معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (286)

وسئل سفيان بن عيينة عن قوله عز وجل { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } . قال : إلا يسرها ولم يكلفها فوق طاقتها ، وهذا قول حسن لأن الوسع ما دون الطاقة .

قوله تعالى : { لها ما كسبت } . أي للنفس ما عملت من الخير ، لها أجره وثوابه .

قوله تعالى : { وعليها ما اكتسبت } . من الشر وعليها وزره .

قوله تعالى : { ربنا لا تؤاخذنا } . أي لا تعاقبنا .

قوله تعالى : { إن نسينا } . جعله بعضهم من النسيان الذي هو السهو ، قال الكلبي : كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئاً مما أمروا به ، أو أخطأوا عجلت لهم العقوبة ، فحرم عليهم من شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب ، فأمر الله المؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك ، وقيل هو من النسيان الذي هو الترك كقوله تعالى : ( نسوا الله فنسيهم ) .

قوله تعالى : { أو أخطأنا } . قيل معناه القصد والعمد ، يقال : أخطأ فلان إذا تعمد ، قال الله تعالى ( إن قتلهم كان خطأً كبيراً ) قال عطاء : { إن نسينا أو أخطأنا } يعني : أن جهلنا أو تعمدنا ، وجعله الأكثرون من الخطأ الذي هو الجهل والسهو ، لأن ما كان عمداً من الذنب فغير معفو عنه بل هو في مشيئة الله ، والخطأ معفو عنه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " .

قوله تعالى : { ربنا ولا تحمل علينا إصراً } . أي عهداً ثقيلاً وميثاقا لا نستطيع القيام به فتعذبنا بنقضه وتركه .

قوله تعالى : { كما حملته على الذين من قبلنا } . يعني اليهود ، فلم يقوموا به فعذبتهم ، هذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والسدي والكلبي وجماعة يدل عليه قوله تعالى ( وأخذتم على ذلكم إصري ) أي عهدي ، وقيل معناه : لا تشدد ولا تغلظ الأمر علينا كما شددت على من قبلنا من اليهود ، وذلك أن الله فرض عليهم خمسين صلاة وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة ، ومن أصاب ثوبه نجاسة قطعها ، ومن أصاب ذنباً أصبح وذنبه مكتوب على بابه ، ونحوها من الأثقال والأغلال ، وهذا يعني قول عثمان وعطاء ومالك بن أنس وأبي عبيدة وجماعة يدل عليه قوله تعالى : " ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " وقيل : الإصر ذنب لا توبة له ، معناه أعصمنا من مثله ، والأصل في العقل والإحكام .

قوله تعالى : { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } . أي لا تكلفنا من الأعمال مالا نطيقه ، وقيل هو حديث النفس والوسوسة . حكي عن مكحول أنه قال : هو الغلمة ، قيل : الغلمة : شدة الشهوة ، وعن إبراهيم قال : هو الحب ، وعن محمد بن عبد الوهاب قال : العشق ، وقال ابن جريج : هو مسخ القردة والخنازير وقيل هو شماتة الأعداء ، وقيل : هو الفرقة والقطيعة نعوذ بالله منها .

قوله تعالى : { واعف عنا } . أي تجاوز وامح عنا ذنوبنا .

قوله تعالى : { واغفر لنا } . استر علينا ذنوبنا ولا تفضحنا .

قوله تعالى : { وارحمنا } . فإننا لا ننال العمل إلا بطاعتك ، ولا نترك معصيتك إلا برحمتك .

قوله تعالى : { أنت مولانا } . ناصرنا وحافظنا وولينا .

قوله تعالى : { فانصرنا على القوم الكافرين } . روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل ( غفرانك ربنا ) قال الله تعالى قد غفرت لكم وفي قوله ( لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) قال : لا أوأخذكم ( ربنا ولا تحمل علينا إصراً ) قال : لا أحمل عليكم إصراً { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } قال : لا أحملكم { واعف عنا } إلى آخره قال قد عفوت عنكم ، وغفرت لكم ، ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين . وكان معاذ بن جبل إذا ختم سورة البقرة قال : آمين .

