قوله تعالى : { وجاءه قومه يهرعون إليه } ، قال ابن عباس وقتادة : يسرعون إليه . وقال مجاهد : يهرولون ، وقال الحسن : مشي بين مشيتين . وقال شمر بن عطية : بين الهرولة والجمز . { ومن قبل } ، أي : من قيل مجيئهم إلى لوط ، { كانوا يعملون السيئات } ، كانوا يأتون الرجال في أدبارهم . { قال } ، لهم لوط حين قصدوا أضيافه وظنوا أنهم غلمان ، { يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم } ، يعني : بالتزويج ، وفى أضيافه ببناته ، وكان في ذلك الوقت ، تزويج المسلمة من الكافر جائزا كما زوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته من عتبة بن لهب ، وأبي العاص بن الربيع قبل الوحي ، وكانا كافرين . وقال الحسين بن الفضل : عرض بناته عليهم بشرط الإسلام . وقال مجاهد و سعيد بن جبير : قوله : { هؤلاء بناتي } ، أراد : نساءهم ، وأضاف إلى نفسه لأن كل نبي أو أمته . وفى قراءة أبي بن كعب : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم } [ الأحزاب-6 ] وهو أب لهم . وقيل : ذكر ذلك على سبيل الدفع لا على التحقيق ، ولم يرضوا هذا . { فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي } ، أي : خافوا الله ولا تخزون في ضيفي ، أي : لا تسوؤني ولا تفضحوني في أضيافي . { أليس منكم رجل رشيد } ، صالح سديد . قال عكرمة : رجل يقول لا إله إلا الله . وقال ابن إسحاق : رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .
ثم بين - سبحانه - ما كان من قوم لوط - عليه السلام - عندما علموا بوجود هؤلاء الضويف عنده فقال : { وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات . . . }
- ويهرعون - بضم الياء وفتح الراء على صيغة المبنى للمفعول - أى : يدفع بعضهم بعضاً بشدة ، كأن سائقاً يسوقهم إلى المكان الذى فيه لوط وضيوفه .
يقال هُرع الرجل وأهرع - بالبناء للمفعول فيهما - إذا أعجل وأسرع لدافع يدفعه إلى ذلك .
قال الآلوسى : والعامة على قراءة مبنياً للمفعول ، وقرأ جماعة يهرعون - بفتح الياء مع البناء للفاعل - من هرع - بفتح الهاء والراء - وأصله من الهرع وهو الدم الشديد السيلان ، كأن بعضه يدفع بعضاً .
أى : وبعد أن علم قوم لوط بوجود هؤلاء الضيوف عند نبيهم ، جاءوا إليه مسرعين يسوق بعضهم بعضاً إلى بيته من شدة الفرح ، ومن قبل هذا المجئ ، كان هؤلاء القوم الفجرة ، يرتكبون السيئات الكثيرة ، التى من أقبحها إتيانهم الرجال شهوة من دون النساء .
وقد طوى القرآن الكريم ذكر الغرض الذى جاءوا من أجله ، وأشار إليه بقوله : { وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات } للإِشعار بأن تلك الفاحشة صارت عادة من العادات المتأصلة فى نفوسهم الشاذة ، فلا يسعون إلا من أجل قضائها .
ثم حكى القرآن بعد ذلك ما بادرهم به نبيهم بعد أن رأى هياجهم وتدافعهم نحو داره فقال : { ياقوم هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ . . . } يرشدهم إلى نسائهم ، فإن النبى للأمة بمنزلة الولد ، فأرشدهم إلأى ما هو أنفع لهم ، كما قال لهم فى آية أخرى : { أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين . وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } قال مجاهد : لم يكن بناته ، ولكن كن من أمته ، وكل نبى أبو أمته . . .
وقال سعيد بن جبير : يعنى نساؤهم ، هن بناته وهو أب لهم . . .
ومنهم من يرى أن المراد ببيناته هنا : بناته من صلبه ، وأنه عرض عليهم الزواج بهن . . .
