معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{تُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِۖ وَتُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَتُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّۖ وَتَرۡزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (27)

قوله تعالى : { تولج الليل في النهار } أي تدخل الليل في النهار حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات .

قوله تعالى : { و تولج النهار في الليل } حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة ، والنهار تسع ساعات ، فما نقص من أحدهما زاد في الآخر .

قوله تعالى : { وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي } . قرأ أهل المدينة وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم ( الميت ) بتشديد الياء هاهنا ، وفي الأنعام ، ويونس ، والروم في الأعراف ( لبلد ميت ) وفي فاطر ( إلى بلد ميت ) زاد نافع أو من كان ميتاً فأحييناه . ولحم أخيه ميتا ، والأرض الميتة أحييناها ، فشددها ، والآخرون يخففونها ، وشدد يعقوب ( يخرج الحي من الميت ) ( ولحم أخيه ميتاً ) ، قال ابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة : معنى الآية : يخرج الحيوان من النطفة وهي ميتة ، ويخرج النطفة من الحيوان . وقال عكرمة والكلبي : يخرج الحي من الميت ، أي الفرخ من البيضة ، وتخرج البيض من الطير ، وقال الحسن وعطاء : يخرج المؤمن من الكافر ، ويخرج الكافر من المؤمن ، والمؤمن حي الفؤاد والكافر ميت الفؤاد .

قال الله تعالى ( أو من كان ميتا فأحييناه ) . وقال الزجاج : يخرج النبات الغض الطري من الحب اليابس ، ويخرج الحب اليابس من النبات الحي النامي .

قوله تعالى : { وترزق من تشاء بغير حساب } من غير تضييق ولا تقتير .

أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد الحنفي ، أنا أبو بكر احمد بن الحسن الحيري ، أنا أبو جعفر عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم الهاشمي ، أنا محمد ابن علي بن زيد الصائغ ، أنا محمد بن أبي أزهر ، أنا الحارث بن عمير ، أنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن فاتحة الكتاب ، وآية الكرسي ، والآيتين من آل عمران ، شهد الله إلى قوله إن الدين عند الله الإسلام ، وقل اللهم مالك الملك إلى قوله بغير حساب ، مشفعات معلقات بالعرش ، ما بينهن وبين الله عز وجل حجاب . قلن : يا رب تهبطنا إلى أرضك وإلى من يعصيك ؟ قال الله عز وجل : بي حلفت ، لا يقرأكن أحد من عبادي دبر كل صلاة إلا جعلت الجنة مثواه على ما كان فيه ، وأسكنته في حظيرة القدس ، ونظرت إليه بعيني المكنونة ، وقضيت له كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة ، وأعذته من كل عدو وحاسد ، ونصرته عليهم " . رواه الحارث بن عمير وهو ضعيف .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{تُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِۖ وَتُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَتُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّۖ وَتَرۡزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (27)

ثم ذكر - سبحانه - مظهرا حسيا من مظاهر قدرته الباهرة فقال : { تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل } .

الولوج في الأصل : الدخول ، والإيلاج الإدخال . يقال : ولج فلان منزله إذا دخله ، فهو يلجه ولجا وولوجا .

وأولجته أنا إذا أدخلته ، ثم استعير لزيادة زمان النهار في الليل وعكسه بحسب المطالع والمغارب .

أي أنت يا الله يا مالك الملك . أنت الذى بقدرتك تدخل طائفة من الليل في النهار فيقصر الليل ويزيد النهار وتدخل طائفة من النهار في الليل فيقصر النهار ويزيد الليل ، وأنت وحدك الذى بقدرتك أن تجعلهما متعاقبين بأن تأتى بالليل رويداً رويداً في أعقاب النهار ، وتأتي بالنهار شيئاً فشيئاً فى أعقاب الليل ، وفى كل ذلك دليل على سعة قدرتك ، وواسع رحمتك . وتذكير واعتبار لأولى الألباب .

ثم ذكر - سبحانه - مظهرا حسيا آخر من مظاهر قدرته فقال : { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } .

