الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{غَافِرِ ٱلذَّنۢبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوۡبِ شَدِيدِ ٱلۡعِقَابِ ذِي ٱلطَّوۡلِۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ إِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (3)

قوله : { غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } في هذه الأوصافِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها كلَّها صفاتٌ للجلالة كالعزيز العليم . وإنما جازَ وَصْفُ المعرفةِ بهذه وإنْ كانَتْ إضافتُها لفظيةً ؛ لأنه يجوزُ أَنْ تُجْعَلَ إضافتُها معنويةً فتتعرَّفَ بالإِضافةِ . نَصَّ سيبويه على أنَّ كلَّ ما إضافتُه غيرُ مَحْضةٍ جاز أن يُجْعَلَ مَحْضةً ، وتُوصفَ به المعارفُ ، إلاَّ الصفةَ المشبهةَ ، ولم يَسْتَثْنِ غيرُه شيئاً وهم الكوفيون . يقولون في نحو : " حَسَنُ الوجهِ " إنه يجوزُ أن تصيرَ إضافتُه محضةً . وعلى هذا فقولُه " شديد العقابِ " من بابِ الصفةِ المشبهةِ فكيف أجزْتَ جَعْلَه صفةً للمعرفة وهو لا يَتَعَرَّفُ بالإِضافة ؟

والجواب : إمَّا بالتزامِ مَذْهَبِ الكوفيين : وهو أنَّ الصفةَ المشبهةَ يجوزُ أَنْ تَتَمَحَّضَ إضافتُها أيضاً ، فتكونَ معرفةً ، وإمَّا بأنَّ شديداً بمعنىُشَدِّد ك أَذِيْن بمعنى مُؤَذِّن فتتمحَّضُ إضافتُه .

الثاني : أَنْ يكونَ الكلُّ أبدالاً لأنَّ إضافتَها غيرُ محضةٍ ، قاله الزمخشري . إلاَّ أنَّ الإِبدال بالمشتقِّ قليلٌ جداً ، إلاَّ أن يُهْجَرَ فيها جانبُ الوصفية .

الثالث : أَنْ يكونَ " غافر " و " قابل " نعتَيْن و " شديد " بدلاً ، لِما تقدَّم : مِنْ أنَّ الصفةَ المشبهةَ لا تتعرَّفُ بالإِضافة ، قاله الزجَّاج . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قال : " جَعْلُ الزجَّاجِ " شديد العقاب " وحدَه بدلاً من الصفاتِ ، فيه نُبُوٌّ ظاهرٌ ، والوجهُ أن يُقال : لَمَّا صُودِفَ بين هذه المعارفِ هذه النكرةُ الواحدةُ فقد آذنَتْ بأنَّ كلَّها أبدالٌ غيرُ أوصافٍ . ومثالُ ذلك قصيدةٌ جاءت تفاعيلُها كلُها على مستفعلن فهي محكومٌ عليها أنها من الرَجَز ، وإنْ وقع فيها جزءٌ واحدٌ على مَتَفاعلن كانت من الكامِل " . وقد ناقشه الشيخ فقال : " ولا نُبُوَّ في ذلك لأنَّ الجَرْيَ على القواعِدِ التي قد استقرَّتْ وصَحَّتْ هو الأصلُ وقوله : " فقد آذنَتْ بأنَّ كلّها أبدالٌ " تركيبٌ غيرُ عربيٍ ؛ لأنه جَعَل " فقد آذنَتْ " جوابَ لَمَّا ، وليس من كلامهم " لَمَّا قام زيدٌ فقد قام عمروٌ " . وقولُه : بأنَّ كلَّها أبدْالٌ فيه تكريرٌ للأبدالِ . أمَّا بَدَلُ البَداءِ عند مَنْ أثبتَه فقد تكرَّرَتْ فيه الأبدالُ . وأمَّا بدلُ كلٍ مِنْ كل وبعضٍ مِنْ كل وبدلُ اشتمالٍ فلا نصَّ عن أحد من النحويين أَعْرِفُه في جوازِ التكرارِ فيها أو مَنْعِه . إلاَّ أنَّ في كلامِ بعضِ أصحابِنا ما يَدُلُّ على أنَّ البدلَ لا يُكَرَّرُ ، وذلك في قول الشاعر :

