قوله تعالى : { تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب } ساتر الذنب { وقابل التوب } يعني : التوبة مصدر تاب يتوب توباً . وقيل : التوب جمع توبة ، مثل دومة ودوم ، وحومة وحوم ، قال ابن عباس { غافر الذنب } لمن قال لا إله إلا الله { قابل التوب } ممن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله { شديد العقاب } لمن لا يقول لا إله إلا الله { ذي الطول } ذي الغنى عمن لا يقول لا إله إلا الله . قال مجاهد : ذي الطول ذي السعة والغنى ، وقال الحسن : ذو الفضل ، وقال قتادة : ذو النعم ، وقيل : ذو القدرة . وأصل الطول الإنعام الذي تطول مدته على صاحبه . { لا إله إلا هو إليه المصير* }
{ غَافِرِ الذنب } أى : ساتر لذنوب عباده ، ومزيل لأثرها عنهم بفضله ورحمته .
فلفظ { غَافِرِ } من الغفر بمعنى الستر والتغطية ، يقال : غفر الله - تعالى - ذنب فلان غَفْراً ومغفرة وغفرانا ، إذا غطاه وستره وعفا عنه .
ولفظ الذنب : يطلق على كل قول أو فعل تسوء عاقبته ، مأخوذ من ذنب الشئ ، أى : نهايته { وَقَابِلِ التوب } والتوب مصدر بمعنى الرجوع عن الذنب والتوبة منه . يقال : تاب فلان عن الذنب توبة وتوبتا إذا رجع عنه .
أى : أنه - سبحانه يغفر ذنوب عباده ، ويقبل توبتهم فضلا منه وكرما .
قال صاحب الكشاف : ما بال الواو فى قوله { وَقَابِلِ التوب } ؟
قلت : فيها نكته جليلة ، وهى إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين : بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات ، وأن يجعلها محاءة للذنوب ، كأنه لم يذنب . كأنه قال : جامع المغفرة والقبول . .
{ شَدِيدِ العقاب } أى : لمن أشرك به ، وأعرض عن الحق الذى جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم { ذِي الطول } أى : ذى الفضل والثواب والإِنعام على من يشاء من عباده .
والطَّول : السعة والغنى والزيادة ، يقال : لفلان على فلان طول ، أى زيادة وفضل ، ومنه الطُّول فى الجسم لأنه زيادة فيه . قال - تعالى - : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً . . . } أى : غنى وسعة .
{ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } أى : لا إله بحق وصدق إلا هو - سبحانه - .
{ إِلَيْهِ المصير } أى : إليه المرجع والمآب يوم القيامة ، ليحاسبكم على أعمالكم فى الدنيا .
قال القرطبى : روى عن عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - أنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام فلما سأل عنه قيل له : تتابع فى هذا الشراب .
فقال عمر لكاتبه : اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان ، سلام عليك ، وأنا أحمد الله إليك الذى لا إله هو { بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ . حما . تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز العليم } .
إلى قوله - تعالى - : { إِلَيْهِ المصير } .
ثم ختم الكتاب وقال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا . ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة . فلما وصل الكتاب إلى الرجل جعل يقرؤه ويقول : قد وعدنى الله أن يغفر لى ، وحذرنى عقابه ، فلم يبرح يرددها حتى بكى ، ثم نزع فأحسن النزع وحسنت توبته .
فلما بلغ عمر ذلك قال : هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أحدكم قد زل زلته فسددوه وادعوا الله له أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه .
وقوله : { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ } أي : يغفر ما سلف من الذنب ، ويقبل التوبة في المستقبل لمن تاب إليه وخَضَع لديه .
وقوله : { شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : لمن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا ، وعتا عن{[25403]} أوامر الله ، وبغى [ وقد اجتمع في هذه الآية الرجاء والخوف ] {[25404]} . وهذه كقوله تعالى : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ } [ الحجر : 49 ، 50 ] يقرن هذين الوصفين كثيرًا في مواضع متعددة من القرآن ؛ ليبقى العبد بين الرجاء والخوف .
وقوله : { ذِي الطَّوْلِ } قال ابن عباس : يعني : السعة والغنى . وكذا قال مجاهد وقتادة .
وقال يزيد بن الأصم : { ذِي الطَّوْلِ } يعني : الخير الكثير .
وقال عكرمة : { ذِي الطَّوْلِ } ذي المن .