قال الفخر الرازي : ذكر المفسرون فيه وجوها .

أحدها : يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر ، والكافر من المؤمن مثل كنعان من نوح .

والثاني : يخرج الحيوان - وهو حي - من النطفة - وهي ميتة - ، والدجاجة - وهي حية - من البيضة أو العكس .

والثالث : يخرج السنبلة من الحبة وبالعكس والنخلة من النواة وبالعكس : ثم قال : والكلمة محتملة للكل : أما الكفر والإيمان فقال - تعالى - { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } يريد كان كافرا فهديناه ، فجعل الكفر موتاً والإيمان حياة ، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء وجعل ما قبل ذلك ميتة فقال : { وَيُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } وقال : { فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } وقال : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } وفى الحق : إن المتدبر فى هذا الكون وما يعترى سكانه من موت وحياة ليشهد ويذعن بأن لهذا الكون خالقا قادراً هو الله الواحد القهار .

ثم ختم - سبحانه - مظاهر قدرته ورحمته بقوله { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } والرزق - كما يقول الراغب - يقال للعطاء الجارى تارة دنيوا كان أو أخرويا . وللنصيب تارة ، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة أخرى يقال : أعطى السلطان رزق الجند ، ورزقت علما ، قال - تعالى - : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت } أى : من المال والجاه والعلم " .

أي أنت يا الله يا مالك الملك ، أنت وحدك الذى ترزق من تشاء أن ترزقه بغير حساب ، أي رزقا واسعا عظيما لأنك أنت صاحب الجود والكرم ، ولأنك ليس معك شريك فيحاسبك ، بل أنت المعطى بدون محاسب ، وبدون محاسبة من تعطيه ، ولأن خزائن ملكك لا ينقصها العطاء مهما كثر .

ومن كانت هذه صفاته ، وتلك بعض مظاهر قدرته : من إيتاء الملك لمن يشاء ونزعه ممن يشاء وإيلاج الليل فى النهار والنهار فى الليل ، وإخراج الحى من الميت والميت من الحي ، كان من حقه أن يفرد بالعبادة والخضوع { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين }

قال ابن كثير : روى الطبرانى عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اسم الله الأعظم الذى إذا دُعي به أجاب في هذه الآية :

{ قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } " .

وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد وصفتا الخالق - عز وجل - بما هو أهله ، من قدرة تامة وسلطان نافذ ، ورحمة واسعة ، وهذا الوصف من شانه أن يحمل كل عاقل على إخلاص العبادة له - سبحانه - وعلى الاستجابة لكل ما أمر به أو نهى عنه رغبة في ثوابه ، ورهبة من عقابه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{تُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِۖ وَتُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَتُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّۖ وَتَرۡزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (27)

18

وهذه القوامة على شؤون البشر ، وهذا التدبير لأمرهم بالخير ، ليس إلا طرفا من القوامة الكبرى على شؤون الكون والحياة على الإطلاق :

( تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ؛ وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ؛ وترزق من تشاء بغير حساب ) . .

والتعبير التصويري لهذه الحقيقة الكبيرة ، يملأ بها القلب والمشاعر والبصر والحواس : هذه الحركة الخفية المتداخلة . حركة إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل ؛ وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي . . الحركة التي تدل على يد الله بلا شبهة ولا جدال ، متى القى القلب إليها انتباهه ، واستمع فيها إلى صوت الفطرة الصادق العميق .

وسواء كان معنى إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل هو أخذ هذا من ذاك وأخذ ذاك من هذا عند دورة الفصول . . أو كان هو دخول هذا في هذا عند دبيب الظلمة ودبيب الضياء في الأمساء والأصباح . . سواء كان هذا أو ذاك فإن القلب يكاد يبصر يد الله وهي تحرك الأفلاك ، وتلف هذه الكرة المعتمة أمام تلك الكرة المضيئة ، وتقلب مواضع الظلمة ومواضع الضياء . . شيئا فشيئا يتسرب غبش الليل إلى وضاءة النهار . وشيئا فشيئا يتنفس الصبح في غيابة الظلام . . شيئا فشيئا يطول الليل وهو يأكل من النهار في مقدم الشتاء . وشيئا فشيئا يطول النهار وهو يسحب من الليل في مقدم الصيف . . وهذه أو تلك حركة لا يدعي الإنسان أنه هو الذي يمسك بخيوطها الخفية الدقيقة ؛ ولا يدعي كذلك عاقل أنها تمضي هكذا مصادفة بلا تدبير !