3911 فإلى ابنِ أُمِّ أُناسٍ أَرْحَلُ ناقتي *** عمْروٍ فتُبْلِغُ حاجتي أو تُزْحِفُ

مَلِكٍ إذا نَزَلَ الوفودُ ببابِه *** عَرَفُوا موارِدَ مُزْبِدٍ لا يُنْزَفُ

قال : " فَ " مَلكٍ " بدلٌ مِنْ " عمرو " بدلُ نكرةٍ مِنْ معرفة قال : " فإنْ قلتَ : لِمَ لا يكونُ بدلاً من " ابن أمِّ أناسٍ ؟ " قلت : لأنَّه أبدلَ منه عَمْراً ، فلا يجوزُ أَنْ يُبْدَلَ منه مرة أخرى لأنَّه قد طُرِحَ " انتهى .

قال الشيخ : " فَدَلَّ هذا على أنَّ البدلَ لا يتكَرَّرُ ويَتَّحد المبدلُ منه ، ودَلَّ على أنَّ البدلَ من البدلِ جائزٌ " . قلت : وقد تقدَّم له هذا البحثُ آخرَ الفاتحةِ عند قوله : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } [ الفاتحة : 7 ] فعليك بمراجعته قال : " وقولُه تفاعيلُها هو جمعُ تِفْعال أو تَفْعُول أو تُفْعُول أو تَفْعيل وليس شيءٌ منها معدوداً من أجزاء العَروض فإنَّ أجزاءَه منحصرةٌ ليس فيها شيءٌ من هذه الأوزانِ ، فصوابُه أَنْ يقولَ : جاءت أجزاؤُها كلُّها على مُستفعلن " .

وقال الزمخشري أيضاً : " ولقائل أَنْ يقولَ : هي صفاتٌ وإنما حُذِفت الألفُ واللامُ مِنْ " شديد " ليزاوجَ ما قبلَه وما بعدَه لفظاً فقد غَيَّروا كثيراً مِنْ كلامِهم عن قوانينِه لأجلِ الازدواجِ ، فقالوا : " ما يعرف سحادليه مِنْ عبادليه " فَثَنُّوا ما هو وِتْرٌ لأجلِ ما هو شَفْعٌ . على أن الخليلَ قال في قولهم : " ما يَحْسُنُ بالرجلِ مثلِك أَنْ يَفْعل ذلك " و " ما يَحْسُن بالرجلِ خيرٍ منك " إنه على نيةِ الألفِ واللامِ ، كما كان " الجَمَّاء الغفير " على نيةِ طرحِ الألفِ واللامِ . ومما سهَّل ذلك الأمنُ من اللَّبْسِ وجَهالَةُ الموصوفِ " . قال الشيخُ : " ولا ضرورةَ إلى حَذْفِ أل مِنْ " شديد العقاب " وتشبيهُه بنادرٍ مُغَيَّرٍ وهو تثنيةُ الوِتْر لأجلِ الشَّفْعِ ، فيُنَزَّه كتابُ اللَّهِ عن ذلك " . قلت : أمَّا الازدواجُ - وهو المشاكلة - من حيث هو فإنه واقعٌ في القرآن ، مضى لك منه مواضعُ .

وقال الزمخشري أيضاً : " ويجوزُ أَنْ يقالَ : قد تُعُمِّد تنكيرُه وإبهامُه للدلالةِ على فَرْطِ الشِّدَّةِ وعلى ما لا شيءَ أَدْهَى منه وأَمَرُّ لزيادةِ الإِنذار . ويجوز أَنْ يُقالَ : هذه النكتةُ هي الداعيةُ إلى اختيار البدلِ على الوصفِ ، إذا سُلِكَتْ طريقةُ الإِبدالِ " انتهى . وقال مكي : " يجوزُ في " غافر " و " قابل " البدلُ على أنهما نكرتان لاستقبالِهما ، والوصفُ على أنهما معرفتان لمُضِيِّهما " .

وقال فخر الدين الرازي : " لا نِزاعَ في جَعْل غافر وقابِل صفةً ، وإنما كانا كذلك لأنهما يُفيدان معنى الدَّوامِ والاستمرارِ ، فكذلك " شديدُ العقابِ " يُفيدُ ذلك ؛ لأنَّ صفاتِه مُنَزَّهةٌ عن الحدوث والتجدُّدِ فمعناه كونُه بحيث شديدٌ عقابُه . وهذا المعنى حاصلٌ أبداً لا يُوْصَف/ بأنَّه حَصَلَ بعد أَنْ لم يكنْ " .

