البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{غَافِرِ ٱلذَّنۢبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوۡبِ شَدِيدِ ٱلۡعِقَابِ ذِي ٱلطَّوۡلِۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ إِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (3)

وقال الزجاج : غافر وقابل صفتان ، وشديد بدل . انتهى .

وإنما جعل غافر وقابل صفتين وإن كانا اسمي فاعل ، لأنه فهم من ذلك أنه لا يراد بهما التجدد ولا التقييد بزمان ، بل أريد بهما الاستمرار والثبوت ؛ وإضافتهما محضة فيعرف ، وصح أن يوصف بهما المعرفة ، وإنما أعرب { شديد العقاب } بدلاً ، لأنه من باب الصفة المشبهة ، ولا يتعرف بالإضافة إلى المعرفة ، وقد نص سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة ، إذا أضيف إلى معرفة ، جاز أن ينوي بإضافته التمحض ، فيتعرف وينعت به المعرفة ، إلا ما كان من باب الصفة المشبهة ، فإنه لا يتعرف .

وحكى صاحب المقنع عن الكوفيين أنهم أجازوا في حسن الوجه وما أشبهه أن يكون صفة للمعرفة ، قال : وذلك خطأ عند البصريين ، لأن حسن الوجه نكرة ، وإذا أردت تعريفه أدخلت فيه أل .

وقال أبو الحجاج الأعلم : لا يبعد أن يقصد بحسن الوجه التعريف ، لأن الإضافة لا تمنع منه .

انتهى ، وهذا جنوح إلى مذهب الكوفيين .

وقد جعل بعضهم { غافر الذنب } وما بعده أبدالاً ، اعتباراً بأنها لا تتعرف بالإضافة ، كأنه لاحظ في غافر وقابل زمان الاستقبال .

وقيل : غافر وقابل لا يراد بهما المضي ، فهما يتعرفان بالإضافة ويكونان صفتين ، أي إن قضاءه بالغفران وقبول التوب هو في الدنيا .

قال الزمخشري : جعل الزجاج { شديد العقاب } وحده بدلاً بين الصفات فيه نبو ظاهر ، والوجه أن يقال : لنا صودف بين هذه المعارف هذه النكرة الواحدة ، فقد آذنت بأن كلها أبدال غير أوصاف ، ومثال ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على مستفعلن ، فهي محكوم عليها أنها من الرجز ، فإن وقع فيها جزء واحد على متفاعلن كانت من الكامل ، ولا نبو في ذلك ، لأن الجري على القواعد التي قد استقرت وصحت هو الأصل .

وقوله : فقد آذنت بأن كلها أبدال تركيب غير عربي ، لأنه جعل فقد أذنت جواب لما ، وليس من كلامهم : لما قام زيد فقد قام عمرو ، وقوله : بأن كلها أبدال فيه تكرار الأبدال ، أما بدل البدل عند من أثبته فقد تكررت فيه الأبدال ، وأما بدل كل من كل ، وبدل بعض من كل ، وبدل اشتمال ، فلا نص عن أحد من النحويين أعرفه في جواز التكرار فيها ، أو منعه ، إلا أن في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن البدل لا يكرر ، وذلك في قول الشاعر :

فإلى ابن أم أناس ارحل ناقتي *** عمرو فتبلغ ناقتي أو تزحف

ملك إذا نزل الوفود ببابه *** عرفوا موارد مزنه لا تنزف

قال : فملك بدل من عمرو ، بدل نكرة من معرفة ، قال : فإن قلت : لم لا يكون بدلاً من ابن أم أناس ؟ قلت : لأنه قد أبدل منه عمرو ، فلا يجوز أن يبدل منه مرة أخرى ، لأنه قد طرح . انتهى .

فدل هذا على أن البدل لا يتكرر ، ويتحد المبدل منه ؛ ودل على أن البدل من البدل جائز ، وقوله : جاءت تفاعيلها ، هو جمع تفعال أو تفعول أو تفعول أو تفعيل ، وليس شيء من هذه الأوزان يكون معدولاً في آخر العروض ، بل أجزاؤها منحصرة ، ليس منها شيء من هذه الأوزان ، فصوابه أن يقول : جاءت أجزاؤها كلها على مستفعلين .

وقال سيبويه أيضاً : ولقائل أن يقول هي صفات ، وإنما حذفت الألف واللام من شديد العقاب ليزاوج ما قبله وما بعده لفظاً ، فقد غيروا كثيراً من كلامهم عن قوانينه لأجل الازدواج ، حتى قالوا : ما يعرف سحادليه من عنادليه ، فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع .

على أن الخليل قال في قولهم : لا يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذلك ، ويحسن بالرجل خير منك أن يفعل ، على نية الألف واللام ، كما كان الجماء الغفير على نية طرح الألف واللام .

ومما يسهل ذلك أمن اللبس وجهالة الموصوف . انتهى .

ولا ضرورة إلى اعتقاد حذف الألف واللام من شديد العقاب ، وترك ما هو أصل في النحو ، وتشبيه بنادر مغير عن القوانين من تثنية الوتر للشفع ، وينزه كتاب الله عن ذلك كله .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يقال قد تعمد تنكيره وإبهامه للدلالة على فرط الشدة ، وعلى ما لا شيء أدهى منه ، وأمر لزيادة الإنذار .

ويجوز أن يقال هذه النكتة هي الداعية إلى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريقة الإبدال . انتهى .

وأجاز مكي في غافر وقابل البدل حملاً على أنهما نكرتان لاستقبالهما ، والوصف حملاً على أنهما معرفتان لمضيهما .

وقال أبو عبد الله الرازي : لا تزاع في جعل غافر وقابل صفة ، وإنما كانا كذلك ، لأنهما يفيدان معنى الدوام والاستمرار ، وكذلك شديد العقاب تفيد ذلك ، لأن صفاته منزهة عن الحدوث والتجدد ، فمعناه : كونه بحيث شديد عقابه ، وهذا المعنى حاصل أبداً ، لا يوصف بأنه حصل بعد أن لم يكن . انتهى .

وهذا كلام من لم يقف على علم النحو ، ولا نظر فيه ، ويلزمه أن يكون حكيم عليم من قوله : { من لدن حكيم عليم } ومليك مقتدر من قوله : { عند مليك مقتدر } معارف لتنزيه صفاته عن الحدوث والتجدد ، ولأنها صفات لم تحصل بعد أن لم تكن ، ويكون تعريف صفات بأل وتنكيرها سواء ، وهذا لا يذهب إليه مبتدىء في علم النحو ، فضلاً عمن صنف فيه ، وقدم على تفسير كتاب الله .

وتلخص من هذا الكلام المطوّل أن غافر الذنب وما عطف عليه وشديد العقاب أوصاف ، لأن المعطوف على الوصف وصف ، والجميع معارف على ما تقرر أو أبدال ، لأن المعطوف على البدل بدل لتنكير الجميع .

أو غافر وقابل وصفان ، وشديد بدل لمعرفة ذينك وتنكير شديد .

وقال الزمخشري : فإن قلت : ما بال الواو في قوله : { وقابل التوب } ؟ قلت : فيها نكتة جليلة ، وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين ، بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات ، وأن يجعلها محاءة للذنوب ، كأن لم يذنب ، كأنه قال : جامع المغفرة والقبول . انتهى .

وما أكثر تلمح هذا الرجل وشقشقته ، والذي أفاد أن الواو وللجمع ، وهذا معروف من ظاهر علم النحو .

وقال صاحب الغنيان : وإنما عطف لاجتماعهما وتلازمهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر ، وقطع شديد العقاب عنهما فلم يعطف لانفراده .

انتهى ، وهي نزغة اعتزالية .

ومذهب أهل السنة جواز غفران الله للعاصي ، وإن لم يتب إلا الشرك .

والتوب يحتمل أن يكون كالذنب ، اسم جنس ؛ ويحتمل أن يكون جمع توبة ، كبشر وبشرة ، وساع وساعة .

والظاهر من قوله : { وقابل التوب } أن توبة العاصي بغير الكفر ، كتوبة العاصي بالكفر مقطوع بقبولها .

وذكروا في القطع بقبول توبة العاصي قولين لأهل السنة .

ولما ذكر تعالى شدة عقابه أردفه بما يطمع في رحمته ، وهو قوله : { ذي الطول } ، فجاء ذلك وعيداً اكتنفه وعدان .

قال ابن عباس : الطول : السعة والغنى ؛ وقال قتادة : النعم ؛ وقال ابن زيد : القدرة ، وقوله : طوله ، تضعيف حسنات أوليائه وعفوه عن سيئاتهم .

ولما ذكر جملة من صفاته العلا الذاتية والفعلية ، ذكر أنه المنفرد بالألوهية ، المرجوع إليه في الحشر ؛