/خ286

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (286)

ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر رحمته بعباده فقال : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } والوسع - كما يقول الزمخشري - : ما يسع الإِنسان ، ولا يضيق عليه ، ولا يحرج فيه ، أي لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ، ويتيسر عليه دون مدى الطاقة والمجهود . وهذا إخبار عن عدله . ورحمته كقوله - تعالى - : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } لأنه كان في إمكان الإِنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس ، ويصوم أكثر من الشهر ، ويجمع أكثر من حجة .

فالجملة الكريمة تحكي لنا بعض مظاهر فضل الله علينا ورحمته بنا ، حيث كلفنا بما تسعه قدرتنا ، وتستطيعه نفوسنا ، وقد حكى القرآن هذا المعنى في آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } وقوله - تعالى - : { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسانُ ضَعِيفاً } وإذا كانت بعض التكاليف التي كلفنا الله بها في مشقة ، فإن هذه المشقة محتملة وفي وسع الإِنسان وقدرته وطاقته ، وسثيبنا الله - تعالى - عليها ثوابا جزيلا ، فهو القائل : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } ثم بين - سبحانه - أن كل نفس ستجازى بما عملت فقال : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } أي لها وحدها ثواب ما كسبت من حسنات بسبب أعمالها الصالحة ، وعليها وحدها عقاب ما اكتسبت من سيئات بسبب أعمالها القبيحة .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم خص الخير بالكسب ، والشر بالاكتساب ؟ قلت . في الاكتساب اعتمال ، فلما ان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمارة به ، كانت في تحصيلة أعمل وأجد ، فجعلت لذلك مكتسبة فيه ، ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال .

وقال الأستاذ الإِمام محمد عبده : " لا شك أن الميل إلى الخير مما أودع في نفس الإِنسان والإِنسان يفعل الخير بطبعه وتكون فيه لذته . ولا يحتاج إلى تكلف في فعل الخير ، لأنه يعلم أن كل أحد يرتاح إليه ويراه بعين الرضا وأما الشر فإنه يعرض للنفس بأسباب ليست من طبيعتها ولا من مقتضى فطرتها ومهما كان الإِنسان شريراً فإنه لا يخفى عليه أن الشر ممقوت عند الناس وصاحبه مهين عندهم . . وهكذا شأن الإِنسان عند اقتراف كل شر يشعر في نفسه بقبحه ، ويجد من أعمال سريرته هاتفا يقول له : لا تفعل ، ويحاسبه بعد الفعل ويوبخه إلا في النادر . . " .

وبعد بيان سنة الله - تعالى - في التكليف وفي الجزاء عليه ، ختم - سبحانه - السورة الكريمة بتلك الدعوات الجامعات للسعادة حتى يكثر المؤمنون من التضرع بها فقال - تعالى - : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } أي : ربنا يا واسع العفو والمغفرة لا تؤاخذنا أي لا تعاقبنا { نَّسِينَآ } أمرك ونهيك { أَوْ أَخْطَأْنَا } ففعلنا خلاف الصواب جهلا منا بوجهه الشرعي .

فأنت ترى أن هؤلاء الذين اتقوا ربهم ، فصفت نفوسهم ، وطهرت قلوبهم ، وخشعت جوارحهم ، يتضرعون إلى الله أن يغفر لهم ما فرط منهم نسياناً أو خطأ ، وذلك لأن المؤمن عندما يصل إلى هذه الدرجة من التقوى والصفاء يشعر بأن الله - تعالى - يحاسبه على ما لا حساب عليه ، ويشعر بأن حسناته - مهما كثرت - فهي قليلة بجانب هفواته وسيئاته ، فهو لشدة خشيته من الله يرجح جانب المؤاخذة على جانب العفو فيكثر من الضراعة والدعاء .

وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى بقوله : فإن قلت : النسيان والخطأ متجاوز عنهما فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة بهما ؟ قلت : . . . لأنهم كانوا متقين الله حق تقاته ، فما كانت تفرط منهم فرطة إلا على وجه النسيان والخطأ . فكأن وصفهم بالدعاء بذلك إيذاناً ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به . كأنه قيل : إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به ، فما فيهم سبب مؤاخذة إلا الخطأ والنسيان . ويجوز أن يدعو الإِنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله لاستدامته والاعتداد بالنعمة فيه .

هذا هو الدعاء الأول الذي حكاه القرآن عن المؤمنين الصادقين .

أما الدعاء الثاني فهو قوله - سبحانه - : { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا } .

والإِصر في اللغة : الثقل والشدة . مأخوذ من أصر بمعنى حبس ، فكأنه يحبس صاحبه في مكانه فيمنعه من الحركة .

والمعنى : أن أولئك يضرعون إلى الله - تعالى - ألا يلقى تكاليف وأعباء شديدة ، يثقل عليهم حملها ويعجزون عن أدائها ، كما كان الحال بالنسبة للذين سبقوهم ؛ فقد كلف الله - تعالى - بني إسرائيل بتكاليف شاقة ثقيلة بسبب تعنتهم وفسوقهم عن أمره ، ومن ذلك تكليفهم بقتل أنفسهم إذا أرادوا أن يتوبوا توبة صادقة ، وتحريم بعض الطيبات عليهم بسبب ظلمهم قال - تعالى- : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ . . . } قال الرازي : والمؤمنون إنما طلبوا هذا التخفيف لأن التشديد مظنة التقصير . والتقصير موجب للعقوبة ، ولا طاقة لهم بعذاب الله - تعالى - فلا جرم التمسوا السهولة في التكاليف .

أما الدعاء الثالث فهو قوله - تعالى - : { وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } .

الطاقة - كما يقول الراغب - : اسم لمقدار ما يمكن للإِنسان أن يفعله بمشقة ، وذلك تشبيه بالطوق المحيط ، فقوله - تعالى - : { وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } أي ما يصعب علينا مزاولته ، وليس معناه لا تحملنا ما لا قدرة لنا به .

فالطاقة على هذا تكون فيما فعله بأقصى القدرة والقوة .

أي : ونسألك يا ربنا ألا تحلمنا ما هو فوق طاقتنا وقدرتنا من المصائب والعقوبات وغير ذلك من الأمور التي لا نستطيعها .

وهذا الدعاء هو تدرج مترتب على الدعاء السابق ، فهم هنا يلتمسون منه - سبحانه - ألا ينزل بهم ما هو فوق قدرتهم وطاقتهم من بلايا ومحن ، بعد أن التمسوا منه ألا يكلفهم بتكاليف شاقة ثقيلة كما كلف الذين من قبلهم .

ثم حكى القرآن دعاءهم الرابع والخامس والسادس فقال : { واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ } أي نسألك يا ربنا أن تعفو عنا بأن تمحو عنا ما ألممنا به من ذنوب وتتجاوز عنها ، وأن تغفر لنا سيئاتنا بأن تسترها ولا تفضحنا بإظهارها فأنت وحدك الغفار الستار . وأن ترحمنا برحمتك السابغة التي شملت كل شيء ، فإننا مع تقصيرنا في طاعتك نأمل ألا تحرمنا من رحمتك فأنت تراهم قد تضرعوا إلى ربهم أن يعفو عنهم بأن يسقط عنهم العقاب وأن يغفر لهم بأن يستر عليهم ذنوبهم فلا يفضحهم بها ، وأن يشملهم بعطفه ورحمته .

