الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{غَافِرِ ٱلذَّنۢبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوۡبِ شَدِيدِ ٱلۡعِقَابِ ذِي ٱلطَّوۡلِۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ إِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (3)

التوب والثوب والأوب : أخوات في معنى الرجوع والطول : الفضل والزيادة . يقال : لفلان على فلان طول ، والإفضال . يقال : طال عليه وتطوّل ، إذا تفضل .

فإن قلت : كيف اختلفت هذه الصفات تعريفاً وتنكيراً ، والموصوف معرفة يقتضي أن يكون مثله معارف ؟ قلت : { أمّا غافر الذنب وقابل التوب } فمعرفتان ؛ لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين ، وأنه يغفر الذنب ويقبل التوب الآن . أو غداً حتى يكونا في تقدير الانفصال ، فتكون إضافتهما غير حقيقية ؛ وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه ، فكان حكمهما حكم إله الخلق ورب العرش . وأما شديد العقاب فأمره مشكل ، لأنه في تقدير : شديد عقابه لا ينفك من هذا التقدير ، وقد جعله الزجاج بدلاً . وفي كونه بدلاً وحده بين الصفات نبوّ ظاهر ، والوجه أن يقال : لما صودف بين هؤلاء المعارف هذه النكرة الواحدة ، فقد آذنت بأنّ كلها أبدال غير أوصاف ، ومثال ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على مستفعلن ، فهي محكوم عليها بأنها من بحر الرجز ، فإن وقع فيها جزء واحد على متفاعلن كانت من الكامل ولقائل أن يقول : هي صفات ، وإنما الألف واللام من شديد العقاب ليزاوج ما قبله وما بعده لفظاً ، فقد غيروا كثيراً من كلامهم عن قوانينه لأجل الازدواج ، حتى قالوا : ما يعرف سحادليه ، من عنادليه ، فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع ؛ على أنّ الخليل قال في قولهم ما يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذلك ، وما يحسن بالرجل خير منك أن يفعل كذا أنه على نية الألف واللام كما كان الجماء الغفير على نية طرح الألف واللام ، ومما سهل ذلك الأمن من اللبس وجهالة الموصوف . ويجوز أن يقال : قد تعمد تنكيره ، وإبهامه للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر لزيادة الإنذار . ويجوز أن يقال : هذه النكتة هي الداعية إلى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريقة الإبدال .

فإن قلت : ما بال الواو في قوله : ( وقابل التوب ) ؟ قلت : فيها نكتة جليلة ، وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين : بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات . وأن يجعلها محاءة للذنوب ، كأن لم يذنب ، كأنه قال : جامع المغفرة والقبول . وروى أنّ عمر رضي الله عنه افتقد رجلاً ذا بأس شديد من أهل الشام ، فقيل له : تتابع في هذا الشراب ، فقال عمر لكاتبه : اكتب ، من عمر إلى فلان : سلام عليك ، وأنا أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو : بسم الله الرحمن الرحيم : حم إلى قوله إليه المصير . وختم الكتاب وقال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحياً ، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة . فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول : قد وعدني الله أن يغفر لي ، وحذرني عقابه ، فلم يبرح يردّدها حتى بكى ثم نزع فأحسن النزوع وحسنت توبته ، فلما بلغ عمر أمره قال : هكذا فاصنعوا ، إذا رأيتم أخاكم قد زلّ زلّة فسدّدوه ووقفوه ، وادعوا له الله أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعواناً للشياطين عليه .