وقال قتادة : [ يعني ] {[25405]} ذي النعم والفواضل .
والمعنى : أنه المتفضل على عباده ، المتطول عليهم بما هو فيه من المنن والأنعام ، التي لا يطيقون القيام بشكر واحدة منها ، { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [ إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ] } [ إبراهيم : 34 ]{[25406]} .
وقوله : { لا إِلَهَ إِلا هُوَ } أي : لا نظير له في جميع صفاته ، فلا إله غيره ، ولا رب سواه { إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } أي : المرجع والمآب ، فيجازي كل عامل بعمله ، { وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ الرعد : 41 ] .
وقال أبو بكر بن عياش : سمعت أبا إسحاق السَّبِيعي يقول : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] {[25407]} فقال : يا أمير المؤمنين إني قَتَلْتُ ، فهل لي من توبة ؟ فقرأ عليه { حم . تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ . غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } وقال : اعمل ولا تيأس .
رواه ابن أبي حاتم - واللفظ له - وابن جرير{[25408]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن مروان الرِّقِّي ، حدثنا عمر - يعني ابن أيوب - أخبرنا جعفر بن بَرْقان ، عن يزيد بن الأصم {[25409]} قال : كان رجل من أهل الشام ذو بأس ، وكان يفد إلى عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] {[25410]} ، ففقده عمر فقال : ما فعل فلان بن فلان ؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين ، يتابع في هذا الشراب . قال : فدعا عمر كاتبه ، فقال : اكتب : " من عمر بن الخطاب إلى فلان ابن فلان ، سلام عليك ، [ أما بعد ] {[25411]} : فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، غافر الذنب وقابل التوب ، شديد العقاب ، ذي الطول ، لا إله إلا هو إليه المصير " . ثم قال لأصحابه : ادعوا الله لأخيكم أن يُقْبِل بقلبه ، وأن يتوب الله عليه {[25412]} . فلما بلغ الرجل كتابُ عمر جعل يقرؤه ويردده ، ويقول : غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ، قد حذرني عقوبته ووعدني أن يغفر لي .
ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث جعفر بن برقان ، وزاد : " فلم يزل يُرَدّدها على نفسه ، ثم بكى ثم نزع فأحسن النزع فلما بلغ عمر [ رضي الله عنه ] {[25413]} خبرهُ قال : هكذا فاصنعوا ، إذا رأيتم أخاكم زل زلَّة فسددوه ووفقوه ، وادعوا الله له أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه{[25414]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمر بن شَبَّة{[25415]} ، حدثنا حماد بن واقد - أبو عُمَر الصفار - ، حدثنا ثابت البناني ، قال : كنت مع مصعب بن الزبير في سواد الكوفة ، فدخلت حائطًا أصلي ركعتين فافتتحت : { حم } المؤمن ، حتى بلغت : { لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } فإذا رجل خلفي على بغلة شهباء عليه مُقَطَّعات يمنية فقال : إذا قلت : { غَافِرِ الذَّنْبِ } فقل : " يا غافر الذنب ، اغفر لي ذنبي " . وإذا قلت : { وَقَابِلِ التَّوْبِ } ، فقل : " يا قابل التوب ، اقبل توبتي " . وإذا قلت : { شَدِيدُ الْعِقَابِ } ، فقل : " يا شديد العقاب ، لا تعاقبني " . قال : فالتفت فلم أر أحدًا ، فخرجت إلى الباب فقلت : مَرّ بكم رجل عليه مقطعات يمنية ؟ قالوا : ما رأينا أحدًا فكانوا يُرَون أنه إلياس .
ثم رواه من طريق أخرى ، عن ثابت ، بنحوه . وليس فيه ذكر إلياس .
{ غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول } صفات أخرى لتحقيق ما فيه من الترغيب والترهيب والحث على ما هو المقصود منه ، والإضافة فيها حقيقية على أنه لم يرد بها زمان مخصوص ، وأريد ب { شديد العقاب } مشدده أو الشديد عقابه فحذف اللام للازدواج وأمن الالتباس ، أو إبدال وجعله وحده بدلا مشوش للنظم وتوسيط الواو بين الأولين لإفادة الجمع بين محو الذنوب وقبول التوبة ، أو تغاير الوصفين إذ ربما يتوهم الاتحاد ، أو تغاير موقع الفعلين لأن الغفر هو الستر فيكون لذنب باق وذلك لمن لم يتب فإن " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " . والتوب مصدر كالتوبة . وقيل جمعا والطول الفضل بترك العقاب المستحق ، وفي توحيد صفة العذاب مغمورة بصفات الرحمة دليل رجحانها . { لا إله إلا هو } فيجب الإقبال الكلي على عبادته . { إليه المصير } فيجازي المطيع والعاصي .