كذلك الحياة والموت ، يدب أحدهما في الآخر في بطء وتدرج . كل لحظة تمر على الحي يدب فيه الموت إلى جانب الحياة ، ويأكل منه الموت وتبنى فيه الحياة ! خلايا حية منه تموت وتذهب ، وخلايا جديدة فيه تنشأ وتعمل . وما ذهب منه ميتا يعود في دورة أخرى إلى الحياة . وما نشأ فيه حيا يعود في دورة أخرى إلى الموت . . هذا في كيان الحي الواحد . . ثم تتسع الدائرة فيموت الحي كله ، ولكن خلاياه تتحول إلى ذرات تدخل في تركيب آخر ثم تدخل في جسم حي فتدب فيها الحياة . . وهكذا دورة دائبة في كل لحظة من لحظات الليل والنهار . . ولا يدعي الإنسان أنه هو الذي يصنع من هذا كله شيئا . ولا يزعم عاقل كذلك أنها تتم هكذا مصادفة بلا تدبير !

حركة في كيان الكون كله وفي كيان كل حي كذلك . حركة خفية عميقة لطيفة هائلة . تبرزها هذه الإشارة القرآنية القصيرة للقلب البشري والعقل البشري ؛ وهي تشي بيد القادر المبدع اللطيف المدبر . . فأنى يحاول البشر أن ينعزلوا بتدبير شأنهم عن اللطيف المدبر ؟ وأنى يختارون لأنفسهم أنظمة من صنع أهوائهم وهم قطاع من هذا الكون الذي ينظمه الحكيم الخبير

ثم أنى يتخذ بعضهم بعضا عبيدا ، ويتخذ بعضهم بعضا أربابا ، ورزق الجميع بيد الله وكلهم عليه عيال :

( وترزق من تشاء بغير حساب ) . .

إنها اللمسة التي ترد القلب البشري إلى الحقيقة الكبرى . حقيقة الألوهية الواحدة . حقيقة القوامة الواحدة . وحقيقة الفاعلية الواحدة وحقيقة التدبير الواحد . وحقيقة المالكية الواحدة وحقيقة العطاء الواحد . ثم حقيقة أن الدينونة لا تكون إلا لله القيوم ، مالك الملك ، المعز المذل ، المحيي المميت ، المانح المانع ، المدبر لأمر الكون والناس بالقسط والخير على كل حال .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{تُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِۖ وَتُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَتُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّۖ وَتَرۡزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (27)

حقيقة « تُولج » تدخل وهو هنا استعارة لتعاقب ضوء النهار وظلمة الليل ، فكأنَّ أحدهما يدخل في الآخر ، ولازدياد مدة النهار على مدة الليل وعكسه في الأيام والفصول عدا أيام الاعتدال وهي في الحقيقة لحظات قليلة ثم يزيد أحدهما لكنّ الزيادة لا تدرك في أولها فلا يعرفها إلاّ العلماء ، وفي الظاهر هي يومان في كل نصف سنة شمسية قال ابن عرفة : « كان بعضهم يقول : القرآن يشتمل على ألفاظ يفهمها العوامّ وألفاظ يفهمها الخواصّ وما يفهمه الفريقان ومنه هذه الآية ؛ فإنّ الإيلاج يشمل الأيام التي لا يفهمها إلاّ الخواص والفصولَ التي يدركها سائر العوام » .

