معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ بُيُوتِكُمۡ حَتَّىٰ تَسۡتَأۡنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَهۡلِهَاۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (27)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون }

قيل : معنى قوله : { حتى تستأنسوا } أي : حتى تستأذنوا وكان ابن عباس يقرأ ( حتى تستأذنوا ) ويقول : تستأنسوا خطأ من الكاتب . وكذلك كان يقرأ أبي ابن كعب ، والقراءة المعروفة تستأنسوا وهو بمعنى الاستئذان . وقيل : الاستئناس طلب الأنس ، وهو أن ينظر هل في البيت ناس ، فيؤذنهم إني داخل . وقال الخليل : الاستئناس الاستبصار من قوله : آنست ناراً ، أي : أبصرتها . وقيل : هو أن يتكلم بتسبيحة أو تكبيرة أو يتنحنح ، يؤذن أهل البيت . وجملة حكم الآية : أنه لا يدخل بيت الغير إلا بعد السلام والاستئذان . واختلفوا في أنه يقدم الاستئذان أم السلام ؟ فقال قوم : يقدم الاستئذان فيقول : أأدخل سلام عليكم ، لقوله تعالى : { حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } والأكثرون على أنه يقدم السلام فيقول : سلام عليكم أأدخل . وفي الآية تقديم وتأخير ، تقديرها : حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا . وكذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود . وروي عن كلدة بن حنبل قال : " دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ولم أسلم ولم أستأذن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ارجع فقل : السلام عليكم أأدخل " . وروي عن ابن عمر : " أن رجلاً استأذن عليه فقال : أأدخل ؟ فقال ابن عمر : لا ، فأمر بعضهم الرجل أن يسلم فسلم فأذن له " . وقال بعضهم : إن وقع بصره على إنسان قدم السلام ، وإلا قدم الاستئذان ، ثم سلم ، وقال أبو موسى الأشعري وحذيفة : يستأذن على ذوات المحارم ، ومثله عن الحسن ، وإن كانوا في دار واحدة يتنحنح ويتحرك حركة .

أخبرنا أحمد عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد عبد الله بن بشران ، أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أنبأنا أحمد بن منصور الرمادي ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن سعيد الحريري ، عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : " سلم عبد الله بن قيس على عمر بن الخطاب ثلاث مرات فلم يأذن له فرجع فأرسل عمر في أثره فقال : لم رجعت ؟ قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا سلم أحدكم ثلاثاً فلم يجب فليرجع . قال عمر : لتأتين على ما تقول ببينة وإلا لأفعلن بك كذا وكذا غير أنه قد أوعده ، قال : فجاء أبو موسى الأشعري منتقعاً لونه و أنا في حلقة جالس ، فقلنا : ما شأنك ؟ فقال : سلمت على عمر ، فأخبرنا خبره ، فهل سمع أحد منكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : نعم كلنا قد سمعه ، قال فأرسلوا معه رجلاً منهم حتى أتى عمر فأخبره بذلك " . ورواه بشر بن سعيد عن أبي سعيد الخدري ، وفيه : قال أبو موسى الأشعري : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع " . قال الحسن : الأول إعلام والثاني مؤامرة ، والثالث استئذان بالرجوع .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ بُيُوتِكُمۡ حَتَّىٰ تَسۡتَأۡنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَهۡلِهَاۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (27)

وبعد أن بين - سبحانه - قبح جريمة الزنا . وشناعة جريمة القذف ، وعقوبة كل من يقع فى هاتين الجريمتين ، أتبع ذلك ببيان الآداب التى تحمل المتمسك بها على التحلى بالفضيلة والنقاء والطهر . . . وبدأ - سبحانه - بآداب الاستئذان فقال - تعالى - : { ياأيها الذين . . . . } .

ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات ، أن امرأة من الأنصار جاءت إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إنى أكون فى بيتى على حال لا أحب أن يرانى عليها أحد ، لا والد ولا ولد ، فيأتى الأب فيدخل على وإنه لا يزال يدخل على رجل من أهلى وأنا على تلك الحال ، فكيف أصنع ؟ فنزل قوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ } .

فقال أبو بكر - رضى الله عنه - يا رسول الله ، أفرأيت الخانات والمساكن فى طرق الشام ، ليس فيها ساكن ، فأنزل الله - تعالى - : { لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ } .

والمراد بالبيوت فى قوله - تعالى - : { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً . . . } البيوت المسكونة من أصحابها ، بدليل قوله - سبحانه - بعد ذلك ، { لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } .

وقوله - تعالى - : { تَسْتَأْنِسُواْ } ، من الاستئناس بمعنى الاستعلام والاستكشاف ، فهو من آنس الشىء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا ، ومنه قوله - تعالى - { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً . . } أى : قال لأهله إنى رأيت ناراً .

ويصح أن يكون من الاستئناس الذى هو ضد الاستيحاش ، لأن الذى يقرع الباب غيره لا يدرى أيؤذن له أم لا ، فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه ، فإذا أذن له أهل البيت فى الدخول ، زالت وحشته ، ودخل وهو مرتاح النفس .

وعلى هذا المعنى يكون الكلام من باب المجاز ، حيث أطلق اللازم وهو الاستئناس ، وأريد الملزوم وهو الإذن فى الدخول .

والمعنى : يامن آمنتم بالله - تعالى - حق الإيمان ، لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم التى تسكنونها ، والتى هى مسكونة لسواكم " حتى تستأنسوا " ، أى : حتى تعلموا أن صاحب البيت قد أذن لكم ، ورضيت نفسه بدخولكم " وتسلموا على أهلها " أى : وتسلموا السلام الشرعى على أهل هذه البيوت الساكنين فيها .

وعبر - سبحانه - عن الاستئذان فى الدخول بالاستئناس ، لأنه يوحى بأن القادم قد استأنس بمن يريد الدخول عليهم وهم قد أنسوا به ، واستعدوا لاستقباله ، فهو يدخل عليهم بعد ذلك وهم متهيئون لحسن لقائه . فإذا ما صاحب كل ذلك التسليم عليهم . كان حسن اللقاء أتم وأكمل .

وعبر - سبحانه - عن الاستئذان فى الدخول بالاستئناس ، لأنه يوحى بأن القادم قد استأنس بمن يريد الدخول عليهم وهم قد أنسوا به ، واستعدوا لاستقباله ، فهو يدخل عليهم بعد ذلك وهم متهيئون لحسن لقائه . فإذا ما صاحب كل ذلك التسليم عليهم . كان حسن اللقاء أتم وأكمل .

وقوله { ذلكم } : أى الاستئناس والتسليم قبل الدخول { خَيْرٌ لَّكُمْ } من الدخول بدون استئناس أو استئذان أو تسليم .

وقوله : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } متعلق بمحذوف ، ولعل هنا للتعليل ، أى : أرشدناكم إلى هذا الأدب السامى ، وبيناه لكم ، كى تعملوا به ، وتكونوا دائما متذكرين له ، وتتركوا اقتحام بيوت غيركم بدون استئذان منهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ بُيُوتِكُمۡ حَتَّىٰ تَسۡتَأۡنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَهۡلِهَاۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (27)

27

( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ، ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون . فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم . وإن قيل لكم : ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم ، والله بما تعملون عليم . ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم . والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ) . .

لقد جعل الله البيوت سكنا ، يفيء إليها الناس ؛ فتسكن أرواحهم ؛ وتطمئن نفوسهم ؛ ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم ، ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للأعصاب !

والبيوت لا تكون كذلك إلا حين تكون حرما آمنا لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم . وفي الوقت الذي يريدون ، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس .

ذلك إلى أن استباحة حرمة البيت من الداخلين دون استئذان ، يجعل أعينهم تقع على عورات ؛ وتلتقي بمفاتن تثير الشهوات ؛ وتهيى ء الفرصة للغواية ، الناشئة من اللقاءات العابرة والنظرات الطائرة ، التي قد تتكرر فتتحول إلى نظرات قاصدة ، تحركها الميول التي أيقظتها اللقاءات الأولى على غير قصد ولا انتظار ؛ وتحولها إلى علاقات آثمة بعد بضع خطوات أو إلى شهوات محرومة تنشأ عنها العقد النفسية والانحرافات .

ولقد كانوا في الجاهلية يهجمون هجوما ، فيدخل الزائر البيت ، ثم يقول : لقد دخلت ! وكان يقع أن يكون صاحب الدار مع أهله في الحالة التي لا يجوز أن يراهما عليها أحد . وكان يقع أن تكون المرأة عاريةأو مكشوفة العورة ، هي أو الرجل ، وكان ذلك يؤذي ويجرح ، ويحرم البيوت أمنها وسكينتها ؛ كما يعرض النفوس من هنا ومن هناك للفتنة ، حين تقع العين على ما يثير .