ويضعف هذا الرأى أن لوطا - عليه السلام - كان له بنتان أو ثلاثة - كما جاء فى بعض الروايات - وعدد المتدافعين من قومه إلى بيته كان كثيراً ، فكيف تكفيهم بنتان أو ثلاثة للزواج . . . ؟
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب ، وقد رجحه الإِمام الرازى بأن قال ما ملخصه : " وهذا لاقول عندى هو المختار ، ويدل عليه وجوه .
منها : أنه قال { هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } وبناته اللاتى من صلبه لا تكفى للجمع العظيم ، أما نساء أمته ففيهن كفاية للكل . .
ومنها : أنه صحت الرواية أنه كان له بنتان وهما : " زنتا وزعورا ، وإطلاق لفظ البنات على البنتين لا يجوز ، لما ثبت أن أقل الجمع ثلاثة . . . " .
والمعنى : أن لوطا - عليه السلام - عندما رأى تدافعهم نحو بيته لارتكاب الفاحشة التى ما سبقهم بها من أحد من العالمين ، قال لهم : برجاء ورفق { ياقوم } هؤلاء نساؤكم اللائى بمنزلة بناتى ارجعوا إليهن فاقضوا شهوتكم معهن فهن أطهر لكم نفسياً وحسياً من التلوث برجس اللواط ، وأفعل التفضيل هنا وهو { أطهر } ليس على بابه ، بل هو للمبالغة فى الطهر .
قال القرطبى : وليس ألف أطهر للتفضيل ، حتى يتوهم أن فى نكاح الرجال طهارة ، بل هو كقولك الله أكبر - أى كبير - . . . ولم يكابر الله - تعالى - أحد حتى يكون الله - تعالى - أكبر منه . . .
ثم أضاف إلى هذا الإِرشاد لهم إرشاداً آخر فقال : { فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي . . . }
قال الجمل : ولفظ الضيف فى الأصل مصدر ، ثم أطلق على الطلاق ليلاً إلى المضيف ، ولذا يقع على المفرد والمذكر وضديهما بلفظ واحد ، وقد يثنى فيقال : ضيفان ، ويجمع فيقال : " أضايف وضيوف . . . "
وتخزون : من الخزى وهو الإِهانة والمذلة . يقال : خزى الرجل يخزى خزياً . . . . إذا وقع فى بللية فذل بذلك .
أى : بعد أن أرشدهم إلى نسائهم ، أمرهم بتقوى الله ومراقبته ، فقال لهم : فاتقوا الله . ولا تجعلونى مخزياً مفضوحاً أمام ضويفى بسبب اعتدائكم عليهم ، فإن الاعتداء على الضيوف كأنه اعتداء على المضيف .
ويبدو أن لوطاً - عليه السلام - قد قال هذه الجملة ليلمس بها نخوتهم إن كان قد بقى فيهم بقية من نخوة ، ولكنه لما رأى إصرارهم على فجورهم وبخهم بقوله :
{ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } يهدى إلى الرشد والفضيلة . وينهى عن الباطل والرذيلة . فيقف إلى جانبى ، ويصرفكم عن ضيوفى ؟
وقوله : { يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ } أي : يسرعون ويهرولون [ في مشيتهم ويجمرون ]{[14781]} من فرحهم بذلك [ وروي في هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وقتادة وشمر بن عطية وسفيان بن عيينة ]{[14782]} .
وقوله : { وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } أي : لم يزل هذا من سجيتهم [ إلى وقت آخر ]{[14783]} حتى أخذوا وهم على ذلك الحال .