وهي دعوات تدل على رقة إحساسهم ، ونقاء نفوسهم ، وشدة خشيتهم من ربهم ، وشعورهم نحوه بالتقصير مهما قدموا من أعمال صالحة .

ثم ختموا دعاءهم بقوله - تعالى - : { أَنتَ مَوْلاَنَا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } أي : أنت مولانا وناصرنا وحافظنا ومعيننا وممدنان بالخير والهدى فانصرنا يا ربنا على القوم الكافرين لكي تكون كلمتك هي العليا ، وكلمة الذين كفروا هي السفلى .

وقولهك { أَنتَ مَوْلاَنَا } يدل على نهاية خضوعهم وتذللهم وطاعتهم لله رب العالمين لأنهم قد اعترفوا بأنه - سبحانه - هو المتولي لكل نعمة يصلو إليها .

قال ابن كثير : وقد ورد في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أن الله - تعالى - قال عقب كل دعوة من هذه الدعوات : قد فعلت " .

وروى البخاري والجماعة عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن نبي قبلي " .

وبعد فهذه هي سورة البقرة التي اشتملت على ما يشفي الصدور ، ويهدي القلوب ، ويصلح النفوس : من توجيهات سامية ، وآداب حميدة ، وعقائد ، سليمة ، وتشريعات حكيمة ، وأمثال هادبة ، وقصص من شأنه أن يغرس في النفوس الخلق القويم ، وأن يغريها بالاتعاظ والاعتبار حتى تكون ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه .

ولقد سبق لنا أن تكلمنا قبل البدء في تفسيرها عن وقت نزولها ، وعن فضلها وعن مقاصدها الإِجمالية . . .

والله نسأل أن ينفعنا بها وبكتابة الكريم ، وأن يجعل أقوالنا وأعمالنا خالصة لوجهه ، ونافعة لعباده .

اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ، ونور أبصارنا وبصائرنا ، وجلاء همنا وحزنا ، وأعنا على إتمام ما قصدناه بفضلك ورعايتك يا أكرم الأكرمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن سار على طريقته إلى يوم الدين .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (286)

285

قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن بيان ، عن حكيم عن جابر قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } قال جبريل : إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك ، فسل تُعْطه .

فسأل : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } إلى آخر الآية

وقوله : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } أي : لا يكلف أحدًا فوق طاقته ، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم ، وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة ، في قوله : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّه } أي : هو وإن حاسب وسأل لكن لا يعذب إلا بما يملك{[4712]} الشخص دفعه ، فأما ما لا يمكن دفعه من وسوسة النفس وحديثها ، فهذا لا يكلف به الإنسان ، وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان .

وقوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } أي : من خير ، { وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } أي : من شر ، وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف ، ثم قال{[4713]} تعالى مرشدًا عباده إلى سؤاله ، وقد تكفل لهم بالإجابة ، كما أرشدهم وعلمهم أن يقولوا : { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ [ نَسِينَا ]{[4714]} } أي : إن تركنا فرضًا على جهة النسيان ، أو فعلنا حرامًا كذلك ، { أَوْ أَخْطَأْنَا } أي : الصوابَ في العمل ، جهلا منا بوجهه الشرعي .

وقد تقدم في صحيح مسلم لحديث أبي هريرة : " قال الله : نعم " ولحديث{[4715]} ابن عباس قال الله : " قد فعلت " .

وروى ابن ماجة في سننه ، وابن حبان في صحيحه{[4716]} من حديث أبي عمرو الأوزاعي ، عن عطاء - قال ابن ماجة في روايته : عن ابن عباس . وقال الطبراني وابن حبان : عن عطاء ، عن عبيد بن عُمير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله وضع{[4717]} عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه " . وقد روي من طُرُق أخَرَ وأعله{[4718]} أحمد وأبو حاتم{[4719]} والله أعلم . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن شهر ، عن أم الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث : عن الخطأ ، والنسيان ، والاستكراه " قال أبو بكر : فذكرت ذلك للحسن ، فقال : أجل ، أما تقرأ بذلك قرآنا : { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }{[4720]} .

وقوله : { رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } أي : لا تكلّفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها ، كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والآصار التي كانت عليهم ، التي بعثتَ نبيَك محمدًا صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة بوضعه في شرعه الذي أرسلته به ، من الدين الحنيف السهل السمح .

وقد ثبت في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله : نعم " .

وعن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله : قد فعلت " . وجاء الحديث من طرق ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " بعثت بالحَنيفيَّة السمحة " {[4721]} .

وقوله : { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } أي : من التكليف والمصائب والبلاء ، لا تبتلينا بما لا قبل لنا به .

وقد قال مكحول في قوله : { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال : الغرْبة والغلمة ، رواه{[4722]} ابن أبي حاتم ، " قال الله : نعم " وفي الحديث الآخر : " قال الله : قد فعلت " .

وقوله : { وَاعْفُ عَنَّا } أي : فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا ، { وَاغْفِرْ لَنَا } أي : فيما بيننا وبين عبادك ، فلا تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة ، { وَارْحَمْنَا } أي : فيما يُسْتَقبل ، فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر ، ولهذا قالوا : إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء : أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه ، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم ، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره . وقد تقدم في الحديث أن الله قال : نعم . وفي الحديث الآخر : " قال الله : قد فعلت " .

وقوله : { أَنْتَ مَوْلانَا } أي : أنت ولينا وناصرنا ، وعليك توكلنا ، وأنت المستعان ، وعليك التّكلان ، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك{[4723]} { فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } أي : الذين جحدوا دينك ، وأنكروا وحدانيتك ، ورسالة نبيك ، وعبدوا غيرك ، وأشركوا معك من عبادك ، فانصرنا عليهم ، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة ، قال الله : نعم . وفي الحديث الذي رواه مسلم ، عن ابن عباس : " قال الله : قد فعلت " .

وقال ابن جرير : حدثني المثنى بن إبراهيم ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، أن معاذًا ، رضي الله عنه ، كان إذا فرغ من هذه السورة{[4724]} { فانصرنا على القوم الكافرين } قال : آمين{[4725]} .

ورواه وَكِيع عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن رجل ، عن معاذ بن جبل : أنه كان إذا ختم البقرة قال : آمين{[4726]} .


[4712]:في أ، و: "على ما يملك".
[4713]:في جـ: "وقال".
[4714]:زيادة من أ، و.
[4715]:في جـ: "وبحديث".
[4716]:سنن ابن ماجة برقم (2045) وصحيح ابن حبان برقم (1498) "موارد".
[4717]:في أ: "إن الله قد وضع".
[4718]:في جـ، أ، و: "وعلله".
[4719]:العلل لابن أبي حاتم (1/431) والعلل للإمام أحمد (1/227) وانظر في تفصيل الكلام على الحديث وعلته: جامع العلوم والحكم للحافظ ابن رجب (2/361) ط. الرسالة، وفتح الباري للحافظ ابن حجر (5/161).
[4720]:ورواه ابن عدي في الكامل (3/325) من طريق أبي بكر الهذلي، عن شهر بن حوشب، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء مرفوعا وليس عنده قول أبي بكر للحسن.
[4721]:جاء من حديث أبي أمامة، وابن عباس، وعائشة، وجابر رضي الله عنهم، أصحها حديث ابن عباس رواه الإمام أحمد في المسند (1/236) وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح.
[4722]:في جـ: "ورواه".
[4723]:في جـ: "إلا بالله".
[4724]:في جـ: "من سورة البقرة".
[4725]:تفسير الطبري (6/146).
[4726]:جاء في جـ: "آخر تفسير سورة البقرة ولله الحمد والمنة والفضل والثناء الحسن الجميل، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، يتلوه إن شاء الله سورة آل عمران".