قوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة } أي : نفس مثقلة بذنوبها غيرها ، { إلى حملها } أي : حمل ما عليها من الذنوب ، { لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى } أي : ولو كان المدعو ذا قرابة له ابنه أو أباه أو أمه أو أخاه . قال ابن عباس : يلقى الأب والأم ابنه فيقول : يا بني احمل عني بعض ذنوبي ، فيقول : لا أستطيع حسبي ما علي . { إنما تنذر الذين يخشون } يخافون ، { ربهم بالغيب } ولم يروه . وقال الأخفش : تأويله أي : إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم بالغيب ، { وأقاموا الصلاة ومن تزكى } أصلح وعمل خيراً ، { فإنما يتزكى لنفسه } لها ثوابه . { وإلى الله المصير* }
ثم بين - سبحانه - أن كل نفس تتحمل نتائج أعمالها وحدها فقال : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } .
وقوله : { تَزِرُ } من الوزر بمعنى الحمل . يقال : فلان وزر هذا الشئ إذا حمله . وفعله من باب " وعد " ، وأكثر ما يكون استعمالاً فى حمل الآثم .
وقوله { وَازِرَةٌ } : صفة لموصوف محذوف . أى : ولا تحمل نفس آثمة ، إثم نفس أخرى ، وإنما كل نفس مسئولة وحدها عن أفعالها وأقوالها التى باشرتها ، أو تسببت فيها .
وقوله : { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } مؤكد لضممون ما قبله ، من مسئولية كل نفس عن أفعالها .
وقوله : { مُثْقَلَةٌ } صفة لموصوف محذوف ، والمفعول محذوف - أيضاً - للعلم به .
وقوله { حِمْلِهَا } أى : ما تحمله من الذنوب والآثام ، إذ الحمل - بكسر الحاء - ما يحمله الإِنسان من أمتعة على ظهره أو رأسه أو كتفه .
والمعنى : لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ، وإن تنطلب نفس مثقلة بالذنوب من نفس أخرى ، أن تحمل عنها شيئاً من ذنوبها التى أثقلتها ، لا تجد استجابة منها ، ولو كانت تلك النفس الأخرى من أقربائها وذوى رحمها .
قال - تعالى - : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً . . . } .
وقال - سبحانه - : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هلا قيل : ولا تزر نفس وزر أخرى ؟ قلت : لأن المعنى أن النفوس الوازرات لا ترى واحدة منهن إلا حاملة وزرها ، ولا وزر غيرها .
فإن قلت : كيف توفق بين هذا ، وبين قوله : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } قلت : تلك الآية فى الضالين المضلين ، وأنهم يحملون أثقال إضلالهم لغيرهم ، مع أثقالهم ، وذلك كله أوزارهم ، ما فيها شئ من وزر غيرهم .
فإن قلت : فما الفرق بين معنى { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } وبين معنى : { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ . . } ؟
قلت : الأول فى الدلالة على عدل الله - تعالى - فى حكمه ، وأنه - تعالى - لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها .
والثانى : فى أنه لا غياث يومئذ لمن استغاث . . وإن كان المستغاث به بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ . . فإن قلت : إلام أسند كان فى قوله { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } ؟ قلت : إلى المدعو المفهوم من قوله : { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ } .
فإن قلت : فلم ترك ذكر المدعو ؟ قلت : " ليعم ويشمل كل مدعو " .
وقوله - تعالى - : { إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب وَأَقَامُواْ الصلاة } .
كلام مستأنف مسوق لبيان من هم أهل للاتعاظ والاستجابة للحق .
أى : أنت - أيها الرسول الكريم - إنما ينفع وعظك وإنذارك . أولئك العقلاء الذين يخشون ربهم - عز وجل - دون أن يروه ، أو يروا عذابه ، والذين يؤدون الصلاة فى مواقيتها بإخلاص وخشوع واطمئنان .
ثم حض - سبحانه - على تزكية النفوس وتطهيرها فقال : { وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ وَإِلَى الله المصير } أى : ومن تظهر من دنس الكفر والفسوق والعصيان . وحض نفسه بالإِيمان ، والعمل الصالح ، والتوبة النصوح ، فإن ثمرة تطهره إنما تعود إلى نفسه وحدها ، وإليها يرجع الأجر والثواب ، والله - تعالى - إليه وحده مصير العباد لا إلى غيره .
فالجملة الكريمة دعوة من الله - تعالى - للناس ، إلى تزيكة النفوس وتطهيرها من كل سوء ، بعد بيان أن كل نفس مسئولية وحدها عن نتائج أفعالها ، وأن أحداً لن يبلى طلب غيره فى أن يحمل شيئاً عنه من أوزاره .
وقوله : { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أي : يوم القيامة ، { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا } أي : وإن تدع نفس مثقلة بأوزارها إلى أن تُسَاعَد على حمل ما عليها من الأوزار أو بعضه ، { لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } ، أي : ولو كان قريبًا إليها ، حتى ولو كان أباها أو ابنها ، كل مشغول بنفسه وحاله ، [ كما قال تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } ] [ عبس : 34 - 37 ] . {[24506]}
قال{[24507]} عكرمة في قوله : { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا } الآية ، قال : هو الجار يتعلق بجاره يوم القيامة ، فيقول : يا رب ، سل هذا : لم كان يغلق بابه دوني . وإن الكافر ليتعلق بالمؤمن يوم القيامة ، فيقول له : يا مؤمن ، إن لي عندك يدًا ، قد عرفت كيف كنت لك في الدنيا ؟ وقد احتجت إليك اليوم ، فلا يزال المؤمن يشفع له عند ربه حتى يرده إلى [ منزل دون ]{[24508]} منزله{[24509]} ، وهو في النار . وإن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة ، فيقول : يا بني ، أيّ والد كنتُ لك ؟ فيثني خيرا ، فيقول له : يا بني إني قد احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك أنجو بها مما ترى . فيقول له ولده : يا أبت ، ما أيسر ما طلبت ، ولكني أتخوف مثل ما تتخوف ، فلا أستطيع أن أعطيك شيئا ، ثم يتعلق بزوجته فيقول : يا فلانة - أو : يا هذه - أي زوج كنت لك ؟ فتثني خيرا ، فيقول لها : إني أطلب إليك حسنة واحدة تَهَبِينَها لي ، لعلي أنجو بها مما ترين . قال : فتقول : ما أيسر ما طلبت . ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا ، إني أتخوف مثل الذي تتخوف ، يقول الله : { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا }{[24510]} الآية ، ويقول الله : { لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا } [ لقمان : 33 ] ، ويقول تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } رواه ابن أبي حاتم رحمه الله ، عن أبي عبد الله الطهراني{[24511]} ، عن حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عِكْرِمة ، به .
ثم قال : { إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ }{[24512]} أي : إنما يتعظ بما جئت به أولو البصائر والنهى ، الخائفون من ربهم ، الفاعلون ما أمرهم به ، { وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } أي : ومَنْ عمل صالحا فإنما يعود نفعه على نفسه ، { وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } أي : وإليه المرجع والمآب ، وهو سريع الحساب ، وسيجزي كل عامل بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرًّا فشر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.