قوله تعالى : { فلما آتاهما صالحا } ، بشراً سوياً .
قوله تعالى : { جعلا له شركاء فيما آتاهما } ، قرأ أهل المدينة وأبو بكر : { شركا } بكسر الشين والتنوين ، أي : شركة ، قال أبو عبيدة : أي حظاً ونصيباً ، وقرأ الآخرون : { شركاء } بضم الشين ممدوداً على جمع شريك ، يعني : إبليس ، أخبر عن الواحد بلفظ الجمع ، أي : جعلا له شريكاً إذ سمياه عبد الحارث ، ولم يكن هذا إشراكاً في العبادة ، ولا أن الحارث ربهما ، فإن آدم كان نبياً معصوماً من الشرك ، ولكن قصد إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامة أمه ، وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به أنه معبود هذا ، كالرجل إذا نزل به ضيف يسمي نفسه عبد الضيف ، على وجه الخضوع لا على أن الضيف ربه ، ويقول للغير : أنا عبدك ، وقال يوسف لعزيز مصر : إنه ربي ، ولم يرد به أنه معبوده ، كذلك هذا .
قوله تعالى : { فتعالى الله عما يشركون } ، قيل : هذا ابتداء كلام ، وأراد به إشراك أهل مكة ، ولئن أراد به ما سبق فمستقيم من حيث إنه كان الأولى بهما أن لا يفعلا ما أتيا به من الإشراك في الاسم ، وفي الآية قول آخر وهو أنه راجع إلى جميع المشركين من ذرية آدم ، وهو قول الحسن وعكرمة ، ومعناه : جعل أولادهما له شركاء ، فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم ، كما أضاف فعل الآباء إلى الأبناء في تعييرهم بفعل الآباء فقال : { ثم اتخذتم العجل } ، { وإذ قتلتم نفساً } خاطب به اليهود الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك الفعل من آبائهم . وقيل : هم اليهود والنصارى ، رزقهم الله أولاداً فهودوا ونصروا ، وقال ابن كيسان : هم الكفار ، سموا أولادهم عبد العزى ، وعبد اللات ، وعبد مناة . وقال عكرمة : خاطب كل واحد من الخلق بقوله { خلقكم } أي خلق كل واحد من أبيه ، { وجعل منها زوجها } ، أي : جعل من جنسها زوجها ، وهذا قول حسن لولا قول السلف مثل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، ومجاهد ، وسعيد بن المسيب ، وجماعة المفسرين : أنه في آدم وحواء .
{ فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا } أى : فحين أعطاهما - سبحانه - الولد الصالح الذي كانا يتمنيانه ، جعلا لله - تعالى - شركاء في هذه العطاء ، وأخلا بالشكر في مقابلة هذه النعمة أسوأ إخلال ، حيث نسبوا هذا العطاء إلى الأصنام والأوثان ، أو إلى الطبيعة كما يزعم الطبعيون أو إلى غير ذلك مما يتنافى مع إفراد الله - تعالى - بالعبادة والشكر .
وقوله { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } تنزيه فيه معنى التعجيب من أحوالهم . أى : تنزه - سبحانه - وتقدس عن شرك هؤلاء الأغبياء الجاحدين الذين يقابلون نعم الله بالإشراك والكفران .
والضمير في { يُشْرِكُونَ } يعود على أولئك الآباء الذين جعلوا لله شركاء : هذا والمحققون من العلماء يرون أن هاتين الآيتين قد سيقتا توبيخا للمشركين حيث إن الله - تعالى - أنعم عليهم بخلقهم من نفس واحدة ، وجعل أزواجهم من أنفسهم ليأنسوا بهن ، وأعطاهم الذرية ، وأخذ عليهم العهود بشكره على هذه النعم ، ولكنهم جحدوا نعمه وأشركوا معه في العبادة والشكر آلهة أخرى { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
ويرى بعض المفسرين أن المراد بهذا السياق آدم وحواء ، واستدلوا على ذلك بما رواه الإمام أحمد - بسنده - عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لما طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال لها سميه عبد الحارث فإنه يعيش فسمته عبد الحارث فعاش ، وكان ذلك من وحى الشيطان وأمره .