قال الشيخ : " وهذا كلامُ مَنْ لم يَقِفْ على علمِ النحوِ ولا نظرَ فيه ويَلْزَمُه أَنْ يكونَ { حَكِيمٍ عَلِيمٍ } [ النمل : 6 ] و { مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } [ القمر : 55 ] معارفَ لتنزيهِ صفاتِه عن الحُدوثِ والتجدُّدِ ، ولأنها صفاتٌ لم تَحْصُلْ بعد أَنْ لم تكنْ ، ويكونُ تعريفُ صفاتِه بأل وتنكيرُها سواءً ، وهذا لا يقولُه مُبْتدئ في علم النحو ، بَلْهَ أَنْ يُصَنِّفَ فيه ويُقْدِمَ على تفسيرِ كتابِ اللَّهِ تعالى " انتهى .

وقد سُرِدَتْ هذه الصفاتُ كلُّها مِنْ غير عاطفٍ إلاَّ " قابِل التوب " قال بعضهم : " وإنما عُطِفَ لاجتماعِهما وتلازُمِهما وعَدَمِ انفكاكِ أحدِهما عن الآخر ، وقَطَعَ " شديدِ " عنهما فلم يُعْطَفْ لانفرادِه " . قال الشيخ : " وفيه نَزْعَةٌ اعتزاليَّةٌ . ومَذْهَبُ أهلِ السنة جوازُ الغفران للعاصي وإن لم يَتُبْ إلاَّ الشركَ " . قلت : وما أبعده عن نزعةِ الاعتزال . ثم أقول : التلازمُ لازمٌ مِنْ جهةِ أنه تعالى متى قَبِل التوبة فقد غَفَرَ الذنب وهو كافٍ في التلازم .

وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : ما بالُ الواوِ في قولِه : " وقابلِ التَّوْبِ ؟ " قلت : فيها نُكْتةٌ جليلةٌ : وهي إفادةُ الجمعِ للمذنب التائبِ بين رحمتين : بين أَنْ يَقْبَلَ توبتَه فيكتبَها طاعةً من الطاعات وأنْ يجعلَها مَحَّاءةً للذنوب كمَنْ لم يُذْنِبْ كأنه قال : جامع المغفرةِ والقَبول " انتهى .

وبعد هذا الكلام الأنيق وإبرازِ هذه المعاني الحسنةِ . قال الشيخ : " وما أكثرَ تبجُّجَ هذا الرجلِ وشَقْشَقَتَه والذي أفاد أن الواوَ للجمعِ ، وهذا معروفٌ من ظاهرِ عَلِمِ النحوِ " . قلت : وقد أنشدني بَعضُهم :

3912 وكم مِنْ عائبٍ قَوْلاً صحيحاً *** وآفَتُه من الفَهْمِ السَّقيمِ

وقال آخر :

3913 قد تُنْكِرُ العينُ ضوءَ الشمسِ مِنْ رَمَدٍ *** ويُنكِرُ الفَمُ طَعْمَ الماءِ مِنْ سَقَمِ

والتَّوْبُ : يُحتمل أَنْ يكونَ اسماً مفرداً مُراداً به الجنسُ كالذَّنْب ، وأَنْ يكونَ جمعاً لتَوْبة كتَمْرٍ وتَمْرَة . و " ذي الطَّوْلِ " نعتٌ أو بدلٌ كما تقدَّمَ . والطَّوْلُ : سَعَةُ الفَضْلِ .

و { لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } يجوزُ أَنْ يكون مستأنفاً ، وأَنْ يكونَ حالاً ، وهي حالٌ لازمةٌ ، وقال أبو البقاء : " يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً " ، وعلى هذا ظاهرُه فاسدٌ ؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونُ صفةً للمعارفِ . ويمكنُ أَنْ يريدَ أنه صفةٌ ل " شديد العقاب " لأنَّه لم يتعرَّفْ عنده بالإِضافةِ . والقولُ في " إليه المصيرُ " كالقولِ في الجملةِ قبله ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الجملةِ قبلَه .