وقوله : { قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } يرشدهم إلى نسائهم ، فإن النبي للأمة بمنزلة الوالد [ للرجال والنساء ]{[14784]} ، فأرشدهم إلى ما هو أنفع{[14785]} لهم في الدنيا والآخرة ، كما قال لهم في الآية الأخرى : { أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } [ الشعراء : 165 ، 166 ] ، وقوله في الآية الأخرى : { قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ } [ الحجر : 70 ] أي : ألم{[14786]} ننهك عن ضيافة الرجال { قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ . لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الحجر : 71 ، 72 ] ، وقال في هذه الآية الكريمة : { هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } قال{[14787]} مجاهد : لم يكن بناته ، ولكن كن من أمَّتِهِ ، وكل نبي أبو أمَّتِه .
وكذا روي عن قتادة ، وغير واحد .
وقال ابن جُرَيْج : أمرهم أن يتزوجوا النساء ، ولم يعرض عليهم سفاحا .
وقال سعيد بن جبير : يعني نساءهم ، هن بَنَاته ، وهو أب لهم{[14788]} ويقال في بعض القراءات{[14789]} النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم .
وكذا روي عن الربيع بن أنس ، وقتادة ، والسدي ، ومحمد بن إسحاق ، وغيرهم .
وقوله : { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } أي : اقبلوا ما آمركم به من الاقتصار على نسائكم{[14790]} ، { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ } أي : [ ليس منكم رجل ]{[14791]} فيه خير ، يقبل ما آمره به ، ويترك ما أنهاه عنه ؟
{ وجاءه قومه يهرعون إليه } يسرعون إليه كأنهم يدفعون دفعا لطلب الفاحشة من أضيافه . { ومن قبل } أي ومن قبل ذلك الوقت . { كانوا يعملون السيئات } الفواحش فتمرنوا بها ولم يستحيوا منها حتى جاؤوا يهرعون لها مجاهرين . { قال يا قوم هؤلاء بناتي } فدى بهن أضيافه كرما وحمية ، والمعنى هؤلاء بناتي فتزوجوهن ، وكانوا يطلبونهن قبل فلا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم لا لحرمة المسلمات على الكفار فإنه شرع طارئ أو مبالغة في تناهي خبث ما يرومونه حتى إن ذلك أهون منه ، أو إظهاراً لشدة امتعاضه من ذلك كي يرقوا له . وقيل المراد بالبنات نساؤهم فإن كل نبي أبو أمته من حيث الشفقة والتربية وفي حرف ابن مسعود { وأزواجه أمهاتهم } وهو أب لهم { هن أطهر لكم } أنظف فعلا وأقل فحشا كقولك : الميتة أطيب من المغصوب وأحل منه . وقرئ { أطهر } بالنصب على الحال على أن هن خبر بناتي كقولك : هذا أخي هو الأفضل فإنه لا يقع بين الحال وصاحبها . { فاتقوا الله } بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم . { ولا تخزُونِ } ولا تفضحوني من الخزي ، أو ولا تخجلوني من الخزاية بمعنى الحياء . { في ضيفي } في شأنهم فإن إخزاء ضيف الرجل إخزاؤه . { أليس منكم رجل رشيد } يهتدي إلى الحق ويرعوي عن القبيح .
وقوله تعالى : { وجاءه قومه } الآية ، روي أن امرأة لوط الكافرة لما رأت ، الأضياف ورأت جمالهم وهيئتهم خرجت حتى أتت مجالس قومها فقالت لهم : إن لوطاً أضاف الليلة فتية ما رئي مثلهم جمالاً وكذا وكذا ، فحينئذ جاءوا { يهرعون إليه } ، ومعناه يسرعون ، والإهراع هو : أن يسرع أمر بالإنسان حتى يسير بين الخبب والجمز{[6444]} ، فهي مشية الأسير الذي يسرع به ، والطامع المبادر إلى أمر يخاف فوته ، ونحو هذا ؛ يقال هرع الرجل وأهرعه طمع أو عدو أو خوف ونحوه .
