قوله تعالى : { وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا } ، أي : نسائنا .
قال ابن عباس وقتادة ، والشعبي : أراد أجنة البحائر والسوائب ، فما ولد منها حياً فهو خالص للرجال دون النساء ، وما ولد ميتاً أكله الرجال والنساء جميعاً . وأدخل الهاء في { خالصة } للتأكيد كالخاصة والعامة ، كقولهم : نسابة ، وعلامة ، وقال الفراء رحمه الله : أدخلت الهاء لتأنيث الأنعام لأن ما في بطونها مثلها فأنثت بتأنيثها . وقال الكسائي : خالص وخالصة واحد ، مثل وعظ وموعظة .
قوله تعالى : { وإن يكن ميتةً } ، قرأ ابن عامر وأبو جعفر : { تكن } بالتاء { ميتة } رفع ذكر الفعل بعلامة التأنيث ، لأن الميتة في اللفظ مؤنثة . وقرأ أبو بكر عن عاصم : ( تكن ) بالتاء ( ميتة ) نصب ، أي : وإن تكن الأجنة ميتة ، وقرأ ابن كثير :{ وإن يكن } بالياء { ميتة } رفع ، لأن المراد بالميتة الميت ، أي : وإن يقع ما في البطون ميتاً ، وقرأ الآخرون : { وإن يكن } بالياء { ميتة } نصب ، رده إلى ما ، أي : وإن يكن ما في البطون ميتة ، يدل عليه أنه قال : { فهم فيه شركاء } ، ولم يقل فيها ، وأراد أن الرجال والنساء فيه شركاء .
قوله تعالى : { سيجزيهم وصفهم } ، أي : بوصفهم ، أو على وصفهم الكذب على الله . قوله تعالى : { إنه حكيم عليم } .
ثم يحكى القرآن الرذيلة الرابعة من رذائلهم وملخصها : أنهم زعموا أن الأجنة التى فى بطون هذه الأنعام المحرمة ، ما ولد منها حياً فهو حلال للرجال ومحرم على النساء ، وما ولد ميتاً اشترك فى أكله الرجال والنساء .
استمع إلى القرآن وهو يفضح زعمهم هذا فيقول : { وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ } ومرادهم بما فى بطون هذه الأنعام أجنة البحائر والسوائب .
أى : ومن فنون كفرهم أنهم قالوا ما فى بطون هذه الأنعام المحرمة إذا نزل منها حياً فأكله حلال للرجال دون النساء ، وإذا نزل ميتاً فأكله حلالا للرجال والنساء على السواء .
وفى رواية العوفى عن ابن عباس أن المراد بما فى بطونها اللبن ، فقد كانوا يحرمونه على إناثهم ويشربه ذكرانهم وكانت الشاة إذاولدت ذكراً ذبحوه ، وكان للرجال دون النساء ، وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح ، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء .
قال بعضهم : " ومن مباحث اللفظ فى الآية أن قوله " خالصة " فيه وجوه :
أحدها : أن التاء قيد للمبالغة فى الوصف كراوية وداهية فلا يقال إنه غير مطابق للمبتدأ على القول بأنه خبر .
وثانيا : أن المبتدأ وهو { مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام } مذكر اللفظ مؤنث المعنى ، لأن المراد به الأجنة فيجوز تذكير خبره باعتبار اللفظ وتأنيثه باعتبار المعنى .
وثالثها : أنه مصدر فتكون العبارة مثل قولهم : عطاؤك عافية والمطر رحمة والرخصة نعمة .
ورابعها : أنه مصدر مؤكد أو حال من المستكن فى الظرف وخبر المبتدأ { لِّذُكُورِنَا } .
وقوله : { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ } تهديد لهم أى : سيجزيهم بما هم أهله من العذاب المهين جزاء وصفهم أو بسبب وصفهم الكذب على الله فى أمر التحليل والتحريم على سبيل التحكم والتهجم بالباطل على شرعه . إنه - سبحانه - حكيم فى أقواله وأفعاله وشرعه ، عليم بأعمال عباده من خير أو شر وسيجازيهم عليها .