من أجل هذا وذلك أدب الله المسلمين بهذا الأدب العالي . أدب الاستئذان على البيوت ، والسلام على أهلها لإيناسهم . وإزالة الوحشة من نفوسهم ، قبل الدخول :

( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ) . .

ويعبر عن الاستئذان بالاستئناس - وهو تعبير يوحي بلطف الاستئذان ، ولطف الطريقة التي يجيء بها الطارق ، فتحدث في نفوس أهل البيت أنسا به ، واستعدادا لاستقباله . وهي لفتة دقيقة لطيفة ، لرعاية أحوال النفوس ، ولتقدير ظروف الناس في بيوتهم ، وما يلابسها من ضرورات لا يجوز أن يشقى بها أهلها ويحرجوا أمام الطارقين في ليل أو نهار .

/خ29

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ بُيُوتِكُمۡ حَتَّىٰ تَسۡتَأۡنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَهۡلِهَاۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (27)

{ يا أيها اللذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم } التي تسكنوها فإن الآجر والمعير أيضا لا يدخلان إلا بإذن . { حتى تستأنسوا } تستأذنوا من الاستنئناس بمعنى الاستعلام من آنس الشيء إذا أبصره ، فإن المستأذن مستعلم للحال مستكشف أنه هل يراد دخوله أو يؤذن له ، أو من الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش فإن المستأذن مستوحش خائف أن لا يؤذن له فإذا أذن له استأنس ، أو تتعرفوا هل ثم إنسان من الإنس . { وتسلموا على أهلها } بأن تقولوا السلام لعيكم أأدخل . وعنه عليه الصلاة والسلام " التسليم أن يقول السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات فإن أذن له دخل وإلا رجع " { ذلكم خير لكم } أي الاستئذان أو التسليم خير لكم من أن تدخلوا بغتة ، أو من تحية الجاهلية كان الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته قال : حييتم صباحا أو حييتم مساء ودخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف . وروي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم " أأستأذن على أمي ، قال نعم : قال : إنها ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت ، قال أتحب أن تراها عريانة ، قالا : لا ، قال فاستأذن " { لعلكم تذكرون } متعلق بمحذوف أي أنزل عليكم ، أو قيل لكم هذا إرادة أن تذكروا وتعملوا بما هو أصلح لكم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ بُيُوتِكُمۡ حَتَّىٰ تَسۡتَأۡنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَهۡلِهَاۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (27)

سبب هذه الآية فيما ذكر الطبري بسند عن عدي بن ثابت أن أمراة من الأنصار قالت يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحالة التي لا أحب أن يراني أحد عليها لا والد ولا ولد وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال فنزلت هذه الآية{[8658]} ، ثم هي عامة في الأمة غابر الدهر من حيث هذه النازلة تختص بكل أحد في نفسه وبيت الإنسان ، هو البيت الذي لا أحد معه فيه أو البيت الذي فيه زوجه أو أمته ، وما عدا فهو غير بيته ، قال ابن مسعود وغيره ينبغي للأنسان أن لا يدخل البيت الذي فيه أمه إلا بعد الاستيناس ، وروي في ذلك حديث عن النبي عليه السلام أن رجلاً قال يا رسول الله استأذن على أمي قال نعم قال إنما هي أمي ولا خادم لها غيري ، قال «أتحب أن تراها عريانة » قال لا ، قال «فاستأذن عليها{[8659]} وكذلك كل ذات محرم منه لأنه لا ينبغي أن يراهن عاريات » ، وقالت زينب امرأة ابن مسعود كان ابن مسعود إذا جاء منزله تنحنح مخافة أن يهجم على ما يكره ، و { تستأنسوا } معناه تستعلموا أي تستعلموا من في البيت وتستبصروا ، تقول آنست إذا علمت عن حس وإذا أبصرت ومنه قوله تعالى : { آنستم منهم رشداً }{[8660]} [ النساء : 6 ] ، وقوله { آنست ناراً }{[8661]} [ القصص : 29 ] ومنه قول حسان بن ثابت «أنظر خليلي بباب جلق هل تؤنس دون البلقاء من أحد »{[8662]} وقول الحارث أنست نبأة . . . . . . . . . . . البيت{[8663]} ، ووزن آنس أفعل واستأنس وزنه استفعل فكأن المعنى في «تستأنسون » تطلبون ما يؤنسكم ويؤنس أهل البيت منكم ، وإذا طلب الإنسان أن يعلم أمر البيت الذي يريد دخوله فذلك يكون بالاستئذان على من فيه أو بأن يتنحنح ويستشعر بنفسه بأي وجه أمكنه ويتأنى قدر ما يتحفظ ويدخل إثر ذلك ، وذهب الطبري في { تستأنسوا } إلى أنه بمعنى حتى تؤنسوا أهل البيت من أنفسكم بالتنحنح والاستئذان ونحوه وتؤنسوا أنفسكم بأن تعلموا أن قد شهر بكم .

قال الفقيه الإمام القاضي : وتصريف الفعل يأبى أن يكون من آنس ، وذكر الطبري عن ابن عباس أنه كان يقرأ «حتى تستأذنوا وتسلموا » وهي قراءة أبي بن كعب وحكاها أبو حاتم «حتى تسلموا وتستأذنوا » قال ابن عباس { تستأنسوا } خطأ أو وهم من الكتاب .

قال الفقيه الإمام القاضي : مصاحف الإسلام كلها قد ثبت فيها { تستأنسوا } وصح الإجماع فيها من لدن مدة عثمان رضي الله عنه فهي التي لا يجوز خلافها ، والقراءة ب «يستأذنوا » ضعيفة ، وإطلاق الخطأ والوهم على الكتاب في لفظ أجمع الصحابة عليه لا يصح عن ابن عباس والأشبه أن يقرأ «تستأذنوا » على التفسير ، وظاهر ما حكى الطبري أنها قراءة برواية ولكن قد روي عن ابن عباس أنه قال { تستأنسوا } معناه «تستأذنوا » ، وما ينفي هذا القول عن ابن عباس أن { تستأنسوا } متمكنة في المعنى بينة الوجه في كلام العرب ، وقد قال عمر للنبي عليه السلام : استأنس يا رسول الله وعمر واقف على باب الغرفة الحديث المشهور{[8664]} وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به صلى الله عليه وسلم فكيف يخطىء ابن عباس رضي الله عنه أصحاب الرسول في مثل هذا{[8665]} ، وحكى الطبري أيضاً بسند عن ابن جريج عن ابن عباس وعكرمة والحسن بن أبي الحسن أنهم قالوا نسخ واستثني من هذه الآية الأولى قوله بعد

{ ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة } [ النور : 9 ]

قال أبو محمد رحمه الله :وهذا أيضاً لا يترتب فيه نسخ ولا استثناء لأن الآية الأولى في البيوت المسكونة والآية الثانية في المباحة وكأن من ذهب إلى الاستثناء رأى الأولى عامة ، وصورة الاستئذان أن يقول الرجل السلام عليكم أأدخل ؟ فإن أذن له دخل وإن أمر بالرجوع انصرف وإن سكت عنه استأذن ثلاثاً ثم ينصرف بعد الثلاث ، فأما ثبوت ما ذكرته من صورة الاستئذان فروى الطبري أن رجلاً جاء إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ألج ؟ أو أتلج ؟فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمة له يقال لها روضة : «قولي لهذا يقول السلام عليكم أدخل ؟ » فسمعه الرجل فقالها فقال له النبي عليه السلام «ادخل »{[8666]} وروي أن ابن عمر آذته الرمضاء يوماً فأتى فسطاط امرأة من قريش فقال : السلام عليكم أأدخل ؟ فقالت المرأة ادخل بسلام ، فأعاد ، فأعادت ، فقال لها قولي ادخل ، فقالت ذلك ، فدخل فكأنه توقف لما قالت بسلام لاحتمال اللفظ أن تريد ادخل بسلامك لا بشخصك ، ثم لكل قوم في الاستئذان عرفهم في العبارة ، وأما ثبوت الرجوع بعد الاستئذان ثلاثاً فلحديث أبي موسى الأشعري الذي استعمله مع عمر وشهد به لأبي موسى أبو سعيد الخدري ثم أبي بن كعب الحديث المشهور{[8667]} ، وقال عطاء بن أبي رباح الاستئذان واجب على كل محتلم وسيأتي ذكر هذا ، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «رسول الرجل إذنه »{[8668]} أي إذا أرسل في أحد فقد أذن له في الدخول وقوله : { ذلكم خير لكم } تم الكلام عنده ، وقوله : { لعلكم تذكرون } معناه فعلنا ذلك بكم ونبهناكم { لعلكم } .


[8658]:أخرجه الفريابي، وابن جرير، من طريق عدي بن ثابت، عن رجل من الأنصار.
[8659]:أخرجه ابن جرير الطبري، عن ابن جريج، عن ابن زياد، عن صفوان، عن عطاء بن يسار.
[8660]:من الآية (6) من سورة (النساء).
[8661]:من الآية (10) من سورة (طه)، وتكررت في الآية (7) من سورة (النمل)، وفي الآية (29) من سورة (القصص).
[8662]:جلق بكسر الجيم وتشديد اللام: دمشق، وفيها أيضا يقول حسان بن ثابت: لله در عصابة نادمتهم يوما بجلق في الزمان الأول وآنس الشيء: أحسه، وآنس الشخص: رآه وأبصره، والبلقاء: أرض بالشام، وقيل: مدينة. والبيت في اللسان شاهدا على أن البلقاء أرض بالشام، وهو أيضا في تاريخ ابن عساكر مع اختلاف في الألفاظ. أما الشاهد هنا فهو "تؤنس" لأنها بمعنى: ترى وتحس أو تعلم وترى.
[8663]:البيت للحارث بن حلزة، وهو من معلقته التي بدأها بقوله: (آذنتنا ببينها أسماء)، والبيت من أبيات يصف فيها ناقته وهو بتمامه: آنست نبأة وأفزعها القناص عصرا وقد دنا الإمساء ومعنى (آنست): أحست، وهي موضع الشاهد هنا. والنبأة: الصوت الخفي لا يدرى من أين هو، والقناص: الصياد، والقنص: الصيد. وأفزعها القناص: أخافها، وعصرا هنا: عشيا، قال ابن الأنباري في شرح المعلقات: وإنما سميت العصر في الصلاة عصرا لأنها في آخر النهار، والعصر في غير هذا: الدهر، وفاعل "آنست" ضمير يعود على النعامة التي شبه بها ناقته في البيت السابق، وعصرا منصوب على الوقف، والواو في (وقد دنا) واو الحال، والإمساء فاعل بالفعل (دنا)، وهو مصدر (أمسى).
[8664]:الحديث مشهور وطويل، وقد رواه البخاري في المظالم والنكاح، والترمذي في التفسير، وأحمد في مسند (1 ـ 34). وهو عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لم أزل حريصا على أن أسأل عمر رضي الله عنه عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله لهما: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما}، وقد قص عمر عليه ما كان بين النبي صلوات الله وسلامه عليه وبين زوجاته حين أشيع أنه طلقهن، وذهب عمر رضي الله عنه ليعلم الخبر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم في مشربة، فقال لغلام أسود: استأذن لعمر، ولكن الغلام دخل ثم خرج وقال: ذكرتك له فصمت، وهكذا ثلاث مرات، وبعد الثالثة دعاه الغلام، قال عمر: (فدخلت عليه فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه، متكئ على وسادة من أدم حشوها ليف، فسلمت عليه ثم قلت وأنا قائم: طلقت نساءك؟ فرفع بصره إلي فقال: لا، ثم قلت وأنا قائم أستأنس: يا رسول الله لو رأيتني وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم) إلى آخر الحديث. واللفظ فيما سقناه هنا من الحديث للبخاري.
[8665]:نقل القرطبي هذا الكلام عن ابن عطية وأيده في رأيه، ونقل أبو حيان خلاصته، ثم زاد عليه فقال: "ومن روى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما فهو طاعن في الإسلام، ملحد في الدين، وابن عباس بريء من هذا القول".
[8666]:أخرجه ابن جرير، عن عمرو بن سعد الثقفي. (الدر المنثور)، وهو في تفسير ابن جرير الطبري.
[8667]:أخرجه مالك، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، عن أبي سعيد الخدري، قال: كنت جالسا في مجلس من مجالس الأنصار، فجاء أبو موسى فزعا، فقلنا له: ما أفزعك؟ قال: أمرني عمر أن آتيه فأتيته فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك أن تأتيني؟ قلت: قد جئت فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليراجع)، قال: لتأتيني على هذا بالبينة، فقالوا: لا يقوم إلا أصغر القوم، فقام أبو سعيد معه فشهد له، فقال عمر لأبي موسى رضي الله عنهما: إني لم أتهمك، ولكن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد.
[8668]:أخرجه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، ويؤيد ما أخرجه أبو داود أيضا عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن).