السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{غَافِرِ ٱلذَّنۢبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوۡبِ شَدِيدِ ٱلۡعِقَابِ ذِي ٱلطَّوۡلِۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ إِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (3)

{ غافر الذنب } أي : بتوبة وغير توبة للمؤمن إن شاء وأما الكافر فلا بد من توبته بالإسلام { وقابل التوب } أي : ممن عصاه وهو يحتمل أن يكون اسماً مفرداً مراداً به الجنس كالذنب وأن يكون جمعاً لتوبة كتمر وتمرة { شديد العقاب } أي : على الكافر ، فإن قيل : إن شديد صفة مشبهة فإضافته غير محضة بكل حال بخلاف اسم الفاعل إذا لم يرد به الحال ولا الاستقبال كغافر الذنب وقابل التوب فإن إضافته محضة تفيد التعريف ، قال سيبويه : كل ما إضافته غير محضة يجوز أن تجعل محضة وتوصف به المعارف إلا الصفة المشبهة ولم يستثن الكوفيون شيئاً ؟ أجيب : بأن شديد معناه مشدد كأذين بمعنى مأذون فتتمحض إضافته أو الشديد عقابه ، فحذف اللام للازدواج مع أمن الالتباس أو بالتزام مذهب الكوفيين هو أن الصفة المشبهة يجوز أن تتمحض إضافتها أيضاً فتكون معرفة يقولون في نحو حسن الوجه يجوز أن تصير إضافته محضة وقال الرازي : لا نزاع في جعل غافر وقابل صفتين وإنما كان كذلك لأنهما يفيدان معنى الدوام والاستمرار فكذلك شديد العقاب لأن صفاته منزهة عن الحدوث والتجدد فمعناه كونه بحيث يقال شديد عقابه وهذا المعنى حاصل أبداً ، فلا يوصف بأنه حصل بعد أن لم يكن قال أبو حيان : وهذا كلام من لم يقف على علم النحو ولا نظر فيه ويلزمه أن يكون : { حكيم عليم } و{ مليك مقتدر } معارف لتنزيه صفاته عن الحدوث والتجدد ، ولأنها صفات لم تحصل بعد إن لم تكن ويكون تعريف صفاته بأل وتنكيرها سواء وهذا لا يقوله مبتدئ في علم النحو فكيف من يصنف فيه ويقدم على تفسير كتاب الله تعالى .

قال الزمخشري : فإن قلت ما بال الواو في قوله : { وقابل التوب } قلت : فيها نكتة جليلة وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات ، وأن يجعلها محاءة للذنوب كأن لم يذنب ، كأنه قال : جامع المغفرة والقبول . قال ابن عادل : وبعد هذا الكلام الأنيق وإبراز هذه المعاني الحسنة ، قال أبو حيان : وما أكثر تبجح هذا الرجل وشقشقته والذي أفادته الواو الجمع وهذا معلوم من ظاهر علم النحو . وأنشد بعضهم :

وكم من عائب قولاً صحيحاً *** وآفته من الفهم السقيم

وقال آخر :

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد *** وينكر الفم طعم الماء من سقم

ولما أتم الترغيب بالعفو والترهيب بالعقوبة أتبعه التشويق إلى الفضل فقال تعالى { ذي الطول } أي : سعة الفضل والإنعام والقدرة والغنى والسعة والمنة فلا يماثله في شيء من ذلك أحد ولا يدانيه ، قال ابن عباس : غافر الذنب لمن قال لا إله إلا الله وقابل التوب ممن قال لا إله إلا الله شديد العقاب لمن لا يقول : لا إله إلا الله ذي الغنى عمن لا يقول لا إله إلا الله ، وقال الحسن : ذو الفضل ، وقال قتادة : ذو النعم ثم علل تمكنه من كل شيء من ذلك بوحدانيته فقال تعالى : { لا إله إلا هو إليه } وحده { المصير } أي : المرجع فلو جعل معه إلهاً آخر يشاركه في صفة الرحمة والفضل لما كانت الحاجة إلى عبوديته شديدة فكان الترغيب والترهيب الكاملان حاصلين بسبب هذا التوحيد وقوله تعالى : { إليه المصير } مما يقوي الرغبة في الإقرار بالعبودية له ، روي أن عمر رضي الله تعالى عنه افتقد رجلاً ذا بأس شديد من أهل الشام ، فقيل له : تتابع في هذا الشراب ، فقال عمر لكاتبه : اكتب من عمر إلى فلان ، سلام عليك وأنا أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو بسم الله الرحمان الرحيم حم إلى قوله تعالى : { إليه المصير } وختم الكتاب وقال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحياً ، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول قد وعدني الله أن يغفر لي وحذرني عقابه ، فلم يبرح يرددها حتى بكى ثم نزع وأحسن النزوع وحسنت توبته ، فلما بلغ عمر أمره قال : هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاكم قد زل زلة فسددوه وقفوه وادعوا له الله تعالى أن يتوب عليه ولا تكونوا أعواناً للشيطان عليه .