وقوله : { غافر } بدل من المكتوبة{[9958]} ، وإن أردت ب { غافر } المضي ، أي غفرانه في الدنيا وقضاؤه بالغفران وستره على المذنبين ، فيجوز أن يكون { غافر } صفة ، لأن إضافته إلى المعرفة تكون محضة ، وهذا مترجح جداً ، وإذا أردت ب { غافر } الاستقبال أو غفرانه يوم القيامة فالإضافة غير محضة ، و : { غافر } نكرة فلا يكون نعتاً ، لأن المعرفة لا تنعت بالنكرة ، وفي هذا نظر . وقال الزجاج : { غافر } { وقابل } صفتان . و : { شديد العقاب } بدل{[9959]} ، و : { الذنب } اسم الجنس . وأما { التوب } فيحتمل أن يكون مصدراً كالعوم والنوم فيكون اسم جنس ، ويحتمل أن يكون جمع توبة كتمرة وتمر ، وساعة وساع . وقبول التوبة من الكافر مقطوع لإخبار الله تعالى ، وقبول التوبة من العاصي في وجوبها قولان لأهل السنة ، وحكى الطبري عن أبي بكر بن عياش أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب فقال : إني قتلت ، فهل لي من توبة ؟ فقال نعم ، اعمل ولا تيأس ، ثم قرأ هذه الآيات إلى { قابل التوب } .
و { شديد العقاب } : صفة ، وقيل بدل{[9960]} .
ثم عقب هذا الوعيد بوعد ثان في قوله : { ذي الطول } أي ذي التطول والمن بكل نعمة فلا خير إلا منه ، فترتب في الآية بين وعدين ، وهكذا رحمة الله تغلب غضبه .
قال القاضي أبو محمد : سمعت هذه النزعة من أبي رضي الله عنه ، وهي نحو من قول عمر رضي الله عنه : لن يغلب عسر يسرين يريد في قوله تعالى { فإن مع العسر يسراً ، إن مع العسر يسراً }{[9961]} .
و : { الطول } الإنعام ، ومنه : حليت بطائل{[9962]} . وحكى الثعلبي عن أهل الإشارة أنه تعالى : { غافر الذنب } فضلاً ، { وقابل التوب } وعداً ، و { شديد العقاب } عدلاً . وقال ابن عباس : { الطول } : السعة والغنى ، ثم صدع بالتوحيد في قوله : { لا إله إلا هو } . وبالبعث والحشر في قوله : { إليه المصير } .
أجريت على اسم الله ستة نعوت معارفُ ، بعضُها بحرف التعريف وبعضها بالإضافة إلى معرّف بالحرف .
ووصْفُ الله بوصفي { العَزِيز العَليم } [ غافر : 2 ] هنا تعريض بأن منكري تنزيل الكتاب منه مغلوبون مقهورون ، وبأن الله يعلم ما تكنّه نفوسهم فهو محاسبهم على ذلك ، ورَمْزٌ إلى أن القرآن كلام العزيز العليم فلا يقدر غير الله على مثله ولا يعلم غير الله أن يأتي بمثله .
وهذا وجه المخالفة بين هذه الآية ونظيرتها من أول سورة الزمر التي جاء فيها وصف { العَزِيز الحكيم } [ الزمر : 1 ] على أنه يتأتى في الوصف بالعلم ما تأتَّى في بعض احتمالات وصف { الحكيم في سورة الزمر . ويتأتى في الوصفين أيضاً ما تَأَتَّى هنالك من طريقي إعجاز القرآن . وفي ذكرهما رمز إلى أن الله أعلم حيث يجعل رسالَته وأنه لا يجاري أهواء الناس فيمن يرشحونه لذلك من كبرائهم { وقالوا لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] .
وفي إِتْباع الوصفين العظيمين بأوصاف { غافر الذنب وقَابِل التَّوْب شَديد العِقاب ذِي الطَّول } ترشيح لذلك التعريضضِ كأنه يقول : إن كنتم أذنبتم بالكفر بالقرآن فإن تدارك ذنبكم في مكنتكم لأن الله مقرَّر اتصافه بقبول التوبة وبغفران الذنب فكما غفر لمن تابوا من الأمم فقبل إيمانهم يغفر لمن يتوب منكم .
وتقديم { غافر } على { قابل التوب } مع أنه مرتب عليه في الحصول للاهتمام بتعجيل الإِعلام به لمن استعدّ لتدارك أمره فوصفُ { غافر الذنب وقابل التوب } تعريض بالترغيب ، وصِفتا { شَدِيد العقاب ذِي الطَّول } تعريض بالترهيب . والتوبُ : مصدر تاب ، والتوب بالمثناة والثوب بالمثلثة والأَوْب كلها بمعنى الرجوع ، أي الرجوع إلى أمر الله وامتثاله بعد الابتعاد عنه . وإنما عطفت صفة { وقَابِل التَّوْب } بالواو على صفة { غَافِر الذنب } ولم تُفْصَل كما فُصِلت صفتا { العليمِ } [ غافر : 2 ] { غافرِ الذنب } وصفة { شديد العقاب } إشارة إلى نكتة جليلة وهي إفادة أن يجمَع للمذنب التائب بين رحمتين بين أن يقبل توبته فيجعلها له طاعة ، وبين أن يمحو عنه بها الذنوب التي تاب منها وندِم على فعلها ، فيصبحَ كأنه لم يفعلها . وهذا فضل من الله .
وقوله : { شديد العقاب } إفضاء بصريح الوعيد على التكذيب بالقرآن لأن مجيئه بعد قوله : { تنزيلُ الكِتَاب مِن الله } [ غافر : 2 ] يفيد أنه المقصود من هذا الكلام بواسطة دلالة مستتبعات التراكيب .
والمراد { بغافر } و { قابل } أنه موصوف بمدلوليهما فيما مضى إذ ليس المراد أنه سيغفر وسيقبل ، فاسم الفاعل فيهما مقطوع عن مشابهة الفعل ، وهو غير عامل عمَل الفعل ، فلذلك يكتسِبُ التعريف بالإِضافة التي تزيد تقريبه من الأسماء ، وهو المحمل الذي لا يناسب غيرُهُ هنا .
و { التوب } صفة مشبَّهة مضافة لفاعلها ، وقد وقعت نعتاً لاسم الجلالة اعتداداً بأن التعريف الداخل عَلى فاعل الصفة يقوم مقام تعريف الصفة فلم يخالَف ما هو المعروف في الكلام من اتحاد النعت والمنعوت في التعريف واكتساب الصفة المشبهة التعريفَ بالإِضافة هو قول نحاة الكوفة طرداً لباب التعريف بالإضافة ، وسيبَويه يجوز اكتساب الصفات المضافةِ التعريفَ بالإِضافة إلاّ الصفة المشبهة لأن إضافتها إنما هي لفاعلها في المعنى لأن أصل ما تضاف إليه الصفة المشبهة أنه كان فاعلاً فكانت إضافتها إليه مجرد تخفيف لفظي والخطب سهل .
والطوْل يطلق على سعة الفضل وسعة المال ، ويطلق على مطلق القدرة كما في « القاموس » ، وظاهرُه الإِطلاقُ وأقره في « تاج العروس » وجعله من معنى هذه الآية ، ووقوعُه مع { شديد العقاب } ومزاوجتها بوصفي { غافر الذنب وقابل التوب } ليشير إلى التخويف بعذاب الآخرة من وصف { شديد العِقَاب } ، وبعذاب الدنيا من وصف { ذِي الطَّوْل } كقوله : { أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون } [ الزخرف : 42 ] ، وقوله : { قل إن اللَّه قادر على أن ينزل آية } [ الأنعام : 37 ] . وأعقب ذلك بما يدل على الوحدانية وبأن المصير ، أي المرجع إليه تسجيلاً لبطلان الشرك وإفساداً لإِحالتهم البعث .
فجملة { لا إله إلاَّ هو } في موضع الصفة ، وأتبع ذلك بجملة { إليه المَصِير } إنذاراً بالبعث والجزاء لأنه لما أجريت صفات { غَافِر الذَّنب وقَابِل التَّوبِ شَدِيد العِقَاب } أثير في الكلام الإِطماعُ والتخويفُ فكان حقيقاً بأن يشعروا بأن المصير إما إلى ثوابه وإما إلى عقابه فليزنوا أنفسهم ليضعوها حيث يلوح من حالهم .