وفي هذا رمز إلى ما حدث في العالم من ظلمات الجهالة والإشراك ، بعد أن كان الناس على دين صحيح كدين موسى ، وإلى ما حدث بظهور الإسلام من إبطال الضلالات ، ولذلك ابتدىء بقوله : { تولج الليل في النهار } ، ليكون الانتهاء بقوله : { وتولج النهار في الليل } ، فهو نظير التعريض الذي بيّنته في قوله : { تؤتي الملك من تشاء } الآية . والذي دل على هذا الرمز افتتاح الكلام بقوله : { اللهم مالك الملك } إلخ .

وإخراج الحي من الميّت كخروج الحيوان من المضغة ، ومن مُح البيضة . وإخراج الميت من الحي في عكس ذلك كلّه ، وسيجيء زيادة بيان لهذا عند قوله : { ومن يخرج الحي من الميّت } في سورة يونس ( 31 ) . وهذا رمز إلى ظهور الهُدى والملك في أمّة أمية ، وظهور ضلال الكفر في أهل الكتابين ، وزوال الملك من خَلَفهم يعد أن كان شعار أسلافهم ، بقرينة افتتاح الكلام بقوله : اللهم مالك الملك } إلخ .

وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، وخلف : « الميّت » بتشديد التحتية . وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم ، ويعقوب : بسكون التحتية وهما وجهان في لفظ الميت .

وقوله : { وترزق من تشاء بغير حساب } هو كالتذييل لذلك كلّه .

والرزق ما يَنتفع به الإنسان فيطلق على الطعام والثمارَ كقوله : { وجد عندها رزقاً } [ آل عمران : 37 ] وقوله : { فليأتكم برِزق منه } [ الكهف : 19 ] ، ويطلق على أعمّ من ذلك ممّا ينتفع به كما في قوله تعالى : { يَدْعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب . وعندهم قاصرات الطَّرف أتراب } ثم قال { إنّ هذا لَرِزْقُنا مَالَه من نَفَاد } [ ص : 51 54 ] وقوله : { قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله } ومن ثم سميت الدراهم والدنانير رزقاً : لأنّ بها يعوض ما هو رزق ، وفي هذا إيماء إلى بشارة للمسلمين بما أخبىء لهم من كنوز الممالك الفارسية والقيصرية وغيرها .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{تُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِۖ وَتُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَتُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّۖ وَتَرۡزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (27)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل}: ما تنقص في الليل داخل في النهار، وهما هكذا إلى أن تقوم الساعة. {وتخرج الحي من الميت}: فهو الناس والدواب والطير، خلقهم من نطفة وهي ميتة، وخلق الطير من البيضة وهي ميتة. {وتخرج الميت من الحي}: يخرج الله عز وجل هذه النطفة من الحي، وهم الناس والدواب والطير. {وترزق من تشاء بغير حساب}: يقول سبحانه: ليس فوقي ملك يحاسبني، أنا الملك أعطي من شئت بغير حساب، لا أخاف من أحد يحاسبني...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

{تُولِجُ}: تدخل، يقال منه: قد ولج فلان منزله: إذا دخله، وأولجته أنا: إذا أدخلته. {تُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهارِ}: تدخل ما نقصت من ساعات الليل في ساعات النهار، فتزيد من نقصان هذا في زيادة هذا. {وَتُولِجُ النّهَارَ فِي اللّيْلِ}: وتدخل ما نقصت من ساعات النهار في ساعات الليل، فتزيد في ساعات الليل ما نقصت من ساعات النهار...

فيكون الليل أحيانا أطول من النهار، والنهار أحيانا أطول من الليل.

{وتُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وَتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ}: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: تأويل ذلك: أنه يخرج الشيء الحيّ من النطفة الميتة، ويخرج النطفة الميتة من الشيء الحيّ.

وقال آخرون: معنى ذلك: أنه يخرج النخلة من النواة، والنواة من النخلة، والسنبل من الحبّ والحبّ من السنبل، والبيض من الدجاج، والدجاج من البيض.

وقال آخرون: معنى ذلك: أنه يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن... والمؤمن عبد حيّ الفؤاد، والكافر عبد ميت الفؤاد.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه، فإذا بامرأة حسنة النّعْمة، فقال: «مَنْ هَذِهِ؟» قالت: إحدى خالاتك، قال: «إنّ خالاتِي بِهَذِهِ البَلدةِ لغَرَائِبُ! وأيّ خالاتِي هَذِهِ؟» قالت: خلْدة ابنة الأسود بن عبد يغوث، قال: «سُبْحانَ الّذِي يُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ» وكانت امرأة صالحة، وكان أبوها كافرا.

وأولى التأويلات التي ذكرناها في هذه الآية بالصواب تأويل من قال: يخرج الإنسان الحيّ والأنعام والبهائم الأحياء من النطف الميتة، وذلك إخراج الحيّ من الميت، ويخرج النطفة الميتة من الإنسان الحيّ والأنعام والبهائم الأحياء، وذلك إخراج الميت من الحيّ، وذلك أن كل حيّ فارقه شيء من جسده، فذلك الذي فارقه منه ميت، فالنطفة ميتة لمفارقتها جسد من خرجت منه، ثم ينشئ الله منها إنسانا حيا وبهائم وأنعاما أحياء، وكذلك حكم كل شيء حيّ زايله شيء منه، فالذي زايله منه ميت، وذلك هو نظير قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وكُنْتُمْ أمواتا فأحْيَاكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ ثُمّ إلَيْهِ تُرْجَعُون}.

وأما تأويل من تأوّله بمعنى الحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة، والبيضة من الدجاجة، والدجاجة من البيضة، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، فإن ذلك وإن كان له وجه مفهوم، فليس ذلك الأغلب الظاهر في استعمال الناس في الكلام، وتوجيه معاني كتاب الله عزّ وجلّ إلى الظاهر المستعمل في الناس، أولى من توجيهها إلى الخفيّ القليل في الاستعمال.

{وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ}: أنه يعطي من يشاء من خلقه، فيجود عليه بغير محاسبة منه لمن أعطاه، لأنه لا يخاف دخول انتقاص في خزائنه، ولا الفناء على ما بيده.

فتأويل الآية إذا: اللهمّ يا مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعزّ من تشاء، وتذلّ من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، دون من ادّعى الملحدون أنه لهم إلَه ورب وعبدوه دونك، أو اتخذوه شريكا معك، أو أنه لك ولد وبيدك القدرة التي تفعل هذه الأشياء، وتقدر بها على كل شيء، تولج الليل في النهار، وتولج النهار في الليل، فتنقص من هذا وتزيد في هذا، وتنقص من هذا وتزيد في هذا، وتخرج من ميت حيا، ومن حيّ ميتا، وترزق من تشاء بغير حساب من خلقك، لا يقدر على ذلك أحد سواك، ولا يستطيعه غيرك... أي فإن كنت سلطت عيسى على الأشياء التي بها يزعمون أنه إلَه، من إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، والخلق للطير من الطين، والخبر عن الغيوب لتجعله آية للناس، وتصديقا له في نبوّته التي بعثته بها إلى قومه، فإنّ من سلطاني وقدرتي ما لم أعطه، كتمليك الملوك، وأمر النبوّة ووضعها حيث شئت، وإيلاج الليل في النهار، والنهار في الليل، وإخراج الحيّ من الميت، والميت من الحيّ، ورزق من شئت من برّ أو فاجر بغير حساب، فكل ذلك لم أسلط عيسى عليه، ولم أملكه إياه، فلم يكن لهم في ذلك عبرة وبينة، إذ لو كان إلَها لكان ذلك كله إليه وهو في علمهم يهرب من الملوك، وينتقل منهم في البلاد من بلد إلى بلد.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

ثم ذكر قدرته الباهرة بذكر حال الليل والنهار في المعاقبة بينهما، وحال الحيّ والميت في إخراج أحدهما من الآخر، وعطف عليه رزقه بغير حساب دلالة على أنّ من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للأفهام ثم قدر أن يرزق بغير حساب دلالة من يشاء من عباده، فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{وترزق من تشاء بغير حساب}: ففيه وجوه: الأول: أنه يعطي من يشاء ما يشاء لا يحاسبه على ذلك أحد، إذ ليس فوقه ملك يحاسبه بل هو الملك يعطي من يشاء بغير حساب. والثاني: ترزق من تشاء غير مقدور ولا محدود، بل تبسطه له وتوسعه عليه... والثالث: ترزق من تشاء بغير حساب، يعني على سبيل التفضل من غير استحقاق لأن من أعطى على قدر الاستحقاق فقد أعطى بحساب. وقال بعض من ذهب إلى هذا المعنى: إنك لا ترزق عبادك على مقادير أعمالهم، والله أعلم...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما ظهر في هذه الآية افتراق في النزع والإيتاء والإعزاز والإذلال أبدى في الآية التالية توالج بعضها في بعض ليؤذن بولوج العز في الذل والذل في العز، والإيتاء في النزع والنزع في الإيتاء، وتوالج المفترقات والمتقابلات بعضها في بعض، ولما كانت هذه السورة متضمنة لبيان الإحكام والتشابه في منزل الكتاب بحكم الفرقان أظهر تعالى في آياتها ما أحكم وبين في خلقه وأمره وما التبس وأولج في خلقه وأمره، فكان من محكم آية في الكائن القائم الآدمي ما تضمنه إيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال، وكان من الاشتباه إيلاج العز في الذل وإيلاج الذل في العز،... {وتولج النهار في اللَّيل} أي تدخل كلاً منهما في الآخر بعد ظهوره حتى يذهب فيه فيخفى ولا يبقى له أثر. قال الحرالي: ولما جعل المتعاقبين من الليل والنهار متوالجين جعل المتباطنين من الحي والميت مخرجين، فما ظهر فيه الموت بطنت فيه الحياة، وما ظهرت فيه الحياة بطن فيه الموت؛ انتهى...

ولما بدأ الآية سبحانه وتعالى مما يقتضي الترغيب بما هو محط أحوال الأنفس من الملك وأنواع الخير ختمها بمثل ذلك مما لا يقوم الملك ولا يطيب العيش إلا به فقال: {وترزق من تشاء} قوياً كان أو ضعيفاً {بغير حساب *} أي تعطيه عطاء واسعاً جداً متصلاً من غير تضييق ولا عسر، كما فعل بأول هذه الأمة على ما كانوا فيه من القلة والضعف حيث أباد بهم الأكاسرة والقياصرة وآتاهم كنوزهم وأخدمهم أبناءهم وأحلهم ديارهم...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل}: أي تدخل طائفة من الليل في النهار، فيقصر الليل من حيث يطول النهار، وتدخل طائفة من النهار في الليل فيطول هذا من حيث يقصر ذاك. أي إنك بحكمتك في تدبير الأرض وتكويرها وجعل الشمس بحسبان تزيد في أحد الجديدين ما يكون سببا لنقص الآخر، فلا ينكر على قدرتك وحكمتك أن تؤتي في أحد الجديدين ما يكون سببا لنقص الآخر فلا ينكر على قدرتك وحكمتك أن تؤتي النبوة والملك من تشاء كمحمد وأمته وتنزعهما ممن تشاء كبني إسرائيل. فإنك تتصرف في شؤون الناس كما تتصرف في الليل والنهار.

{وتخرج الحي من الميت}: كالعالم من الجاهل والصالح من الطالح والمؤمن من الكافر. {وتخرج الميت من الحي}: كالكافر من المؤمن والجاهل من العالم والشرير من الخير. وقد مثل المفسرون للحياة الحسية بخروج النخلة من النواة والعكس وخروج الإنسان من النطفة والطائر ونحوه من البيضة وبالعكس والتمثيل صحيح وإن أثبت علماء هذا الشأن أن في النطفة حياة وكذا في البيضة والنواة لأن هذه الحياة اصطلاحية لأهل الفن في عرفهم دون العرف العام الذي جاء التنزيل به. ومن الأمثلة الصحيحة في العرفين خروج النبات من التراب. وقد جاء القرآن بتسمية ما يقابل الحي ميتا سواء كانت الحياة حسية او معنوية وسواء كان ما أطلق عليه لفظ الميت مما يعيش ويحيا أم لا وهو استعمال عربي صحيح فصيح.

والجملة كسابقتها مثال ظاهر لكونه تعالى مالك الملك يؤتي الملك من يشاء إلخ ما في الآية السابقة وكل شيء عنده بمقدار. فقد أخرج من العرب الأميين، خاتم النبيين المرسلين، كما أخرج من سلائل الأنبياء والصديقين، أولئك الأشرار المفسدين، ذلك ان سننه تعالى في الاجتماع قد أعدت الأمة العربية لأن يظهر خاتم النبيين منها أعدتها لذلك بارتقاء الفكر واستقلاله وبقوة الإرادة واستقلالها حتى صارت هذه الأمة أقوى أمم الأرض استعدادا لقبول الدين الذي هدم بناء التقليد والاستعباد، واستبدل به بناء الاستدلال والاستقلال، من حيث كان بنوا إسرائيل كغيرهم من الأمم يرسفون في قيود التقليد للأحبار والرهبان، مرتكسين في أغلال الاستبداد من الملوك والحكام فما أعطى سبحانه ما أعطى ونزع ما نزع إلا بإقامة السنن التي هي قوام النظام ومناط الإبداع والإحكام {والله يرزق من يشاء بغير حساب} يطلب منه، لأن الأمر كله بيده، وليس فوقه أحد يحاسبه، أو بغير تضييق ولا تقتير، أو بغير حساب من هذا المرزوق ولا تقدير، ولكنه بقدر وحساب، ممن وضع السنن والأسباب.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وهذه القوامة على شؤون البشر، وهذا التدبير لأمرهم بالخير، ليس إلا طرفا من القوامة الكبرى على شؤون الكون والحياة على الإطلاق... والتعبير التصويري لهذه الحقيقة الكبيرة، يملأ بها القلب والمشاعر والبصر والحواس: هذه الحركة الخفية المتداخلة. حركة إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل؛ وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي.. الحركة التي تدل على يد الله بلا شبهة ولا جدال، متى القى القلب إليها انتباهه، واستمع فيها إلى صوت الفطرة الصادق العميق...

حركة في كيان الكون كله وفي كيان كل حي كذلك. حركة خفية عميقة لطيفة هائلة. تبرزها هذه الإشارة القرآنية القصيرة للقلب البشري والعقل البشري؛ وهي تشي بيد القادر المبدع اللطيف المدبر.. فأنى يحاول البشر أن ينعزلوا بتدبير شأنهم عن اللطيف المدبر؟ وأنى يختارون لأنفسهم أنظمة من صنع أهوائهم وهم قطاع من هذا الكون الذي ينظمه الحكيم الخبير ثم أنى يتخذ بعضهم بعضا عبيدا، ويتخذ بعضهم بعضا أربابا، ورزق الجميع بيد الله وكلهم عليه عيال... (وترزق من تشاء بغير حساب).. إنها اللمسة التي ترد القلب البشري إلى الحقيقة الكبرى. حقيقة الألوهية الواحدة. حقيقة القوامة الواحدة. وحقيقة الفاعلية الواحدة وحقيقة التدبير الواحد. وحقيقة المالكية الواحدة وحقيقة العطاء الواحد. ثم حقيقة أن الدينونة لا تكون إلا لله القيوم، مالك الملك، المعز المذل، المحيي المميت، المانح المانع، المدبر لأمر الكون والناس بالقسط والخير على كل حال...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

إن هذه الآية في عقيدتنا تمثل نموذجاً من نماذج الخط الإسلامي في الدعاء الذي يستهدف تعميق الفكر العقيدي والرسالي في النفس بتقرير تفاصيل العقيدة والأخلاق والمسؤوليات بأسلوب الدعاء، فهو يتحدث عن صفات الله وعن البرامج العملية الأخلاقية ليختزنها الإنسان في مشاعره كما يختزنها في فكره، فإن للدعاء الإسلامي جانباً يتصل بالشعور من جهة وبالفكر من جهة أخرى. وبهذا لا ينعزل الإنسان عن فكره العملي وحياته المتحركة، بل يدخل في عمقها بأسلوب روحي فريد...