والقراءة المشهورة : «يُهرعون » بضم الياء أي يهرعون الطمع ، وقرأت فرقة : «يَهرعون » بفتح الياء ، من هرع ، ومن هذه اللفظة قول مهلهل : [ الوافر ]
فجاءوا يَهرعون وهم أسارى*** تقودُهم على رغم الأنوف{[6445]}
وقوله : { ومن قبل كانوا يعملون السيئات } ، أي كانت عادتهم إتيان الفاحشة في الرجال ، فجاءوا إلى الأضياف لذلك فقام إليهم لوط مدافعاً ، وقال : { هؤلاء بناتي } فقالت فرقة أشار إلى بنات نفسه وندبهم في هذه المقالة إلى النكاح ، وذلك على أن كانت سنتهم جواز نكاح الكافر المؤمنة ، أو على أن في ضمن كلامه أن يؤمنوا . وقالت فرقة : إنما كان الكلام مدافعة لم يرد إمضاؤه ، روي هذا القول عن أبي عبيدة ، وهو ضعيف ، وهذا كما يقال لمن ينهى عن مال الغير : الخنزير أحل لك من هذا وهذا التنطع ليس من كلام الأنبياء صلى الله عليهم وسلم ، وقالت فرقة : أشار بقوله : { بناتي } إلى النساء جملة إذ نبي القوم أب لهم ، ويقوي هذا أن في قراءة ابن مسعود { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم }{[6446]} وهو أب لهم وأشار أيضاً لوط - في هذا التأويل - إلى النكاح{[6447]} .
وقرأت فرقة - هي الجمهور - «هن أطهرُ » برفع الراء على خبر الابتداء ، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر ومحمد بن مروان وسعيد بن جبير : «أطهرَ » بالنصب قال سيبويه : هو لحن ، قال أبو عمرو بن العلاء : احتبى فيه ابن مروان في لحنه{[6448]} ، ووجهه عند من قرأ به النصب على الحال بأن يكون { بناتي } ابتداء و { هن } خبره ، والجملة خبر { هؤلاء } .
قال القاضي أبو محمد : وهو إعراب مروي عن المبرد ، وذكره أبو الفتح وهو خطأ في معنى الآية ، وإنما قوم اللفظ فقط والمعنى إنما هو في قوله : { أطهر } وذلك قصد أن يخبر به فهي حال لا يستغنى عنها - كما تقدم في قوله : { وهذا بعلي شيخاً } [ هود : 72 ] ، والوجه أن يقال : { هؤلاء بناتي } ابتداء وخبر ، و { هن } فصل و { أطهر } حال وإن كان شرط الفصل أن يكون بين معرفتين ليفصل الكلام من النعت إلى الخبر ، فمن حيث كان الخبر هنا في { أطهر } ساغ القول بالفصل ، ولما لم يستسغ ذلك أبو عمرو ولا سيبويه لحنا ابن مروان ، وما كانا ليذهب عليهما ما ذكر أبو الفتح ، و «الضيف » : مصدر يوسف به الواحد والجماعة والمذكر والمؤنث{[6449]} ؛ ثم وبخهم بقوله : { أليس منكم رجل رشيد } أي يزعكم ويردكم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وجاءه قومه يهرعون إليه}، يعني يسرعون إليه مشاة إلى لوط، {ومن قبل} أن نبعث لوطا، {كانوا يعملون السيئات} يعني نكاح الرجال، و {قال} لوط: {يا قوم هؤلاء بناتي}...فتزوجوهما {هن أطهر لكم} يعني أحل لكم من إتيان الرجال، {فاتقوا الله} في معصيته، {ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد} يقول: ما منكم رجل مرشد...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وجاء لوطا قومه يستحثون إليه يَرْعَدون مع سرعة المشي مما بهم من طلب الفاحشة، يقال: أُهْرِع الرجل من برد أو غضب أو حُمّى: إذا أُرعد، وهو مُهْرِع إذا كان مُعْجَلاً حريصا... عن مجاهد، في قول الله:"يُهْرَعُونَ إلَيْهِ" قال: يُهَرْوِلون، وهو الإسراع في المشي...
عن الضحاك: "وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إلَيْهِ "قال: يسعون إليه...
عن قتادة، قال: فأتوه يُهرعون إليه، يقول: سراعا إليه...
وقوله: "وَمِنْ قبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السّيّئاتِ" يقول: من قبل مجيئهم إلى لوط كانوا يأتون الرجال في أدبارهم...
وقوله: "قالَ يا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَناتي" يقول تعالى ذكره: قال لوط لقومه لما جاءوا يراودونه عن ضيفه: هؤلاء يا قوم بناتي يعني نساء أمته فانكِحوهن ف "هُنّ أطْهَرُ لَكُمْ"... عن قتادة: "هَؤُلاءِ بَناتي هُنّ أطْهَرُ لَكُمْ" قال: أمرهم لوط بتزويج النساء، وقال: هن أطهر لكم...
عن مجاهد: "هَؤُلاءِ بَناتي هُنّ أطْهَرُ لَكُمْ" قال: لم يكن بناته، ولكن كن من أمته، وكلّ نبيّ أبو أمته... أمرهم أن يتزوّجوا النساء، لم يعرض عليهم سفاحا... عن قتادة...: أمرهم أن يتزوّجوا النساء، وأراد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن يقيَ أضيافه ببناته...
وقوله: "فاتّقُوا اللّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي" يقول: فاخشوا الله أيها الناس، واحذروا عقابه في إتيانكم الفاحشة التي تأتونها وتطلبونها.
"وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي" يقول: وَلا تُذِلّوني بأن تركبوا مني في ضيفي ما يكرهون أن تركبوه منهم. والضيف في لفظ واحد في هذا الموضع بمعنى جمع، والعرب تسمي الواحد والجمع ضيفا بلفظ واحد كما قالوا: رجل عدل، وقوم عدل.
وقوله: "ألَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ" يقول: أليس منكم رجل ذو رشد يَنْهَي من أراد ركوب الفاحشة من ضيفي، فيحول بينهم وبين ذلك؟...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" أليس منكم رجل رشيد "خرج مخرج الإنكار عليهم وإن كان لفظه لفظ الاستفهام. والرشيد هو الذي يعمل بما يقتضيه عقله، لأنه يدعو إلى الحق، ومنه الإرشاد في الطرق، فقال: أما منكم من يدعو إلى الحق ويعمل به. ونقيض الرشد الغي...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
" أليس منكم رجل رشيد "يرتدي جلبابَ الحشمة، ويؤثِر حقَّ الله على ما هو مقتضى البشرية، ويرعى حق الضيافة، ويترك معصية الله؟...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يُهْرَعُونَ} يسرعون كأنما يدفعون دفعاً. {وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات} ومن قبل ذلك الوقت كانوا يعملون الفواحش ويكثرونها، فضروا بها ومرنوا عليها وقل عندهم استقباحها، فلذلك جاءوا يهرعون مجاهرين لا يكفهم حياء... {فاتقوا الله} بإيثارهن عليهم {وَلاَ تخزوني} ولا تهينوني ولا تفضحوني، من الخزي، أو ولا تخجلوني، من الخزاية وهي الحياء {فِي ضَيْفِي} في حق ضيوفي فإنه إذا خزي ضيف الرجل أو جاره فقد خزي الرجل، وذلك من عراقة الكرم وأصالة المروءة {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} رجل واحد يهتدي إلى سبيل الحق وفعل الجميل، والكف عن السوء...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... {هؤلاء بناتي} فقالت فرقة أشار إلى بنات نفسه وندبهم في هذه المقالة إلى النكاح، وذلك على أن كانت سنتهم جواز نكاح الكافر المؤمنة، أو على أن في ضمن كلامه أن يؤمنوا. وقالت فرقة: إنما كان الكلام مدافعة لم يرد إمضاءه، روي هذا القول عن أبي عبيدة، وهو ضعيف، وهذا كما يقال لمن ينهى عن مال الغير: الخنزير أحل لك من هذا وهذا التنطع ليس من كلام الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، وقالت فرقة: أشار بقوله: {بناتي} إلى النساء جملة إذ نبي القوم أب لهم، ويقوي هذا أن في قراءة ابن مسعود {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} "وهو أب لهم "وأشار أيضاً لوط -في هذا التأويل- إلى النكاح...