وقد أثبت ابن كثير في تفسيره ضعف هذا الحديث من عدة وجوه ، ثم قال : قال الحسن : عنى الله - تعالى - بهذه الآية ذرية آدم ومن أشرك منهم بعده ، وقال قتادة : كان الحسن يقول : هم اليهود والنصارى رزقهم الله اولاداً فهودوا ونصروا . قال ابن كثير : وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية ، ونحن على مذهب الحسن البصرى في هذا ، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته ، ولهذا قال : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
وقال صاحب الانتصاف : والأسلم والأقرب أن يكون المراد - والله أعلم - جنسى الذكر والأنثى لا يقصد فيه إلى معين . وكأن المعنى خلقكم جنسا واحداً ، وجعل أزواجكم منكم أيضاً لتسكنوا إليهن ، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر ، الجنس الآخر الذي هو الأنثى جرى من هذين الجنسين كيت وكيت . وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس وإن كان فيهم الموحدون على حد قولهم : " بنو فلان قتلوا قتيلا " يعنى من نسبة البعض إلى الكل .
والذى نراه أن الآيتين ورادتان في توبيخ المشركين على شركهم ونقضهم لعهودهم مع الله - تعالى - لأن الأحاديث والأثار التي وردت في أنهما وردتا في شأن آدم وحواء لتسميتها ابنهما بعبد الحارث اتباعاً لوسوسة الشيطان لهما - ليست صحيحة ، كما أثبت ذلك علماء الحديث .
{ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } ذكر المفسرون هاهنا آثارا وأحاديث سأوردها وأبين ما فيها ، ثم نتبع ذلك بيان الصحيح في ذلك ، إن شاء الله وبه الثقة .
قال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا عمر بن إبراهيم ، حدثنا قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، عن النبي{[12508]} صلى الله عليه وسلم قال : " ولما ولدت حواء طاف بها إبليس - وكان لا يعيش لها ولد - فقال : سميه عبد الحارث ؛ فإنه يعيش ، فسمته عبد الحارث ، فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره " .
وهكذا رواه{[12509]} ابن جرير ، عن محمد بن بشار ، بُنْدَار ، عن عبد الصمد بن عبد الوارث ، به .
ورواه الترمذي في تفسيره{[12510]} هذه الآية عن محمد بن المثنى ، عن عبد الصمد ، به وقال : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم ، عن قتادة ، ورواه بعضهم عن عبد الصمد ، ولم يرفعه .
ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث عبد الصمد مرفوعًا ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
ورواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيره ، عن أبي زُرْعَة الرازي ، عن هلال بن فياض ، عن عمر بن إبراهيم ، به مرفوعًا .
وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه في تفسيره من حديث شاذ بن فياض ، عن عمر بن إبراهيم ، به مرفوعا{[12511]}
قلت : " وشاذ " [ هذا ]{[12512]} هو : هلال ، وشاذ لقبه . والغرض أن هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن عمر بن إبراهيم هذا هو البصري ، وقد وثقه ابن معين ، ولكن قال أبو حاتم الرازي : لا يحتج به . ولكن رواه ابن مردويه من حديث المعتمر ، عن أبيه ، عن الحسن ، عن سمرة{[12513]} مرفوعا فالله أعلم .
الثاني : أنه قد روي من قول سمرة نفسه ، ليس مرفوعًا ، كما قال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر ، عن أبيه . وحدثنا ابن علية{[12514]} عن سليمان التيمي ، عن أبي العلاء بن الشخير ، عن سمرة بن جندب ، قال : سمى آدم ابنه " عبد الحارث " .
الثالث : أن الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا ، فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعًا ، لما عدل عنه .
قال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن : { جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } قال : كان هذا في بعض أهل الملل ، ولم يكن بآدم{[12515]}
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر قال : قال الحسن : عنى بها ذرية آدم ، ومن أشرك منهم بعده - يعني : [ قوله ]{[12516]} { جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا }{[12517]}
وحدثنا بشر{[12518]} حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان الحسن يقول : هم اليهود والنصارى ، رزقهم الله أولادًا ، فهوّدوا ونَصَّروا{[12519]}
وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن ، رحمه الله ، أنه فسر الآية بذلك ، وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت{[12520]} عليه الآية ، ولو كان هذا الحديث عنده محفوظًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما عدل عنه هو ولا غيره ، ولا سيما مع تقواه لله وَوَرَعه ، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي ، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب ، من آمن منهم ، مثل : كعب أو وهب بن مُنَبّه وغيرهما ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله [ تعالى ]{[12521]} إلا أننا برئنا من عهدة المرفوع ، والله أعلم .
فأما{[12522]} الآثار فقال محمد بن إسحاق بن يسار ، عن داود بن الحُصَين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كانت حواء تلد لآدم ، عليه السلام ، أولادا فيعبدهم لله ويُسَمّيه : " عبد الله " و " عبيد الله " ، ونحو ذلك ، فيصيبهم الموت فأتاهما إبليس وآدم فقال : إنكما لو تسميانه بغير الذي تُسميانه به لعاش{[12523]} قال : فولدت له رجلا{[12524]} فسماه " عبد الحارث " ، ففيه أنزل الله ، يقول الله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } إلى قوله : { جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } إلى آخر الآية .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : فلما رزقهما الله ولدا صالحا كما سألا جعلا له شركاء فيما آتاهما ورزقهما .
ثم اختلف أهل التأويل في الشركاء التي جعلاها فيما أوتيا من المولود ، فقال بعضهم : جعلا له شركاء في الاسم . ذكر من قال ذلك .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال حدثنا عمر بن إبراهيم ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة بن جندب ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «كانَتْ حَوّاءُ لا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ ، فَنَذَرَتْ لَئِنْ عاشَ لَهَا وَلَدٌ لَتُسَمّيَنه عَبْدَ الحَرْثِ ، فعاشَ لَهَا وَلَدٌ ، فَسَمّتْهُ عَبْدَ الحَرْثِ ، وإنّمَا كانَ ذلكَ مِنْ وَحْيِ الشّيْطانِ » .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر ، عن أبيه ، قال : حدثنا أبو العلاء ، عن سَمُرة بن جندب : أنه حدث أن آدم عليه السلام سمى ابنه عبد الحرث .
قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن سليمان التيمي ، عن أبي العلاء بن الشّخيّر ، عن سمرة بن جندب ، قال : سمى آدم ابنه : عبد الحرث .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كانت حوّاء تلد لاَدم ، فتعبّدهم لله ، وتسميه عبد الله وعُبيد الله ونحو ذلك ، فيصيبهم الموت ، فأتاها إبليسُ وآدمَ ، فقال : إنكما لو تسميانه بغير الذي تسميانه لعاش فولدت له رجلاً ، فسماه عبد الحرث ، ففيه أنزل الله تبارك وتعالى : هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ . . . إلى قوله : جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُمَا . . . إلى آخر الاَية .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله في آدم : هُوَ الذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ . . . إلى قوله : فَمَرّتْ بِهِ فشكّت أحبلت أم لا ؟ فَلَمّا أثْقَلَتْ دَعَوَا اللّهَ رَبّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صَالِحا . . . الاَية ، فأتاهما الشيطان فقال : هل تدريان ما يولد لكما أم هل تدريان ما يكون أبهيمة تكون أم لا ؟ وزين لهما الباطل إنه غويّ مبين . وقد كانت قبل ذلك ولد ولدين فماتا ، فقال لهما الشيطان : إنكما إن لم تسمياه بي لم يخرج سويّا ومات كما مات الأوّلان فسميا ولديهما عبد الحرث فذلك قوله : فَلَمّا آتاهُمَا صَالِحا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُمَا . . . الاَية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : لما وُلد له أوّل ولد ، أتاه إبليس فقال : إني سأنصح لك في شأن ولدك هذا تسميه عبد الحرث فقال آدم : أعوذ بالله من طاعتك قال ابن عباس : وكان اسمه في السماء الحارث . قال آدم : أعوذ بالله من طاعتك إني أطعتك في أكل الشجرة ، فأخرجتني من الجنة ، فلن أطيعك . فمات ولده ، ثم وُلد له بعد ذلك ولد آخر ، فقال : أطعني وإلاّ مات كما مات الأوّل فعصاه ، فمات ، فقال : لا أزال أقتلهم حتى تسميه عبد الحرث . فلم يزل به حتى سماه عبد الحرث ، فذلك قوله : جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُمَا : أشركه في طاعته في غير عبادة ، ولم يُشرك بالله ، ولكن أطاعه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن هارون ، قال : أخبرنا الزبير بن الخريت ، عن عكرمة ، قال : ما أشرك آدمُ ولا حوّاء ، وكان لا يعيش لهما ولد ، فأتاهما الشيطان فقال : إن سرّكما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحرث فهو قوله : جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُمَا .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فَلَمّا تَغَشّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفا قال : كان آدم عليه السلام لا يولد له ولد إلاّ مات ، فجاءه الشيطان ، فقال : إن سرّك أن يعيش ولدك هذا ، فسميه عبد الحرث ففعل ، قال : فأشركا في الاسم ولم يُشركا في العبادة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَلَمّا آتاهُمَا صَالحا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُمَا ذُكر لنا أنه كان لا يعيش لهما ولد ، فأتاهما الشيطان ، فقال لهما : سمياه عبد الحرث وكان من وحي الشيطان وأمره ، وكان شركا في طاعته ، ولم يكن شركا في عبادته .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَلَمّا آتاهُمَا صَالِحا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُمَا فَتَعالى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ قال : كان لا يعيش لاَدم وامرأته ولد ، فقال لهما الشيطان : إذا ولد لكما ولد ، فسمياه عبد الحرث ففعلا وأطاعاه ، فذلك قول الله : فَلَمّا آتاهُمَا صَالِحا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ . . . الاَية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن سالم بن أبي حفصة ، عن سعيد بن جبير ، قوله : أثْقَلَتْ دَعَوَا اللّهَ رَبّهُما . . . إلى قوله تعالى : فَتَعالى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ قال : لما حملت حوّاء في أوّل ولد ولدته حين أثقلت ، أتاها إبليس قبل أن تلد ، فقال : يا حوّاء ما هذا الذي بطنك ؟ فقالت : ما أدري . فقال : من أين يخرج ؟ من أنفك ، أو من عينك ، أو من أذنك ؟ قالت : لا أدري . قال : أرأيت إن خرج سليما أتطيعيني أنت فيما آمرك به ؟ قالت : نعم . قال : سميه عبد الحرث وقد كان يسمى إبليس الحرث ، فقالت : نعم . ثم قالت بعد ذلك لاَدم : أتاني آت في النوم فقال لي كذا وكذا ، فقال : إن ذلك الشيطان فاحذريه ، فإنه عدوّنا الذي أخرجنا من الجنة ثم أتاها إبليس ، فأعاد عليها ، فقالت : نعم . فلما وضعته أخرجه الله سليما ، فسمته عبد الحرث ، فهو قوله : جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُمَا فَتَعالى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير وابن فضيل ، عن عبد الملك ، عن سعيد بن جبير ، قال : قيل له : أشرك آدم ؟ قال : أعوذ بالله أن أزعم أن آدم أشرك ولكن حوّاء لما أثقلت ، أتاها إبليس فقال لها : من أين يخرج هذا ، من أنفك أو من عينك أو من فيك ؟ فقنطها ، ثم قال : أرأيت إن خرج سويّا زاد ابن فضيل لم يضرّك ولم يقتلك أتطيعيني ؟ قالت : نعم . قال : فسميه عبد الحرث ففعلت . زاد جرير : فإنما كان شركه في الاسم .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : فولدت غلاما ، يعني حوّاء ، فأتاهما إبليس فقال : سموه عبدي وإلاّ قتلته قال له آدم عليه السلام : قد أطعتك وأخرجتني من الجنة ، فأبى أن يطيعه ، فسماه عبد الرحمن ، فسلط الله عليه إبليس فقتله . فحملت بآخر فلما ولدته قال لها : سميه عبدي وإلاّ قتلته قال له آدم : قد أطعتك فأخرجتني من الجنة . فأبى ، فسماه صالحا فقتله . فلما أن كان الثالث ، قال لهما : فإذا غُلبتم فسموه عبد الحرث وكان اسمَ إبليس وإنما سمي إبليس حين أُبلس . ففعلوا ، فذلك حين يقول الله : جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُمَا يعني في التسمية .