وتقديم المجرور في { إليه المَصِيرُ } للاهتمام وللرعاية على الفاصلة بحرفين : حرف لين ، وحرف صحيح مثل : العليم ، والبلاد ، وعقاب .
وقد اشتملت فاتحة هذه السورة على ما يشير إلى جوامع أغراضها ويناسب الخوض في تكذيب المشركين بالقرآن ويشير إلى أنهم قد اعتزوا بقوتهم ومكانتهم وأن ذلك زائل عنهم كما زال عن أمم أشد منهم ، فاستوفت هذه الفاتحة كمال ما يطلب في فواتح الأغراض مما يسمى براعة المطلع أو براعة الاستهلال .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وفي قوله:"غافِرِ الذّنْبِ"، وجهان أحدهما: أن يكون بمعنى يغفر ذنوب العباد، وإذا أريد هذا المعنى، كان خفض "غافر "و"قابل "من وجهين، أحدهما من نية تكرير «من»، فيكون معنى الكلام حينئذ: تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم، من غافر الذنب، وقابل التوب... والآخر أن يكون أجرى في إعرابه، وهو نكرة على إعراب الأوّل كالنعت له، لوقوعه بينه وبين قوله: "ذِي الطّوْلِ" وهو معرفة... والآخر: أن يكون معناه: أن ذلك من صفته تعالى، إذ كان لم يزل لذنوب العباد غفورا من قبل نزول هذه الآية وفي حال نزولها، ومن بعد ذلك، فيكون عند ذلك معرفة صحيحة ونعتا على الصحة. وقال: "غافِرِ الذّنْبِ" ولم يقل الذنوب، لأنه أريد به الفعل، وأما قوله: "وَقابِلِ التّوْبِ" فإن التوب قد يكون جمع توبة...وقد يكون مصدر تاب يتوب توبا...
وقوله: "شَدِيد العقابِ" يقول تعالى ذكره: شديد عقابه لمن عاقبه من أهل العصيان له، فلا تتكلوا على سعة رحمته، ولكن كونوا منه على حذر، باجتناب معاصيه، وأداء فرائضه، فإنه كما أن لا يؤيس أهل الإجرام والآثام من عفوه، وقبول توبة من تاب منهم من جرمه، كذلك لا يؤمنهم من عقابه وانتقامه منهم بما استحلوا من محارمه، وركبوا من معاصيه.
وقوله: "ذِي الطّوْلِ" يقول: ذي الفضل والنعم المبسوطة على من شاء من خلقه يقال منه: إن فلانا لذو طَوْل على أصحابه، إذا كان ذا فضل عليهم...
وقوله: "لا إلَهَ إلاّ هوَ إلَيْهِ المَصِيرُ" يقول: لا معبود تصلح له العبادة إلا الله العزيز العليم، الذي صفته ما وصف جلّ ثناؤه، فلا تعبدوا شيئا سواه. "إلَيْهِ المَصِيرُ" يقول تعالى ذكره: إلى الله مصيركم ومرجعكم أيها الناس، فإياه فاعبدوا، فإنه لا ينفعكم شيء عبدتموه عند ذلك سواه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{غَافِرِ الذّنب} يخرّج على وجهين:
أحدهما: {غافر الذنب} أي متجاوز الذنب، وهو في حق المؤمنين خاصة.
والثاني: {غافر الذنب} أي ساتر الذنب، وهو يحتمل للكافر والمؤمن جميعا، فإنه يستر كثيرا على المؤمن والكافر جميعا في الدنيا، ولم يفضحهما، ويتجاوز عن المؤمن خاصة في الآخرة.
{وقابل التّوب} يخبر أنه يقبل التوبة، وإن عظُمت المعصية، وجلّت الذنوب، وكثرت.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كتابٌ مُعَنْوَنٌ بقبول توبته لِعِبادَه؛ عَلِمَ أنّ العاصيَ مُنكَسِرُ القلبِ فأزال عنه الانكسارَ بأن قدَّمَ نصيبه، فقدَّم اسمَه على قبول التوبة. فَسَكَّنَ نفوسَهم وقلوبَهم باسْمَيْنِ يُوجِبَان الرجاء؛ وهما قولُه: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ}. ثم عقبها بقوله: {شَدِيدِ الْعِقَابِ} ثم لم يرض حتى قال بعدئذٍ {ذِي الطَّولِ}...
{إلَيْهِ الْمَصِيرُ}: وإذا كان إليه المصير فقد طاب إليه المسير...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إن قلت: كيف اختلفت هذه الصفات تعريفاً وتنكيراً، والموصوف معرفة يقتضي أن يكون مثله معارف؟
قلت: {أمّا غافر الذنب وقابل التوب} فمعرفتان؛ لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين، وأنه يغفر الذنب ويقبل التوب الآن أو غداً حتى يكونا في تقدير الانفصال، فتكون إضافتهما غير حقيقية؛ وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه...
فإن قلت: ما بال الواو في قوله: (وقابل التوب)؟ قلت: فيها نكتة جليلة، وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين: بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات، وأن يجعلها محاءة للذنوب، كأن لم يذنب، كأنه قال: جامع المغفرة والقبول...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {شديد العقاب}: صفة، وقيل بدل، ثم عقب هذا الوعيد بوعد ثان في قوله: {ذي الطول} أي ذي التطول والمن بكل نعمة فلا خير إلا منه، فترتب في الآية بين وعدين، وهكذا رحمة الله تغلب غضبه... سمعت هذه النزعة من أبي رضي الله عنه، وهي نحو من قول عمر رضي الله عنه: لن يغلب عسر يسرين يريد في قوله تعالى {فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً}...
هذه الآية مشعرة بترجيح جانب الرحمة والفضل؛ لأنه تعالى لما أراد أن يصف نفسه بأنه شديد العقاب ذكر قبله أمرين كل واحد منهما يقتضي زوال العقاب، وهو كونه غافر الذنب وقابل التوب، وذكر بعده ما يدل على حصول الرحمة العظيمة، وهو قوله {ذي الطول}، فكونه شديد العقاب لما كان مسبوقا بتينك الصفتين وملحوقا بهذه الصفة، دل ذلك على أن جانب الرحمة والكرم أرجح...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ}: يغفر ما سلف من الذنب، ويقبل التوبة في المستقبل لمن تاب إليه وخَضَع لديه.
{شَدِيد الْعِقَابِ} أي: لمن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا، وعتا عن أوامر الله، وبغى [وقد اجتمع في هذه الآية الرجاء والخوف]. وهذه كقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ} [الحجر: 49، 50] يقرن هذين الوصفين كثيرًا في مواضع متعددة من القرآن؛ ليبقى العبد بين الرجاء والخوف...
{لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي: لا نظير له في جميع صفاته، فلا إله غيره، ولا رب سواه.
{إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي: المرجع والمآب، فيجازي كل عامل بعمله {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تقدم آخر تلك، أن كلمة العذاب حقت على الكافرين، فكان ذلك ربما أيأس من تلبس بكفر من الفلاح، وأوهمه أن انسلاخه من الكفر غير ممكن، وكان الغفران -وهو محو الذنب عيناً وأثراً- مترتباً على العلم به، والتمكن من الغفران وما رتب عليه من الأوصاف نتيجة العزة، دل عليهما مستعطفاً لكل عاص ومقصر بقوله:
{غافر الذنب} أي بتوبة وغير توبة إن شاء...
ولما أفهم تقديمه على التوبة أنه غير متوقف عليها فيما عدا الشرك، وكان المشركون يقولون: قد أشركنا وقتلنا وبالغنا في المعاصي، فلا يقبل رجوعنا فلا فائدة لنا في إسلامنا، رغبهم في التوبة بذكرها وبالعطف بالواو الدالة على تمكن الوصف إعلاماً بأنه سبحانه لا يتعاظمه ذنب فقال: {وقابل التوب} وجرد المصدر ليفهم أن أدنى ما يطلق عليه الاسم كاف وجعله اسم جنس كأخواته أنسب من جعله بينها جمعاً كتمر وتمرة.
ولما كان الاقتصار على الترغيب ربما أطمع عذر المتمادي من سطوته، فقال معرياً عن الواو لئلا يؤنس ما يشعر به كل من العطف والصفة المشبهة من التمكن، وذلك إعلاماً بخفي لطفه في أن رحمته سبقت غضبه، وأنه لو أبدى كل ما عنده من العزة؛ لأهلك كل من عليها كما أشير إليه بالمفاعلة في {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم} [النحل: 61]؛ فإن الفعل إذا كان بين اثنين كان أبلغ: {شديد العقاب} على أن تنكيره وإبهامه -كما قال الزمخشري- للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر، لزيادة الإنذار وهي أخفى من دلالة الواو لو أوتي بها.
ولما أتم الترغيب بالعفو والترهيب من الأخذ، أتبعه التشويق إلى الفضل، فقال معرياً عن الواو؛ لأن المقام لا يقتضي المبالغة، والحذف غير مخل بالغرض؛ فإن دليل العقل قائم على كمال صفاته سبحانه: {ذي الطول} أي سعة الفضل والإنعام والقدرة والغنى والسعة والمنة، لا يماثله في شيء من ذلك أحد ولا يدانيه، ثم علل تمكنه في كل شيء من ذلك بوحدانيته فقال: {لا إله إلا هو}.
ولما أنتج هذا كله تفرده، أنتج قطعاً قوله: {إليه} أي وحده {المصير} أي في المعنى في الدنيا، وفي الحس والمعنى في الآخرة، ليظهر كل من هذه الصفات ظهوراً تاماً، بحيث لا يبقى في شيء من ذلك لبس؛ فإنه لا يصح في الحكمة أن يبغي أحد على العباد ثم يموت في عزة من غير نقمة فيضيع ذلك المبغي عليه؛ لأن هذا أمر لا يرضى أقل الناس أن يكون بين عبيده...
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
... ولما أتم الترغيب بالعفو والترهيب بالعقوبة أتبعه التشويق إلى الفضل فقال تعالى {ذي الطول} أي: سعة الفضل والإنعام والقدرة والغنى والسعة والمنة فلا يماثله في شيء من ذلك أحد ولا يدانيه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فلما قرر ما قرر من كماله وكان ذلك موجبًا لأن يكون وحده، المألوه الذي تخلص له الأعمال قال: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ووجه المناسبة بذكر نزول القرآن من الله الموصوف بهذه الأوصاف أن هذه الأوصاف مستلزمة لجميع ما يشتمل عليه القرآن، من المعاني. فإن القرآن: إما إخبار عن أسماء الله، وصفاته، وأفعاله، وهذه أسماء، وأوصاف، وأفعال. وإما إخبار عن الغيوب الماضية والمستقبلة، فهي من تعليم العليم لعباده. وإما إخبار عن نعمه العظيمة، وآلائه الجسيمة، وما يوصل إلى ذلك، من الأوامر، فذلك يدل عليه قوله: {ذِي الطَّوْلِ} وإما إخبار عن نقمه الشديدة، وعما يوجبها ويقتضيها من المعاصي، فذلك يدل عليه قوله: {شَدِيدِ الْعِقَابِ} وإما دعوة للمذنبين إلى التوبة والإنابة، والاستغفار، فذلك يدل عليه قوله: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} وإما إخبار بأنه وحده المألوه المعبود، وإقامة الأدلة العقلية والنقلية على ذلك، والحث عليه، والنهي عن عبادة ما سوى الله، وإقامة الأدلة العقلية والنقلية على فسادها والترهيب منها، فذلك يدل عليه قوله تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وإما إخبار عن حكمه الجزائي العدل، وثواب المحسنين، وعقاب العاصين، فهذا يدل عليه قوله: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} فهذا جميع ما يشتمل عليه القرآن من المطالب العاليات...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هكذا تتضح صلته بعباده وصلة عباده به. تتضح في مشاعرهم وتصوراتهم وإدراكهم، فيعرفون كيف يعاملونه في يقظة وفي حساسية؛ وفي إدراك لما يغضبه وما يرضيه. وقد كان أصحاب العقائد الأسطورية يعيشون مع آلهتهم في حيرة، لا يعرفون عنها شيئاً مضبوطاً؛ ولا يتبينون ماذا يسخطها وماذا يرضيها،
فجاء الإسلام واضحاً ناصعاً، يصل الناس بإلههم الحق، ويعرفهم بصفاته، ويبصرهم بمشيئته ويعلمهم كيف يتقربون إليه، وكيف يرجون رحمته، ويخشون عذابه، على طريق واضح قاصد مستقيم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أجريت على اسم الله ستة نعوت معارفُ، بعضُها بحرف التعريف وبعضها بالإضافة إلى معرّف بالحرف. ووصْفُ الله بوصفي {العَزِيز العَليم} [غافر: 2] هنا تعريض بأن منكري تنزيل الكتاب منه مغلوبون مقهورون، وبأن الله يعلم ما تكنّه نفوسهم فهو محاسبهم على ذلك، ورَمْزٌ إلى أن القرآن كلام العزيز العليم فلا يقدر غير الله على مثله ولا يعلم غير الله أن يأتي بمثله.