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} يرشدهم إلى نسائهم، فإن النبي للأمة بمنزلة الوالد [للرجال والنساء]، فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم في الدنيا والآخرة، كما قال لهم في الآية الأخرى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 165، 166]، وقوله في الآية الأخرى: {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} [الحجر: 70] أي: ألم ننهك عن ضيافة الرجال {قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ. لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 71، 72]...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وجاءه قومه يهرعون إليه} أي جاءوه يهرولون متهيجة أعصابهم كأن سائقا يسوقهم، قال في المصباح المنير: هرع وأهرع بالبناء فيهما للمفعول إذا أعجل على الإسراع، أي حمل على العجل به اه. وقال الكسائي والفراء وغيرهما: لا يكون الإهراع إلا إسراعا مع رعدة من برد أو غضب أو حمى اه. وينبغي أن يزاد عليه أو شهوة شديدة، وقال مجاهد: هو مشي بين الهرولة والعدو. {ومن قبل كانوا يعملون السيئات} ومن قبل هذا المجيء كانوا يعملون السيئات الكثيرة وشرها أفظع الفاحشة وأنكر في الفطرة البشرية والشرائع الإلهية والوضعية، وهي إتيان الرجال شهوة من دون النساء، ومجاهرتهم بها في أنديتهم كأنها من الفضائل، يتسابقون إليها ويتبارون فيها، كما حكى الله عنه من قوله بعد رميهم بالفاحشة {أإنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر} [العنكبوت: 29] فماذا فعل لوط، وبم واجههم وعارضهم؟
{قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم} فتزوجوهن، قيل أراد بناته من صلبه، وأنه سمح بتزويجهم بهن بعد امتناع لصرفهم عن أضيافه، وقيل أراد بنات قومه في جملتهن، لأن النبي في قومه كالولد في عشيرته، قاله ابن عباس {رضي الله عنه] ومجاهد وسعيد بن جبير، ويدخل فيه نساؤهم المدخول بهن وغيرهن من المعدات للزواج، يعني أن الاستمتاع بهن بالزواج أطهر من التلوث برجس اللواط، فإنه يكبح جماح الشهوة مع الأمن من الفساد، وصيغة التفضيل هنا للمبالغة في الطهر فلا مفهوم لها، وهذا كثير في اللغة ويقول النحويون فيه: إن أفعل التفضيل على غير بابه، والظاهر أنه يأمرهم في هذه الحال الذي هاجت فيه شهوتهم واشتد سبقهم، أن يأتوا نساءهم كما ورد في الإرشاد النبوي لمن رأى امرأة أعجبته أن يأتي امرأته في تلك الحالة التي هاجته فيها رؤيتها.
وزعم بعض المفسرين أنه عليه السلام عرض على هؤلاء الفساق المجرمين بناته أن يستمتعوا بهن كما يشاءون، ومثل هذا في سفر التكوين [19: 8] وفيه أنهما اثنتان، ولا يعقل أن يقع هذا الأمر من أي رجل صالح فضلا عن نبي مرسل، ولا يصح في مثله أن يعبر عنه بأنه أطهر لهم، فغسل الدم بالبول ليس من الطهارة في شيء، وإن كان يعتقد أنهم لا يجيبونه إلى هذا الفعل، بل الذنب في هذه الحال أكبر، لأنه أمر بالمنكر، وخروج عن الحكم الشرعي، إيثارا للتجمل الشخصي، وهو لا يتعارض مع قوله لهم بعده {فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي} فإن الزنا ليس من التقوى بل هو هدم لها، وإنما معنى هذا الأمر والنهي: فاجمعوا بما أمرتكم به بين تقوى الله باجتناب الفاحشة، وبين حفظ كرامتي وعدم إذلالي وامتهاني بفضيحتي في ضيفي فإن فضيحة الضيف فضيحة للمضيف وإهانة له، ولفظ الضيف يطلق على الواحد والمثنى والجمع.
{أليس منكم رجل رشيد} ذو رشد يعقل هذا فيرشدكم إليه؟
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وجاءه قومه يهرعون إليه). أي يسرعون في حالة تشبه الحمى. (ومن قبل كانوا يعملون السيئات).. وكان هذا ما ساء الرجل بضيوفه، وما ضيق بهم ذرعه، وما دعاه إلى توقع يوم عصيب! ورأى لوط ما يشبه الحمى في أجساد قومه المندفعين إلى داره، يهددونه في ضيفه وكرامته. فحاول أن يوقظ فيهم الفطرة السليمة، ويوجههم إلى الجنس الآخر الذي خلقه الله للرجال، وعنده منه في داره بناته، فهن حاضرات، حاضرات اللحظة إذا شاء الرجال المحمومون تم الزواج على الفور، وسكنت الفورة المحمومة والشهوة المجنونة! (قال: يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم. فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي. أليس منكم رجل رشيد؟). (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم).. أطهر بكل معاني الطهر. النفسي والحسي. فهن يلبين الفطرة النظيفة، ويثرن مشاعر كذلك نظيفة. نظافة فطرية ونظافة أخلاقية ودينية. ثم هن أطهر حسيا. حيث أعدت القدرة الخالقة للحياة الناشئة مكمنا كذلك طاهرا نظيفا. (فاتقوا الله).. قالها يلمس نفوسهم من هذا الجانب بعد أن لمسها من ناحية الفطرة. (ولا تخزون في ضيفي).. قالها كذلك يلمس نخوتهم وتقاليد البدو في إكرام الضيف إطلاقا. (أليس منكم رجل رشيد؟).. فالقضية قضية رشد وسفه إلى جوار أنها قضية فطرة ودين ومروءة.. ولكن هذا كله لم يلمس الفطرة المنحرفة المريضة، ولا القلوب الميتة الآسنة، ولا العقول المريضة المأفونة. وظلت الفورة المريضة الشاذة في اندفاعها المحموم...
أي: يسرعون إليه في تدافق، والإنسان إذا لم يكن قد مرن على الشر وله به دربة، يكون مترددا خائفا، أما من له دربة فهو يقبل على الشر بجرأة ونشاط...
وقوله تعالى: {يهرعون إليه}: يبين أنهم أقبلوا باندفاع، كأنهم يعشقون ما يذهبون إليه؛ لأن كلا منهم له دربة على ذلك الفعل المشين، أو أن كلا منهم ذاهب إلى ما يحب دون تهيب، باندفاع من نفسه ودفع من غيره... وقوم لوط كانوا على دربة بتلك الفاحشة. يقول الحق سبحانه عنهم: {ومن قبل كانوا يعملون السيئات}: أي: أن هذه المسألة عندهم كانت محبوبة، ولهم دربة عليها وخفيفة على قلوبهم، ولا حياء يمنعهم عنها. فالحياء يعني أن بعض الناس يعمل السيئة ويخشى الآخرون أن يفعلوها، لكن إذا ما كانوا كلهم يحبون تلك السيئة، فلن يخجل أحد من الآخر. وماذا يكون موقف لوط- عليه السلام- في هذا اليوم العصيب؟ لقد أقبلوا عليه بسرعة، وفي كوكبة واندفاع، وهو يعلم نياتهم ويعلم سوابقهم، وفكر لوط- عليه السلام- في أن يصرفهم انصرافا من جنس اندفاعهم...
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية: -فضيلة إكرام الضيف وحمايته من كل ما يسوءه.- فظاعة العادات السيئة وما تحدثه من تغير في الإِنسان. -بذل ما يمكن لدفع الشر لوقاية لوط ضيفه.- أسوأ الحياة أن لا يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.