وقوله { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } جملة من شرط وجزاء واقعة جواباً للشرط الأول الذى هو إذا بلغوا النكاح . فكأنه قيل : وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم ، فاستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم .

فإن قلت : فما معنى تنكير الرشد ؟ قلت : معناه نوعا من الرشد وهو الرشد في التصرف والتجارة . أو طرفا من الرشد ومخيلة من مخايلة حتى لا ينتظر به تمام الرشد .

ثم نهى - سبحانه - والأوصياء وغيرهم من الطمع فى شئ من مال اليتامى فقال - تعالى - :

{ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } .

أى : ادفعوا أيها الأولياء والأوصياء إلى اليتامى أموالهم من غير تأخير عن حد البلوغ ، ولا تأكلوها مسرفين فى الأكل ومبادرين بالأخذ خشية أن يكبروا ، بأن تفرطوا فى إنفاقها وتقولوا : ننفقها كما تريد قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا .

والإِسراف فى الأصل - كما يقول الآلوسى - تجاوز الحد المباح إلى ما لم يبح . وربما كان ذلك في الإفراط وربما كان في التقصير . غير أنه إذا كان فى الإفراط منه يقال : أسرف يسرف إسرافاً . وإذا كان في التقصير يقال : سرف يسرف سرفا .

وقوله { وَبِدَاراً } مفاعلة من البدر وهو العجلة الى الشئ والمسارعة إليه . وهما - أى قوله { إِسْرَافاً وَبِدَاراً } منصوبان على الحال من الفاعل فى قوله { تَأْكُلُوهَآ } أى : ولا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم .

أو منصوبان على أنهما مفعول لأجله ، أى ولا تأكلوها لإِسرافكم ومبادرتكم كبرهم .

والمراد من هذه الجملة الكريمة بيان أشنع الأحوال التى تقع من الأوصياء أو الأولياء وهى أن يأكلوا أموال اليتامى بإسراف وتعجل مخافة أن يبلغ الأيتام رشدهم ، فتؤخذ من أولئك الأوصياء تلك الأموال لترد : إلى أصحابها وهم اليتامى بعد أن يبلغوا سن الرشد .

ثم بين - سبحانه - ما ينبغى على الوصى إن كان غنيا وما ينبغى له إن كان فقيراً فقال :

{ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } .

والاستعفاف عن الشئ تركه . يقال : عف الرجل عن الشئ واستعف إذا أمسك عنه . والعفة : الامتناع عما لا يحل .

أى : ومن كان من الأولياء أو الأوصياء على أموال اليتامى غنيا فليستعفف أي فليتنزه عن أكل مال اليتيم ، وليقنع بما أعطاه الله من رزق وفير إشفاقا على مال اليتيم . ومن كان فقيراً من هؤلاء الأوصياء فليأكل بالمعروف . بأن يأخذ من مال اليتيم على قدر حاجته الضرورية وأجر سعيه وخدمته له . فقد روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده " أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنى فقير ليس لى شئ ولى يتيم . قال فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل . أي غير مسرف في الأخذ ، ولا مبادر أى متعجل ، ولا جامع منه ما يتجاوز حاجتك . "

ثم بين - سبحانه - ما ينبغى على الأوصياء عند انتهاء وصايتهم على اليتامى وعند دفع أموالهم إليهم فقال : { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وكفى بالله حَسِيباً } . أى : فإذا أردتم أيها الأولياء أن تدفعوا إلى التيامى أموالهم التى تحت أيديكم بعد البلوغ والرشد ، فاشهدوا عليهم عند الدفع بأنهم قبضوها وبرئت عنها ذممكم ، لأن هذا الإِشهاد أبعد عن التهمة ، وأنفى للخصومة ، وأدخل في الأمانة وبراءة الساحة .

وقوله - تعالى - { وكفى بالله حَسِيباً } أى كفى بالله محاسبا لكم على أعمالكم وشاهدا عليكم فى أقوالكم وأفعالكم ، ومجازيا إياكم بما تستحقون من خير أو شر ، لأنه - سبحانه - لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء . وإنكم إن أفلتم من حساب الناس في الدنيا فلن تفلتوا من حساب الله الذى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، فعليكم أن تتحروا الحلال في كل تصرفاتكم . ففى هذا التذييل وعيد شديد لكل جاحد لحق غيره ، ولكل معتد على اموال الناس وحقوقهم ، ولا سيما اليتامى الذين فقدوا الناصر والمعين .

هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة جملة من الأحكام منها :

1- أن على الأوصياء أن يختبروا اليتامى بتتبع أحوالهم فى الاهتداء إلى ضبط الأموال وحسن التصرف فيها ، وأن يمرنوهم على ذلك بحسب ما يليق بأحوالهم .

ويرى جمهور العلماء أن هذا الاختبار يكون قبل البلوغ . ويرى بعضهم أن هذا الاختبار يكون بعد البلوغ .

وقد قال القرطبى فى بيان كيفية هذا الاختبار ما ملخصه : لا بأس فى أن يدفع الولى إلى اليتيم شيئا من ماله يبيح له التصرف فيه ، فإن نماه وحسن النظر فيه فقد وقع الاختبار ، ووجب على الوصى تسليم جميع ماله إليه - أى بعد بلوغه - وإن أساء النظر وجب عليه إمساك المال عنه . .

وقال جماعة من الفقهاء : الصغير لا يخلو من أن يكون غلاما او جارية ، فإن كان غلاما رد النظر إليه في نفقة الدار شهرا ، وأعطاه شيئا نزرا ليتصرف فيه ؛ ليعرف كيف تدبيره وتصرفه ، وهو مع ذلك يراعيه لئلا يتلفه ، فإذا رآه متوخيا الإصلاح سلم إليه مال عند البلوغ وأشد عليه .

وإن كان جارية رد إليها ما يرد إلى ربة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه فإن رآها رشيدة سلم إليها مالها وأشد عليها وإلا بقيا تحت الحجر .

وقد بنى الإِمام أو بحنيفة على هذا الاخبار أن تصرفات الصبى العاقل المميز بإذن المولى صحيحة ، لأن ذلك الاختبار إنما يحصل إذا أذن له الولى في البيع والشراء - مثلا - وهذا يقتضى صحة تصرفاته .

ويرى الإِمام الشافعى أن الاختبار لا يقتضى الإِذن فى التصرف ولا يتوقف عليه ، بل يكون الاختبار بدون التصرف على حسب ما يليق بحال الصبى فابن التاجر - مثلا - يختبر فى البيع والشراء إلى حيث يتوقف الأمر على العقد وحينئذ يعقد الولى إن أراد .

2- كذلك أخذ العلماء من هذه الآية أن الأوصياء لا يدفعون أموال اليتامى إليهم إلا بتحقيق أمرين :

أحدهما : بلوغ النكاح .

والثانى : إيناس الرشد .

والمراد ببلوغ النكاح بلوغ وقته وهو التزوج ، وهو كناية عن الخروج من حالة الصبا للذكر والأنثى ، بأن توجد المظاهر التى تدل على الرجولة في الغلام ، والتى تدل على مبلغ بلوغ النساء فى الفتاة ، وذلك يكون بالاحتلام أو بالحيض بالنسبة للفتاة أو بلوغ سن معينة قدرها بعضهم بخمس عشرة سنة بالنسبة للذكر والأنثى على السواء .

وقدرها أبو حنيفة بسبع عشرة سنة بالنسبة للفتاة ، وبثمانى عشرة سنة بالنسبة للفتى . ومن بلاغة القرآن الكريم أنه عبر عن حالة البلوغ بقوله : { حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ } لأن هذا الوقت يختلف باختلاف البلاد في الحرارة والبرودة ، وباختلاف أمزجة أهل البلد الواحد فى القوة والضعف ، والصحة والمرض .

والمراد بإيناس الرشد : أن يتبين الأولياء من اليتامى الصلاح في العقل والخلق والتصرف فى الأموال .

ويرى جمهور العلماء أن اليتيم لا يدفع إليه ماله مهما بلغت سنة ما لم يؤنس منهم الرشد لأن الله - تعالى - يقول :

{ وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً } ويقول : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } ومعنى ذلك أنه إذا لم يؤنس منهم الرشد لا تدفع إليهم أموالهم ، بل يستمرون تحت ولاية الأولياء عليهم لأنهم ما زالوا سفهاء لم يتبين رشدهم .

وقد خالف الإِمام أبو حنيفة جمهور الفقهاء فقال . لا يدفع إلى اليتيم ماله إذا بلغ ولم يؤنس منه الرشد حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة ، فإذا بلغها عاقلا ولو غير رشيد فليس لأحد عليه سبيل ، ويجب أن يدفع الوصى إليه ماله ولو كان فاسقا أو مبذرا .

قالوا : وإنما اختبار أبو حنيفة هذه السن لأن مدة بلوغ الذكر عنده ثمانى عشر سنة ، فإذا زيد عليها سبع سنين - وهى مدة معتبرة في تغير أحوال الإِنسان - فعند ذلك يدفع إليه ماله أونس منه الرشد أو لم يؤنس ، لأن اسم الرشد واقع على العقل في الجملة ، والله - تعالى - شرط رشدا منكرا ولم يشترط سائر ضروب الرشد ، فاقتضى ظاهر الآية أنه لما حصل العقل فقد حصل ما هو الشرط المذكور في هذه الآية .

3- كذلك أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة الوصى على اليتيم إذا كان غنيا فعليه أن يتحرى العفاف . وألا يأخذ شيئا من مال اليتيم ، لأن أخذه مع غناه يتنافى مع العفاف الذى يجب أن يتحلى به الأوصياء ، ويعتبر من باب الطمع في مال اليتيم .

أما إذا كان الوصى فقيراً فقد أذن الله له أن يأكل من مال اليتيم بالمعروف أي بالقدر الذى تقتضيه حاجته الضرورية ، ولا يستنكره الشرع ولا العقل .

وقد بسط الإِمام الرازى القول فى هذه المسألة فقال ما ملخصه : العلماء فى أن الوصى هل له أن ينتفع بمال اليتيم أولا ؟

فمنهم من يرى أن للوصى أن يأخذ من مال اليتيم بقدر أجر عمله ؛ لأن قوله - تعالى - { وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً } مشعر بأن له أن يأكل بقدر الحاجة . ولأن قوله - تعالى - { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً } يدل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغير ظلم ، ولو لم يكن ذلك لم يكن لقوله { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً } فائدة . فهذا يدل على أن للوصى المحتاج أن ياكل من ماله بالمعروف . ولن الوصى لما تكفل بإصلاح مهمات الصبى وجب أن يتمكن من أن يأكل من ماله بقدر عمله قياسا على الساعى فى أخذ الصدقات وجمعها ؛ فإن يضرب له فى تلك الصدقات بسهم فكذا ههنا .

ومنهم من يرى أن له يأخذ بقدر ما يحتاج إليه من مال اليتيم قرضا ، ثم إذا أيسر قضاه ، وإن مات ولم يقدر على القضاء بأن كان معسرا فلا شئ عليه .

ويشهد لهذا الرأى قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : إنى أنزلت نفسى من هذا المال منزلة والى اليتيم .

إن استغنيت استعففت . وإن احتجبت استقرضت . فإذا ايسرت فضيت .

4- كذلك من الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية أن على الأوصياء عندما يدفعون أموال اليتامى إليهم أن يشهدوا على دفعها ، منعا للخصومات والمنازعات ، وإبراء لذمة الأوصياء ولكى يكون اليتامى على بينة من أمرهم .

وقد اختلف العلماء في أن الوصى إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع إليه ماله هل يصدق ؟ وكذلك إذا قال : أنفقت عليه فى صغره هل يصدق ؟

أما الشافعية والمالكية والحنابلة فيرون أنه لا يصدق ؛ لأن الآية الكريمة تقول : { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } وقوله { فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } أمر . وظاهر الأمر أنه للوجوب . وليس معنى الوجوب هنا أنه يأثم إذا لم يشهد . بل معناه أن الاشهاد لا بد منه فى براءة ذمته بأن يدفع له ماله أمام رجلين أو رجل وامرأتين حتى إذا دفع المال ولم يشهد ثم طالبه اليتيم فحينئذ يكون القول ما قاله اليتيم بعد أن يقسم على أن الوصى لم يدفع إليه ماله .

ويرى الإِمام أبو حنيفة أن الأمر فى قوله - قوله - { فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } للندب . وأن الوصى إذا ادعى ذلك يصدق ويكتفى فى تصديقه بيمينه ؛ لأنه أمين لم تعرف خيانته ، إذ لو عرفت خيانته لعزل . والأمين يصدق باليمين إذا كان هناك خلاف بينه وبين من ائتمنه . ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك { وكفى بالله حَسِيباً } يؤيد أن البينة ليست لازمة ؛ إذ معناه أنه لا شاهد أفضل من الله - تعالى - فيما بينكم وبينهم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

وقوله تعالى : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى } قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، والسدي ، ومقاتل بن حيان : أي اختبروهم { حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ } قال مجاهد : يعني : الحُلُم . قال الجمهور من العلماء : البلوغ في الغلام تارة يكون بالحُلُم ، وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد . وقد روى أبو داود في سننه{[6609]} عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يُتْم بعد احتلام ولا صُمَات يوم إلى الليل " {[6610]} .

وفي الحديث الآخر عن عائشة وغيرها من الصحابة ، رضي الله عنهم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رُفِعَ القَلَمُ عن ثلاثة : عن الصَّبِيِّ حتى يَحْتلمَ ، وعن النائم حتى يَسْتيقظ ، وعن المجنون حتى يُفِيق " أو يستكمل{[6611]} خمس عشرة سنة ، وأخذوا ذلك من الحديث الثابت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال : عُرِضْت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة ، فلم يجزني ، وعرضت عليه يوم الخَنْدَق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني ، فقال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز - لما بلغه هذا الحديث - إن هذا الفرق بين الصغير والكبير{[6612]} .

واختلفوا في إنبات{[6613]} الشعر الخشن حول الفرج ، وهو الشِّعْرة ، هل تَدُل على بلوغ أم لا ؟ على ثلاثة أقوال ، يفرق في الثالث بين صبيان المسلمين ، فلا يدل{[6614]} على ذلك لاحتمال المعالجة ، وبين صبيان أهل الذمة فيكون بلوغا في حقهم ؛ لأنه لا يتعجل بها إلا ضرب الجزية عليه ، فلا يعالجها . والصحيح أنها بلوغ في حق الجميع لأن هذا أمر جِبِلِّيٌّ يستوي فيه الناس ، واحتمال المعالجة بعيد ، ثم قد دلت السنة على ذلك في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، عن عَطيَّةَ القُرَظيّ ، رضي الله عنه قال : عُرضنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قُرَيْظة فكان من أنْبَتَ قُتل ، ومن لم يُنْبت خَلّي سبيله ، فكنت فيمن لم يُنْبِت ، فخلي سبيلي .

وقد أخرجه أهل السنن الأربعة بنحوه{[6615]} وقال الترمذي : حسن صحيح . وإنما كان كذلك ؛ لأن سعد بن معاذ ، رضي الله عنه ، كان قد حكم فيهم بقتل المقاتلة وسَبْي الذرية .

وقال الإمام أبو عبيد{[6616]} القاسم بن سلام في كتاب " الغريب " : حدثنا ابن علية ، عن إسماعيل بن أمية ، عن محمد بن يحيى بن حيان ، عن عمر : أن غلاما ابتهر جارية في شعره ، فقال عمر ، رضي الله عنه : انظروا إليه . فلم يوجد أنبت ، فَدَرَأَ عنه الحَد . قال أبو عُبَيد : ابتهرها : أي قذفها ، والابتهار{[6617]} أن يقول : فعلت بها وهو كاذب{[6618]} فإن كان صادقا فهو الابتيار ، قال الكميت في شعره .

قبيح بمثلي نعتُ الفَتَاة *** إمَّا ابتهارًا وإمَّا ابتيارا{[6619]}

وقوله : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } قال سعيد بن جبير : يعني : صَلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم . وكذا روي عن ابن عباس ، والحسن البصري ، وغير واحد من الأئمة . وهكذا قال الفقهاء متَى بلغَ الغلام مُصْلحًا لدينه وماله ، انفك الحجر عنه ، فيسلم إليه ماله الذي تحت يد وليه بطريقه .

وقوله : { وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا } ينهى تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية إسرافا ومبادرةً قبل بلوغهم .

ثم قال تعالى : { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ } [ أي ]{[6620]} من كان في غُنْية عن مال اليتيم فَلْيستعففْ عنه ، ولا يأكل منه شيئا . قال الشعبي : هو عليه كالميتة والدم .

{ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا الأشج ، حدثنا عبد الله بن سليمان ، حدثنا هشام ، عن أبيه ، عن عائشة : { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ } نزلت في مال{[6621]} اليتيم .

وحدثنا الأشج وهارون بن إسحاق قالا حدثنا عبدة بن سليمان ، عن هشام ، عن أبيه ، عن ، قالت : نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجا أن يأكل منه .

وحدثنا أبي ، حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني ، حدثنا علي{[6622]} بن مسهر ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : أنزلت هذه الآية في والي اليتيم { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } بقدر قيامه عليه .

ورواه البخاري عن إسحاق عَنْ عبد الله بن نُمَير ، عن هشام ، به .

قال الفقهاء : له أن يأكل أقل الأمرين : أجْرَةَ مثله أو قدر حاجته . واختلفوا : هل يرد إذا أيسر ، على قولين : أحدهما : لا ؛ لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيرا . وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي ؛ لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل . وقد قال الإمام أحمد :

حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا حسين ، عن عَمْرو بن شُعَيب ، عن أبيه ، عن جده : أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ليس لي مال ولي يتيم ؟ فقال : " كُلْ من مال يتيمك غير مُسْرِف ولا مُبذر ولا متأثِّل مالا ومن غير أن تقي مالك - أو قال : تفدي مالك - بماله " شك حسين{[6623]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، حدثنا حسين المكتب ، عن عَمْرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن عندي يتيما عنده مال - وليس عنده شيء ما - آكل من ماله ؟ قال : " بالمعروف غير مُسرف " .

ورواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة من حديث حسين المعلم{[6624]} به .

وروى أبو حاتم ابن حبّان في صحيحه ، وابن مردويه في تفسيره من حديث يعلى بن مهدي ، عن جعفر بن سليمان ، عن أبي عامر الخَزّاز ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر : أن رجلا قال : يا رسول الله ، فيم أضرب يتيمي ؟ قال : ما كنتَ ضاربا منه ولدك ، غير واق مالك بماله ، ولا متأثل منه مالا{[6625]} .

وقال ابن جرير : حدثنا الحسن{[6626]} بن يحيى ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا الثوري ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد قال : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال : إن في حجري أيتاما ، وإن لهم إبلا ولي إبل ، وأنا أمنح{[6627]} في إبلي وأفْقر فماذا يحل لي من ألبانها ؟ فقال : إن كنت تبغي ضالتها وتهْنَأ جرباها ، وتلوط حوضها ، وتسقي{[6628]} عليها ، فاشرب غير مُضر بنسل ، ولا ناهك في الحلب .

ورواه مالك في موطئه ، عن يحيى بن سعيد{[6629]} به .

وبهذا القول - وهو عدمُ أداء البدل{[6630]} - يقول عطاء بن أبي رباح ، وعكرمة ، وإبراهيم النخعيّ ، وعطية العوْفي ، والحسن البصري .

والثاني : نعم ؛ لأن مال اليتيم على الحظْر ، وإنما أبيح للحاجة ، فيرد بدله كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة . وقد قال أبو بكر ابن أبي الدنيا : حدثنا ابن خيثمة ، حدثنا وَكِيع ، عن سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مُضرَب قال : قال عمر [ بن الخطاب ]{[6631]} رضي الله عنه : إنى أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة والي اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن احتجت استقرضت ، فإذا أيسرتُ قضيت{[6632]} .

طريق أخرى : قال سعيد بن منصور : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : قال لي عمر ، رضي الله عنه : إني أنزلْتُ نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم ، إن احْتَجْتُ أخذت منه ، فإذا أيسَرت رَدَدْتُه ، وإن اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ .

إسناد صحيح{[6633]} وروَى البيهقي عن ابن عباس نحوَ ذلك . وهكذا رواه ابنُ أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } يعني : القرض . قال : ورُوي عن عُبَيدة ، وأبي العالية ، وأبي وائل ، وسعيد بن جُبَير - في إحدى الروايات - ومجاهد ، والضحاك ، والسّدي نحو ذلك . وروي من طريق السدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } قال : يأكل بثلاث أصابع .

ثم قال : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا ابن مَهْديّ ، حدثنا سفيانُ ، عن الحكم ، عن مقْسم ، عن ابن عباس : { وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } قال : يأكل من ماله ، يقوت على يتيمه{[6634]} حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم . قال : ورُوي عن مجاهد وميمون بن مِهْران في إحدى الروايات والحكم نحو ذلك .

وقال عامر الشَّعْبِيّ : لا يأكل منه إلا أن يضطر إليه ، كما يضطر إلى [ أكل ]{[6635]} الميتة ، فإن أكل منه قضاه . رواه ابن أبي حاتم .

وقال ابن وهب : حدثني نافع بن أبي نُعَيْم القَارئ قال : سألت يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة عن قول الله : { فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } فقالا{[6636]} ذلك في اليتيم ، إن كان فقيرا أنفق{[6637]} عليه بقدر فقره ، ولم يكن للولي منه شيء .

وهذا بعيد من السياق ؛ لأنه قال : { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ } يعني : من الأولياء { وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } أي : منهم { فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } أي : بالتي هي أحسن ، كما قال في الآية الأخرى : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } [ الإسراء : 34 ]أي : لا تقربوه إلا مصلحين له ، وإن احتجتم إليه أكلتم منه بالمعروف .

وقوله : { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } يعني : بعد بلوغهم الحلم وإيناس الرشد [ منهم ]{[6638]} فحينئذ سلموهم أموالهم ، فإذا دفعتم إليهم أموالهم { فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } وهذا أمر الله تعالى للأولياء{[6639]} أن يشهدوا على الأيتام إذا بلغوا الحلم وسلموا{[6640]} إليهم أموالهم ؛ لئلا يقع من بعضهم جُحُود وإنكار لما قبضه وتسلمه .

ثم قال : { وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا } أي : وكفى بالله محاسبا وشهيدًا ورقيبا على الأولياء في حال نظرهم للأيتام ، وحال تسليمهم{[6641]} للأموال : هل هي كاملة موفرة ، أو منقوصة مَبْخوسة مدخلة مروج حسابها مدلس أمورها ؟ الله عالم بذلك كله . ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا أبا ذر ، إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تَأَمَّرَن على اثنين ، ولا تَلِيَنَّ مال يتيم " {[6642]} .


[6609]:في جـ، أ: "بإسناده".
[6610]:سنن أبي داود برقم (2873).
[6611]:في جـ، أ: "ويستكمل".
[6612]:صحيح البخاري برقم (2664) وصحيح مسلم برقم (1868).
[6613]:في ر: "إثبات".
[6614]:في جـ، أ: "فلا يدل بلوغ".
[6615]:المسند (4/310) وسنن أبي داود برقم (4404) (4405) وسنن الترمذي برقم (1584) وسنن النسائي (6/155) وسنن ابن ماجة برقم (2541، 2542).
[6616]:في جـ، أ: "أبو عبد الله".
[6617]:في جـ، ر: "قال: والابتهار".
[6618]:في ر: "كذب".
[6619]:غريب الحديث لأبي عبيد (3/289) والبيت في اللسان أيضا مادة (بهر).
[6620]:زيادة من جـ، أ.
[6621]:في جـ، ر، أ: "والى".
[6622]:في جـ، أ: "الأصبهاني وعلي".
[6623]:المسند (3/186).
[6624]:سنن أبي داود برقم (2872)، وسنن النسائي (6/256) وسنن ابن ماجة برقم (2718).
[6625]:رواه ابن حبان في صحيحه برقم (4244) "الإحسان" ورواه البيهقي في السنن الكبرى (6/4) والطبراني في المعجم الصغير (1/89) كلاهما من طريق أبي عامر الخزاز عن عمرو بن دينار به.
[6626]:في جـ، أ: "الحسين".
[6627]:في أ: "أشبع".
[6628]:في أ: "وتسعى".
[6629]:تفسير الطبري (7/588) وموطأ مالك (2/934) ومن طريق مالك رواه النحاس في الناسخ والمنسوخ (ص 298) ثم قال: "هذا إسناد صحيح".
[6630]:في جـ: "وهو رد عدم البدل".
[6631]:زيادة من جـ.
[6632]:ورواه البيهقي في السنن الكبرى (6/5) والطبري في تفسيره (7/582) من طريق سفيان وإسرائيل به.
[6633]:ورواه النحاس في الناسخ والمنسوخ (ص 296) من طريق أبي الأحوص عن أبي إسحاق به.
[6634]:في جـ، أ: "على نفسه".
[6635]:زيادة من جـ.
[6636]:في جـ: "قال"، وفي أ: "قالا".
[6637]:في جـ: "تنفق" وفي أ: "انتفق".
[6638]:زيادة من جـ، أ.
[6639]:في جـ: "هذا أمر الله للأولياء".
[6640]:في جـ، ر: "تسلموا"، وفي أ: "ويسلموا".
[6641]:في و: "تسلمهم الأموال".
[6642]:صحيح مسلم برقم (1826).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

هذه مخاطبة للجميع ، والمعنى : يخلص التلبس بهذا الأمر للأوصياء ، والابتلاء : الاختبار ، و { بلغوا النكاح } ، معناه : بلغوا مبلغ الرجال بحلم وحيض أو ما يوازيه ، ومعناه : جربوا عقولهم وقرائحهم وتصرفهم ، و { آنستم } ، معناه علمتم وشعرتم وخبرتم ، كما قال الشاعر : [ الخفيف ]

آنَسَتْ نَبْأَةً وأفزعها القنّاص . . . عَصْراً وَقَدْ دَنَا الإمْساءُ

وقرأ ابن مسعود - «أ حسْتم » - بالحاء وسكون السين على مثال فعلتم ، وقرأ أبو عبد الرحمن وأبو السمال وابن مسعود وعيسى الثقفي : «رشداً » بفتح الراء والشين والمعنى واحد ، ومالك رحمه الله يرى الشرطين : البلوغ ، والرشد المختبر ، وحينئذ يدفع المال ، وأبو حنيفة يرى أن يدفع المال بالشرط الواحد ما لم يحتفظ له سفه كما أبيحت التسرية بالشرط الواحد وكتاب الله قد قيدها بعدم الطول وخوف العنت ، إلى غير ذلك من الأمثلة ، كاليمين والحنث اللذين بعدهما تجب الكفارة ، ولكنها تجوز قبل الحنث .

قال القاضي أبو محمد : والتمثيل عندي في دفع المال بنوازل الشرطين غير صحيح ، وذلك أن البلوغ لم تسقه الآية سياق الشرط ، ولكنه حالة الغالب على بني آدم أن تلتئم عقولهم فيها ، فهو الوقت الذي لا يعتبر شرط الرشد إلا فيه ، فقال إذا بلغ ذلك الوقت فلينظر إلى الشرط وهو الرشد حينئذ ، وفصاحة الكلام تدل على ذلك ، لأن التوقيف بالبلوغ جاء ب { إذا } والمشروط جاء ب { إن } التي هي قاعدة حروف الشرط ، و { إذا } ليست بحرف شرط لحصول ما بعدها ، وأجاز سيبويه أن يجازى بها في الشعر ، وقال : فعلوا ذلك مضطرين ، وإنما جوزي به لأنها تحتاج إلى جواب ، ولأنها يليها الفعل مظهراً أو مضمراً ، واحتج الخليل على منع شرطيتها بحصول ما بعدها ، ألا ترى أنك تقول أجيئك إذا احمر البسر ، ولا تقول : إن احمر البسر ، وقال الحسن وقتادة : الرشد في العقل والدين ، وقال ابن عباس : بل في العقل وتدبير المال لا غير ، وهو قول ابن القاسم في مذهبنا ، والرواية الأخرى : أنه في العقل والدين مروية عن مالك ، وقالت فرقة : دفع الوصي المال إلى المحجور يفتقر إلى أن يرفعه إلى السلطان ويثبت عنده رشده ، أو يكون ممن يأمنه الحاكم في مثل ذلك ، وقالت فرقة : ذلك موكول إلى اجتهاد الوصي دون أن يحتاج إلى رفعه إلى السلطان .

قال القاضي أبو محمد : والصواب في أوصياء زمننا أن لا يستغنى عن رفعه إلى السلطان وثبوت الرشد عنده ، لما حفظ من تواطؤ الأوصياء على أن يرشد الوصي ويبرأ المحجور لسفهه وقلة تحصيله في ذلك الوقت ، وقوله : { ولا تأكلوها } الآية ، نهي من الله تعالى للأوصياء عن أكل أموال اليتامى بغير الواجب المباح لهم ، والإسراف : الإفراط في الفعل ، والسرف الخطأ في مواضع الإنفاق ، ومنه قول الشاعر [ جرير ] : [ البسيط ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ما في عَطائِهِمُ مَنٌّ وَلاَ سَرَفُ{[3857]}

أي لا يخطئون مواضع العطاء { وبداراً } : معناه مبادرة كبرهم ، أي إن الوصي يستغنم مال محجوره فيأكل ويقول : أبادر كبره لئلا يرشد ويأخذ ماله ، قاله ابن عباس وغيره . و { أن يكبروا } نصب ببدار ، ويجوز أن يكون التقدير مخافة أن وقوله : { ومن كان غنياً فليستعفف } الآية ، يقال : عف الرجل عن الشيء واستعف : إذا أمسك ، فأمر الغني بالإمساك عن مال اليتيم ، وأباح الله للوصي الفقير أن يأكل من مال يتيمه بالمعروف ، واختلف العلماء في حد المعروف ، فقال عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبو العالية : إن ذلك القرض أن يتسلف من مال يتيمه ويقضي إذا أيسر ، ولا يتسلف أكثر من حاجته ، وقال ابن عباس أيضاً وعكرمة والسدي وعطاء : روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال{[3858]} : إني نزلت من مال الله منزلة والي اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن احتجت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت . وروي عن إبراهيم وعطاء وغيرهما أنه لا قضاء على الوصي الفقير فيما أكل بالمعروف ، قال الحسن : هي طعمة من الله له ، وذلك أن يأكل ما يقيمه أكلاً بأطراف الأصابع ، ولا يكتسي منه بوجه ، وقال إبراهيم النخعي ومكحول : يأكل ما يقيمه ويكتسي ما يستر عورته ، ولا يلبس الكتان والحلل ، وقال ابن عباس وأبو العالية والحسن والشعبي : إنما يأكل الوصي بالمعروف إذا شرب من اللبن وأكل من الثمر بما يهنأ الجربى ويليط الحوض ويجد الثمر وما أشبهه ، وقالت فرقة : المعروف أنه يكون له أجر بقدر عمله وخدمته ، وقال الحسن بن حي : إن كان وصي أب فله الأكل بالمعروف ، وإن كان وصي حاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه ، وقال ابن عباس والنخعي : المراد أن يأكل الوصي بالمعروف من ماله حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم ، وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن : المراد اليتامى في الحالين ، أي : من كان منهم غنياً فليعف بماله ، ومن كان فقيراً فليتقتر عليه بالمعروف والاقتصاد ، وقوله : { فإذا دفعتم } الآية . أمر من الله بالتحرز والحزم ، وهذا هو الأصل في الإشهاد في المدفوعات كلها ، إذا كان حبسها أولاً معروفاً ، وقالت فرقة : الإشهاد ها هنا فرض وقالت فرقة : هو ندب إلى الحزم ، وروى عمر بن الخطاب وابن جبيرة أن هذا هو دفع ما يستقرضه الوصي الفقير إذا أيسر ، واللفظ يعم هذا وسواه ، والحسيب هنا المحسب ، أي هو كاف من الشهود ، هكذا قال الطبري ، والأظهر { حسيباً } معناه : حاسباً أعمالكم ومجازياً بها ، ففي هذا وعيد لكل جاحد حق .


[3857]:- شطر البيت لجرير (ديوانه: 174) وصدره: أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية والهنيدة: مائة من الإبل، يحدوها: أي يسوقها ثمانية من العبيد. والمن: الفخر بالإحساس واستكثاره.
[3858]:- انظر طبقات ابن سعد 3/ 276.