وقال آخرون : بل المعنيّ بذلك رجل وامرأة من أهل الكفر من بني آدم جعلا لله شركاء من الاَلهة والأوثان حين رزقهما فارزقهما من الولد . وقالوا : معنى الكلام : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ، فلما تغشاها : أي هذا الرجل الكافر ، حملت حملاً خفيفا ، فلما أثقلت دعوتما الله ربكما . قالوا : وهذا مما ابتدىء به الكلام على وجه الخطاب ، ثم ردّ إلى الخبر عن الغائب ، كما قيل : هُوَ الّذِي يُسَيّرُكُمْ فِي البَرّ والبَحْرِ حتى إذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ . وقد بيّنا نظائر ذلك بشواهده فيما مضى قبل . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن : جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُمَا قال : كان هذا في بعض أهل الملل ، ولم يكن بآدم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال الحسن : عني بهذا ذرية آدم ، من أشرك منهم بعده . يعني بقوله : فَلَمّا آتاهُمَا صَالِحا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُمَا .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول : هم اليهود والنصارى ، رزقهم الله أولادا فهوّدوا ونصروا .
قال أبو جعفر : وأولى القولين بالصواب قول من قال : عني بقوله : فَلَمّا آتاهُمَا صَالِحا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ في الاسم لا في العبادة ، وأن المعنيّ بذلك آدم وحوّاء لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك .
فإن قال قائل : فما أنت قائل إذ كان الأمر على ما وصفت في تأويل هذه الاَية ، وأن المعنيّ بها آدم وحوّاء في قوله : فَتَعالى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ؟ أهو استنكاف من الله أن يكون له في الأسماء شريك أو في العبادة ؟ فإن قلت في الأسماء دلّ على فساده قوله : أيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وإن قلت في العبادة ، قيل لك : أفكان آدم أشرك في عبادة الله غيره ؟ قيل له : إن القول في تأويل قوله : فَتَعالى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ليس بالذي ظننت ، وإنما القول فيه : فتعالى الله عما يشرك به مشركو العرب من عبدة الأوثان . فأما الخبر عن آدم وحوّاء فقد انقضى عند قوله : جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُمَا ثم استؤنف قوله : فَتَعالى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ . كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : فَتَعالى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ يقول : هذه فصل من آية آدم خاصة في آلهة العرب .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : شُرَكاءَ فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة وبعض المكيين والكوفيين : «جَعَلا لَهُ شِرْكا » بكسر الشين ، بمعنى الشركة . وقرأه بعض المكيين وعامة قرّاء الكوفيين وبعض البصريين : جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ بضمّ الشين ، بمعنى جمع شريك .
وهذه القراءة أولى القراءتين بالصواب ، لأن القراءة لو صحت بكسر الشين لوجب أن يكون الكلام : فلما آتاهما صالحا جعلا لغيره فيه شركا لأن آدم وحوّاء لم يَدينا بأن ولدهما من عطية إبليس ثم يجعلا لله فيه شركا لتسميتهما إياه بعبد الله ، وإنما كانا يدينان لا شكّ بأن ولدهما من رزق الله وعطيته ، ثم سمياه عبد الحرث ، فجعلا لإبليس فيه شركا بالاسم ، فلو كانت قراءة من قرأ : «شِرْكا » صحيحة وجب ما قلنا أن يكون الكلام : جعلا لغيره فيه شركا ، وفي نزول وحي الله بقوله : جَعَلا لَهُ ما يوضح عن أن الصحيح من القراءة : شُرَكاءَ بضم الشين على ما بينت قبل .
فإن قال قائل : فإن آدم وحوّاء إنما سميا ابنهما عبد الحرث ، والحرث واحد ، وقوله : شُرَكاءَ جماعة ، فكيف وصفهما جلّ ثناؤه بأنهما جعلا له شركاء ، وإنما أشركا واحدا ؟ قيل : قد دللنا فيما مضى على أن العرب تخرج الخبر عن الواحد مخرج الخبر عن الجماعة إذا لم تقصد واحدا بعينه ولم تسمه ، كقوله : الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ وإنما كان القائل ذلك واحدا ، فأخرج الخبر مخرج الخبر عن الجماعة ، إذ لم يقصد قصده ، وذلك مستفيض في كلام العرب وأشعارها .
وأما قوله : فَتَعالى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ فتنزيه من الله تبارك وتعالى نفسه ، وتعظيم لها عما يقول فيه المبطلون ويدعون معه من الاَلهة والأوثان . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : فَتَعالى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ قال : هو الإنكاف ، أنكف نفسه جلّ وعزّ ، يقول : عظم نفسه ، وأنكفته الملائكة وما سبح له .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، قال : سمعت صدقة يحدّث عن السديّ ، قال : هذا من الموصول والمفصول قوله : جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُمَا في شأن آدم وحوّاء ، ثم قال الله تبارك وتعالى : فَتَعالى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ قال : عما يشرك المشركون ، ولم يعنهما .
يقال إن الآية المتقدمة هي في أدم وحواء وإن الضمير في قوله { آتاهما } عائد عليهما ، قال إن الشرك الذي جعلاه هو في الطاعة ، أي أطاعا إبليس في التسمية بعبد الحارث كما كانا في غير ذلك مطيعين لله ، وأسند الطبري في ذلك حديثاً من طريق سمرة بن جندب ، ويحتمل أن يكون الشرك في أن جعلا عبوديته بالاسم لغيره ، وقال الطبري والسدي في قوله تعالى : { فتعالى الله عما يشركون } إنه كلام منفصل ليس من الأول ، وإن آدم وحواء تم في قوله { فلما آتاهم } ، وإن هذا كلام يراد به مشركوا العرب .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تحكم لا يساعده اللفظ ، ويتجه أن يقال تعالى الله عن ذلك اليسير المتوهم من الشرك في عبودية الاسم ، ويبقى الكلام في جهة أبوينا آدم وحواء عليهما السلام ، وجاء الضمير في { يشركون } ضمير جمع لأن إبليس مدبر معهما تسمية الولد عبد الحارث ، ومن قال إن الآية المتقدمة إنما الغرض منها تعديد النعمة في الأزواج وفي تسهيل النسل والولادة ثم ذكر سوء فعل المشركين بعقب ذلك ، قال في الآية الأخيرة إنها على ذلك الأسلوب وإن قوله { فتعالى الله عما يشركون } المراد بالضمير فيه المشركين ، والمعنى في هذه الآية فلما آتى الله هذين ا?نسانين صالحاً أي سليماً ذهبا به إلى الكفر وجعلا لله فيه شركاً وأخرجاه عن الفطرة ، ولفظة الشرك تقتضي نصيبين ، فالمعنى : وجعلا لله فيه ذا شرك لأن إبليس أو أصنام المشركين هي المجعولة ، والأصل أن الكل لله تعالى وبهذا حل الزجاج اعتراض من قال ينبغي أن يكون الكلام «جعلا لغيره شركاً » وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر «شِرْكاً » بكسر الشين وسكون الراء على المصدر ، وهي قراءة ابن عباس وأبي جعفر وشيبة وعكرمة ومجاهد وعاصم وأبان بن تغلب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم «شركاء » على الجمع ، وهي بينة على هذا التأويل الأخير وقلقه على قول من يقول : إن الآية الأولى في آدم وحواء ، وفي مصحف أبيّ ابن كعب «فلما آتاهما صالحاً أشركا فيه » ، وذكر الطبري في قصص حواء وآدم وإبليس في التسمية بعيد الحارث وفي صورة مخاطبتهم أشياء طويلة لا يقتضي الاختصار ذكرها .