البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ وَإِن تَدۡعُ مُثۡقَلَةٌ إِلَىٰ حِمۡلِهَا لَا يُحۡمَلۡ مِنۡهُ شَيۡءٞ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰٓۗ إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَيۡبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفۡسِهِۦۚ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

روي أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين : اكفروا بمحمد وعليّ وزركم ، فنزلت .

وأخبر تعالى ، لا يحمله أحد عن أحد .

قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : هذه الآية في الذنوب والجرائم .

ويقال : وزر الشيء : حمله ، ووازرة : صفة لمحذوف ، أي نفس وازرة : حاملة ، وذكر الصفة ولم يذكر الموصوف مقتصراً عليه ، لأن المعنى : أن كل نفس لا ترى إلا حامله وزرها ، لا وزر غيرها ، فلا يؤاخذ نفساً بذنب نفس ، كما يأخذ جبابرة الدنيا الجار بالجار ، والصديق بالصديق ، والقريب بالقريب .

وقال ابن عطية : ومن تطرف من الحكام إلى أخذ قريب بقريبه في جريمه ، كفعل زياد ونحوه ، فإنما ذلك ظلم ، لأن المأخوذ ربما أعان المجرم بموازرة ومواصلة ، أو اطلاع على حاله وتقرير لها ، فهو قد أخذ من الجرم بنصيب . انتهى .

وكأن ابن عطية تأول أفعال زياد وما فعل في الإسلام ، وكانت سيرته قريبة من سيرة الحجاج ، ولا منافاة بين هذه الآية في العنكبوت ، لأن تلك في الضالين المضلين يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم ، فكل ذلك أثقالهم ، ما فيها من ثقل غيرهم شيء .

ألا ترى : { وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء } { وإن تدع مثقلة } : أي نفس مثقلة بحملها ، { إلى حملها لا يحمل منه شيء } : أي لا غياث يومئذ لمن استغاث ، ولا إعانة حتى أن نفساً قد أثقلتها الأوزار لو دعت إلى أن يخفف بعض وزرها لم تجب وإن كان المدعو بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ فالآية قبلها في الدلالة على عدل الله في حكمه وأنه لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها وهذه في نفي الإعانة والحمل ما كان على الظهر في الأجرام فاستعير للمعاني كالذنوب ونحوها فيجعل كل محمول متصلاً بالظهر كقوله :

{ وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } كما جعل كل اكتساب منسوباً إلى اليد .

وقرأ الجمهور : يحمل بالياء ، مبنياً للمفعول ؛ وأبو السمال عن طلحة ، وإبراهيم بن زادان عن الكسائي : بفتح التاء من فوق وكسر الميم ، وتقتضي هذه القراءة نصب شيء ، كما اقتضت قراءة الجمهور رفعه ، والفاعل بيحمل ضمير عائد على مفعول تدع المحذوف ، أي وإن تدع مثقلة نفساً أخرى إلى حملها ، لم تحمل منه شيئاً .

واسم كان ضمير يعود على المدعو المفهوم من قوله : { وإن تدع } ، هذا معنى قول الزمخشري ، قال : وترك المدعو ليعم ويشمل كل مدعو .

قال : فإن قلت : فكيف استفهام إضمار ، ولا يصح أن يكون العام ذا قربى للمثقل ؟ قلت : هو من العموم الكائن على طريق البلد . انتهى .

وقال ابن عطية : واسم كان مضمر تقديره ولو كان .

انتهى ، أي ولو كان الداعي ذا قربى من المدعو ، فإن المدعو لا يحمل منه شيئاً .

وذكر الضمير حملاً على المعنى ، لأن قوله : { مثقلة } ، لا يريد به مؤنث المعنى فقط ، بل كل شخص ، فكأنه قيل : وإن تدع شخصاً مثقلاً .

وقرىء : ولو كان ذو قربى ، على أن كان تامة ، أي ولو حضر إذا ذاك ذو قربى ودعته ، لم يحمل منه شيئاً .

وقالت العرب : قد كان لبن ، أي حضر وحدث .

وقال الزمخشري : نظم الكلام أحسن ملاءمة للناقصة ، لأن المعنى : على أن المثقلة إذا دعت أحداً إلى حملها لا يحمل منه ، وإن كان مدعوها ذا قربى ، وهو معنى صحيح ملتئم .

ولو قلت : ولو وجد ذو قربى ، لتفكك وخرج عن اتساقه والتئامه . انتهى .

وهو نسق ملتئم على التقدير الذي ذكرناه ، وتفسيره كان ، وهو مبني للفاعل ، يؤخذ المبني للمفعول تفسير معنى ، وليس مرادفاً ومرادفه ، حدث أو حضر أو وقع ، هكذا فسره النحاة .

ولما سبق ما تضمن الوعيد وبعض أهوال القيامة ، كان ذلك إنذاراً ، فذكر أن الإنذار إنما يجدي وينفع من يخشى الله .

{ بالغيب } : حال من الفاعل أو المفعول ، أي يخشون ربهم غافلين عن عذابه ، أو يخشون عذابه غائباً عنهم .

وقيل : بالغيب في السر ، وقيل : بالغيب ، أي وهو بحال غيبه عنهم إنما هي رسالة .

وقرأ الجمهور : { ومن تزكى } ، فعلاً ماضياً ، { فإنما يتزكى } : فعلاً ، مضارع تزكى ، أي ومن تطهر بفعل الطاعات وترك المعاصي ، فإنما ثمرة ذلك عائدة عليه ، وهو إنما زكاته لنفسه لا لغيره ، والتزكي شامل للخشية وإقامة الصلاة .

وقرأ العباس عن أبي عمرو : ومن يزكى فإنما يزكى ، بالياء من تحت وشدّ الزاي فيهما ، وهما مضارعان أصلهما ومن يتزكى ، أدغمت التاء في الزاي ، كما أدغمت في الذال في قوله : { يذكرون } وقرأ ابن مسعود ، وطلحة : ومن ازكى ، بإدغام التاء في الزاي واجتلاب همزة الوصل في الابتداء ؛ وطلحة أيضاً : فإنما يزكى ، بإدغام التاء في الزاي .

{ وإلى الله المصير } : وعد لمن يزكى بالثواب .