وهذا وجه المخالفة بين هذه الآية ونظيرتها من أول سورة الزمر التي جاء فيها وصف {العَزِيز الحكيم} [الزمر: 1] على أنه يتأتى في الوصف بالعلم ما تأتَّى في بعض احتمالات وصف {الحكيم في سورة الزمر. ويتأتى في الوصفين أيضاً ما تَأَتَّى هنالك من طريقي إعجاز القرآن. وفي ذكرهما رمز إلى أن الله أعلم حيث يجعل رسالَته، وأنه لا يجاري أهواء الناس فيمن يرشحونه لذلك من كبرائهم.
{وقالوا لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31]. وفي إِتْباع الوصفين العظيمين بأوصاف {غافر الذنب وقَابِل التَّوْب شَديد العِقاب ذِي الطَّول} ترشيح لذلك التعريضِ كأنه يقول: إن كنتم أذنبتم بالكفر بالقرآن فإن تدارك ذنبكم في مكنتكم؛ لأن الله مقرَّر اتصافه بقبول التوبة وبغفران الذنب، فكما غفر لمن تابوا من الأمم فقبل إيمانهم يغفر لمن يتوب منكم.
وتقديم {غافر} على {قابل التوب} مع أنه مرتب عليه في الحصول للاهتمام بتعجيل الإِعلام به لمن استعدّ لتدارك أمره فوصفُ {غافر الذنب وقابل التوب} تعريض بالترغيب، وصِفتا {شَدِيد العقاب ذِي الطَّول} تعريض بالترهيب.
والتوبُ: مصدر تاب، والتوب بالمثناة والثوب بالمثلثة والأَوْب كلها بمعنى الرجوع، أي الرجوع إلى أمر الله وامتثاله بعد الابتعاد عنه.
{شديد العقاب} إفضاء بصريح الوعيد على التكذيب بالقرآن لأن مجيئه بعد قوله {تنزيلُ الكِتَاب مِن الله} يفيد أنه المقصود من هذا الكلام بواسطة دلالة مستتبعات التراكيب.
والمراد {بغافر} و {قابل} أنه موصوف بمدلوليهما فيما مضى؛ إذ ليس المراد أنه سيغفر وسيقبل، فاسم الفاعل فيهما مقطوع عن مشابهة الفعل، وهو غير عامل عمَل الفعل، فلذلك يكتسِبُ التعريف بالإِضافة التي تزيد تقريبه من الأسماء، وهو المحمل الذي لا يناسب غيرُهُ هنا...
والطوْل يطلق على سعة الفضل وسعة المال، ويطلق على مطلق القدرة كما في « القاموس»، وظاهرُه الإِطلاقُ، وأقره في « تاج العروس» وجعله من معنى هذه الآية ووقوعُه مع {شديد العقاب} ومزاوجتها بوصفي {غافر الذنب وقابل التوب} ليشير إلى التخويف بعذاب الآخرة من وصف {شديد العِقَاب}، وبعذاب الدنيا من وصف {ذِي الطَّوْل} كقوله: {أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون} [الزخرف: 42]، وأعقب ذلك بما يدل على الوحدانية وبأن المصير، أي المرجع إليه تسجيلاً لبطلان الشرك وإفساداً لإِحالتهم البعث؛ فجملة {لا إله إلاَّ هو} في موضع الصفة، وأتبع ذلك بجملة {إليه المَصِير} إنذاراً بالبعث والجزاء لأنه لما أجريت صفات {غَافِر الذَّنب وقَابِل التَّوبِ شَدِيد العِقَاب} أثير في الكلام الإِطماعُ والتخويفُ فكان حقيقاً بأن يشعروا بأن المصير إما إلى ثوابه وإما إلى عقابه فليزنوا أنفسهم ليضعوها حيث يلوح من حالهم، وتقديم المجرور في {إليه المَصِيرُ} للاهتمام وللرعاية على الفاصلة بحرفين: حرف لين، وحرف صحيح مثل: العليم.
وقد اشتملت فاتحة هذه السورة على ما يشير إلى جوامع أغراضها ويناسب الخوض في تكذيب المشركين بالقرآن ويشير إلى أنهم قد اعتزوا بقوتهم ومكانتهم وأن ذلك زائل عنهم كما زال عن أمم أشد منهم، فاستوفت هذه الفاتحة كمال ما يطلب في فواتح الأغراض مما يسمى براعة المطلع أو براعة الاستهلال...