قال الآلوسى : ونصب { وَصْفَهُمْ } - على ما ذهب إليه الزجاج - لوقوعه موقع مصدر { سَيَجْزِيهِمْ } فالكلام على تقدير مضاف . أى : جزاء وصفهم . وقيل : التقدير . سيجزيهم العقاب بوصفهم أى : بسببه فلما سقطت الباء نصب وصفهم .
ثم قال : وهذا كما قال بعض المحققين من بليغ الكلام وبديعه ، فإنهم يقولون ، كلامه يصف الكذب إذا كذب ، وعينه تصف السحر ، أى ساحرة ، وقد يصف الرشاقة ، بمعنى رشيق . مبالغة ، حتى كأن من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له " .
وإلى هنا تكون الآيات الأربعة التى بدأت بقوله - تعالى - { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً } . . . إلخ . قد قصت علينا أربع رذائل من أفعال المشركين وأقوالهم .
وإن العاقل ليعجب وهو يستعرض هذه الضلالات - التى حكتها الآيات . يعجب لما تحملوه فى سبيل ضلالاتهم من أعباء مادية وخسائر وتضحيات ، يعجب للعقيدة الفاسدة وكيف تكلف أصحابها الكثير ومع ذلك فهم مصرون على اعتناقها ، وعلى التقيد بأغلالها ، وأوهامها ، وتبعاتها .
لكأن القرآن وهو يحكى تلك الرذائل وما تحمله أصحابها فى سبيلها يقول لأتباعه - من بين ما يقول - إذا كان أصحاب العقائد الفاسدة قد ضحوا حتى بقلذات أكبادهم إرضاء لشركائهم . . . فأولى بكم ثم أولى أن تضحوا فى سبيل عقيدتكم الصحيحة ، وملتكم الحنيفية السمحاء بالأنفس والأموال .
قال أبو إسحاق السبيعي ، عن عبد الله بن أبي الهُذَيل ، عن ابن عباس : { وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا } الآية ، قال : اللبن .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا } [ الآية ]{[11259]} : فهو اللبن ، كانوا يحرمونه على إناثهم ، ويشربه ذكرانهم . وكانت الشاة إذا ولدت ذكرًا ذبحوه ، وكان للرجال دون النساء . وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح ، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء . فنهى الله عن ذلك . وكذا قال السُّدِّي .
وقال الشعبي : " البحيرة " لا يأكل من لبنها إلا الرجال ، وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء ، وكذا قال عِكْرِمة ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وقال مجاهد في قوله : { وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } قال : هي السائبة والبحيرة .
وقال أبو العالية ، ومجاهد ، وقتادة [ في قول ]{[11260]} { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } أي : قولهم الكذب في ذلك ، يعني قوله{[11261]} تعالى : { وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ } الآية [ النحل : 116 ، 117 ] .
إنه { حَكِيمٌ } أي : في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره ، { عَلِيمٌ } بأعمال عباده من خير وشر ، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء .
{ وقالوا ما في بطون هذه الأنعام } يعنون أجنة البحائر السوائب . { خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا } حلال للذكور خاصة دون الإناث إن ولد حيا لقوله : { وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء } فالذكور والإناث فيه سواء وتأنيث الخالصة للمعنى فإن ما في معنى الأجنة ولذلك وافق عاصم في رواية أبي بكر بن عامر في تكن بالتاء ، وخالفه هو وابن كثير في { ميتة } فنصب كغيرهم ، أو التاء فيه للمبالغة كما في رواية الشعر أو هو مصدر كالعافية وقع موقع الخالص . وقرئ بالنصب على أنه مصدر مؤكد والخبر { لذكورنا } ، أو حال من الضمير الذي في الظرف لا من الذي في ذكورنا ولا من الذكور لأنها لا تتقدم على العامل المعنوي ولا على صاحبها المجرور .
وقرئ " خالصن " بالرفع والنصب و{ خالصة } بالرفع والإضافة إلى الضمير على أنه بدل من ها أو مبتدأ ثان والمراد ما كان حيا ، والتذكير في فيه لأن المراد بالميتة ما يعم الذكر والأنثى فغلب الذكر . { سيجزيهم وصفهم } أي جزاء وصفهم الكذب على الله سبحانه وتعالى في التحريم والتحليل من قوله : { وتصف ألسنتهم الكذب } { إنه حكيم عليم } .