فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ وَإِن تَدۡعُ مُثۡقَلَةٌ إِلَىٰ حِمۡلِهَا لَا يُحۡمَلۡ مِنۡهُ شَيۡءٞ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰٓۗ إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَيۡبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفۡسِهِۦۚ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

{ وَلا تَزِرُ } أي ولا تحمل نفس { وَازِرَةٌ } آثمة { وِزْرَ } إثم نفس { أُخْرَى } فحذف الموصوف للعلم به بل كل نفس تحمل وزرها ولا تخالف هذه الآية قوله { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم } ، لأنهم إنما حملوا أثقال إضلالهم مع أثقال ضلالهم ، والكل من أوزارهم لا من أوزار غيرهم ، ومثل هذا : حديث ( من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) ، فإن الذي سن السنة السيئة إنما حمل وزر سنته السيئة ، وقد تقدم الكلام على هذه الآية مستوفى وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة عن عمرو بن الأحوص أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في حجة الوداع : ( ألا لا يجني جان إلا على نفسه ، لا يجني والد على ولده ، ولا مولود على والده ) .

وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي وغيرهم عن أبي رمثة قال : ( انطلقت مع أبي نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما رأيته قال لأبي : ابنك هذا ؟ قال أي ورب الكعبة . قال : أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه ) . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية . قال ابن عباس : يلقى الأب والأم الابن فيقولان له : يا بني احمل عنا بعض ذنوبنا فيقول : لا أستطيع حسبي ما علي .

{ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا } قال الفراء : أي نفس مثقلة بالذنوب قال : وهذا يقع للمذكر والمؤنث . قال الأخفش : أي وإن تدع مثقلة إنسانا إلى حملها وهو ذنوبها . والحمل بالكسر ما يحمل على الظهر ونحوه ، والجمع أحمال وحمول وحملت المتاع حملا من باب ضرب فأنا حامل والأنثى حاملة بالتاء لأنها صفة مشتركة . قال ابن السكيت : الحمل بالفتح ما كان في البطن أو على رأس شجرة ، والحمل بالكسر ما كان على ظهر أو رأس ، قال الأزهري : وهذا هو الصواب وهو قول الأصمعي . وقال : امرأة حامل وحاملة إذا كانت حبلى .

{ لا يُحْمَلْ مِنْهُ } أي من حملها { شَيْءٌ } قال ابن عباس : لكونه عليه وزر لا يجد أحدا يحمل عنه من وزره شيئا { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } أي ، ولو كان الذي تدعوه ذا قرابة لها لم يحمل من حملها شيئا ، ومعنى الآية وأن تدع نفس مثقلة بالذنوب نفسا أخرى إلى حمل شيء من ذنوبها معها لم تحمل تلك المدعوة من تلك الذنوب شيئا ، ولو كانت قريبة لها من النسب كالأب والأم والإبن والأخ فكيف بغيرها ممن لا قرابة بينها وبين الداعية لها .

وقرئ : ذو قربى على أن كان تامة . كقوله : ( وإن كان ذو عسرة ) ، قال الزمخشري : ونظم الكلام أحسن ملاءمة للناقصة لأن المعنى على أن المثقلة إذا دعت أحدا إلى حملها لا يحمل منه ولو كان مدعوها ذا قربى ، وهو ملتئم . ولو قلت : ولو وجد ذو قربى لخرج عن التئامه اه .

{ إِنَّمَا تُنذِر الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ } مستأنفة مسوقة لبيان من يتعظ بالإنذار ، أي أنهم يخشونه حال كونهم غائبين عن عذابه ، أو يخشون عذابه وهو غائب عنهم ، ويخشونه في الخلوات عن الناس ، قال الزجاج : تأويله أن إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم فكأنك تنذرهم دون غيرهم ممن لا ينفعهم الإنذار كقوله : { إنما أنت منذر من يخشاها } ، وقوله : { إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمان بالغيب } .

{ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ } أي احتفلوا بأمرها ، ولم يشتغلوا عنها بشيء مما يلهيهم وأداموها { وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } وقرئ من أزكى فإنما يزكى لنفسه ، والتزكي : التطهر من أدناس الشرك والفواحش والمعنى أن من تطهر بترك المعاصي واستكثر من العمل الصالح فإنما يتطهر لنفسه لأن نفع ذلك مختص به كما أن وزر من تدنس لا يكون إلا عليه لا على غيره .

{ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ } لا إلى غيره ، ذكر سبحانه أولا : أنه لا يحمل أحد ذنب أحد ، ثم ذكر ثانيا : أن المذنب إن دعا غيره وإن كان من قرابته إلى حمل شيء من ذنوبه لا يحمله ، ثم ذكر ثالثا : أن ثواب الطاعة مختص بفاعلها ليس لغيره منه شيء ، ثم ضرب مثلا للمؤمن والكافر وقد قرر ببيان التنامي أولا بين ذاتيهما ، وثانيا بين وصفيهما ، ثالثا بين مستقريهما ، ودار بهما في الآخرة فقال : { وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى }