قوله تعالى : { فاليوم ننجيك } ، أي نلقيك على نجوة من الأرض ، وهي : المكان المرتفع . وقرأ يعقوب " ننجيك " بالتخفيف ، { ببدنك } ، بجسدك لا روح فيه . وقيل : ببدنك : بدرعك ، وكان له درع مشهور مرصع بالجواهر ، فرأوه في درعه فصدقوا . " لتكون لمن خلفك آية " ، عبرة وعظة ، { وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون } .
ثم ساق ابن كثير بعد ذلك جملة من الأحاديث في هذا المعنى " .
وقوله - سبحانه - : { فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً . . } تهكم به ، وتخييب لآماله ، وقطع لدابر أطماعه ، والمعنى إن دعواك الإِيمان الآن مرفوضة ، لأنها جاءت في غير وقتها ، وإننا اليوم بعد أن حل بك الموت ، نلقى بجسمك الذي خلا من الروح على مكان مرتفع من الأرض لتكون عبرة وعظة للأحياء الذين يعيشون من بعدك سواء أكانوا من بني إسرائيل أم من غيرهم ، حتى يعرف الجميع بالمشاهدة أو الإِخبار ، سوء عاقبة المكذبين ، وأن الألوهية لا تكون إلا لله الواحد الأحد ، الفرد الصمد .
قال الإِمام الشوكانى : " قوله { فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ . . . } قرئ ننجيك بالتخفيف ، والجمهور على التثقيل .
أى : نلقيك على نجوة من الأرض . وذلك ان بنى إسرائيل لم يصدقوا أن فرعون قد غرق ، وقالوا : هو أعظم شأنا من ذلك ، فألقاه الله على نجوة من الأرض أى مكان مرتفع من الأرض حتى شاهدوه .
ومعنى { ببدنك } بجسدك بعد سلب الروح منه . وقيل معناه بدرعك والدرع يسمى بدنا ، ومنه قول كعب بن مالك :
ترى الأبدان فيها مسبغات . . . على الأبطال واليلب الحصينا
أراد بالأبدان الدروع - وباليلب - يفتح الياء واللام - الدروع اليمانية كانت تتخذ من الجلود .
وقوله : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } تذييل قصد به دعوة الناس جميعا إلى التأمل والتدبر ، والاعتبار بآيات الله ، وبمظاهر قدرته .
أى : وإن كثيرا من الناس لغافلون عن آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا على إهلاك كل ظالم جبار .
قال ابن كثير : " وكان هلاك فرعون يوم عاشوراء . كما قال البخارى : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة ، عن أبى بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قدم النبى - صلى الله عليه وسلم - المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء فقالوا : هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : أنتم أحق بموسى منهم فصوموه " .
{ فاليوم ننجّيك } ننقذك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافيا ، أو نلقيك على نجوة من الأرض ليراك بنو إسرائيل . وقرأ يعقوب { ننجيك } من أنجى ، وقرأ " ننحيك " بالحاء أي نلقيك بناحية من الساحل . { ببدنك } في موضع الحال أي ببدنك عاريا عن الروح ، أو كاملا سويا أو عريانا من غير لباس . أو بدرعك وكانت له درع من ذهب يعرف بها . وقرئ " بأبدانك " أي بأجزاء البدن كلها كقولهم هوى بإجرامه أو بدروعك كأنه كان مظاهرا بينها . { لتكون لمن خلفك آية } لمن وراءك علامة وهم بنو إسرائيل إذ كان في نفوسهم من عظمته ما خيل إليهم أنه لا يهلك ، حتى كذبوا موسى عليه السلام حين أخبرهم بغرقه إلى أن عاينوه مطرحا على ممرهم من الساحل ، أو لمن يأتي بعدك من القرون إذا سمعوا مآل أمرك ممن شاهدك عبرة ونكالا عن الطغيان ، أو حجة تدلهم على أن الإنسان على ما كان عليه من عظم الشأن وكبرياء الملك مملوك مقهور بعيد عن مظان الربوبية . وقرئ لمن " خلقك " أي لخالقك آية أي كسائر الآيات فإن إفراده إياك بالإلقاء إلى الساحل دليل على أنه تعمد منه لكشف تزويرك وإماطة الشبهة في أمرك . وذلك دليل على كمال قدرته وعلمه وإرادته ، وهذا الوجه أيضا محتمل على المشهور . { وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون } لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لفرعون: فاليوم نجعلك على نجوة الأرض ببدنك، ينظر إليك هالكا من كذّب بهلاكك. "لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً "يقول: لمن بعدك من الناس عبرة بعتبرون بك، فينزجرون عن معصية الله والكفر به والسعي في أرضه بالفساد. والنجوة: الموضع المرتفع على ما حوله من الأرض... عن محمد بن كعب، عن عبد الله بن شداد: "فالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدنِكَ" قال: بدنه: جسده رمى به البحر...
عن ابن عباس، قال: لما جاوز موسى البحر بجميع من معه، التقى البحر عليهم يعني على فرعون وقومه فأغرقهم، فقال أصحاب موسى: إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق، ولا نؤمن بهلاكه فدعا ربه فأخرجه، فنبذه البحر حتى استيقنوا بهلاكه...
وقوله: "وإنّ كَثِيرا مِنَ النّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ" يقول تعالى ذكره: "وإنّ كَثِيرا مِنَ النّاسِ عَنْ آياتِنَا" يعني: عن حججنا وأدلتنا على أن العبادة والألوهة لنا خالصة، "لغَافِلُونَ" يقول: لساهون، لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} يعني لمن بعدك عبرة وموعظة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لَنُشْهِرَنَّ تعذيبَكَ، ونُظْهِرَنَّ- لمِنْ استبصر- تأديبَك، لِتكونَ لِمَنْ خَلْفَكَ عِبْرة، وتزدادَ حين أَفَقْتَ أَسَفَاً وحسرةً.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {لِمَنْ خَلْفَكَ} لمن يأتي بعدك من القرون. ومعنى كونه آية: أن تظهر للناس عبوديته ومهانته، وأنّ ما كان يدّعيه من الربوبية باطل محال، وأنه مع ما كان فيه من عظم الشأن وكبرياء الملك آل أمره إلى ما ترون لعصيانه ربه عزّ وجلّ، فما الظنّ بغيره، أو لتكون عبرة تعتبر بها الأمم بعدك، فلا يجترئوا على نحو ما اجترأت عليه إذا سمعوا بحالك وبهوانك على الله... ويجوز أن يراد: ليكون طرحك على الساحل وحدك وتمييزك من بين المغرقين لئلا يشتبه على الناس أمرك، ولئلا يقولوا لادّعائك العظمة إنّ مثله لا يغرق ولا يموت آية من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، وليعلموا أنَّ ذلك تعمد منه لإماطة الشبه في أمرك.
{وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون} فالأظهر أنه تعالى لما ذكر قصة موسى وفرعون وذكر حال عاقبة فرعون وختم ذلك بهذا الكلام. وخاطب به محمدا عليه الصلاة والسلام فيكون ذلك زاجرا لأمته عن الإعراض عن الدلائل، وباعثا لهم على التأمل فيها والاعتبار بها، فإن المقصود من ذكر هذه القصص حصول الاعتبار، كما قال تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقد كان [إهلاك فرعون وملئه] يوم عاشوراء، كما قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غُنْدَر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينَة، واليهود تصوم يوم عاشوراء فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"أنتم أحق بموسى منهم، فصوموه".
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم أكده -بدل شماتة الأعداء به الذين كانوا عنده أقل شيء وأحقره- بقوله مسبباً عما تضمنه ذلك الإنكار من الإذلال بالإهلاك إشارة إلى أن الماء أحاط به وصار يرتفع قليلاً قليلاً حتى امتد زمن التوبيخ: {فاليوم ننجيك} أي تنجية عظيمة. ولما كان ذلك ساراً وكانت المساءة بما يفهم السرور إنكاء، قال دالاً على أن ذلك يعد نزع روحه: {ببدنك} أي من غير روح وهو كامل لم ينقص منه شيء حتى لا يدخل في معرفتك لبس {لتكون} أي كوناً هو في غاية الثبات {لمن خلفك} أي يتأخر عنك في الحياة من بني إسرائيل وغيرهم {آية} في أنك عبد ضعيف حقير، لست برب فضلاً عن أن تكون أعلى ويعرفوا أن من عصى الملك أخذ وإن كان أقوى الناس، وأكثرهم جنوداً...
ولما لم يعمل فرعون وآله بمقتضى ما رأوا من الآيات، كان حكمهم حكم الغافلين عنها، فكان التقدير: و لقد غفلوا عما جاءهم من الآيات {وإن كثيراً} أكده لأن مثله ينبغي -لبعده عن الصواب- أن لا يصدق أن أحداً يقع فيه {من الناس}... {عن آياتنا} أي على ما لها من العظمة {لغافلون}...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{فاليوم نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ} تهكم به وتخييب له وحسم لأطماعه بالمرة، والمراد: فاليوم نخرجك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافياً ملابساً ببدنك عارياً عن الروح.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
...وأما العبرة لمن بعده فهي أعم: هي ما سيقت القصة لأجله من كونها شاهدا كالتي قبلها على صدق وعد الله لرسله، ووعيده لأعدائهم كطغاة مكة التي أنزلت هذه الآيات- بل هذه السورة كلها -لإقامة حجج الله عليهم في هذه المسألة قبل غيرهم، لأنهم أول من بلغته الدعوة.
وقوله تعالى: {وإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} تعريض بهم، وأكده هذا التأكيد لما تقتضيه شدة الغفلة من قوة التنبيه، أي إنهم لشديدو الغفلة عنها على شدة ظهورها، فلا يتفكرون في أسبابها ونتائجها وحكم الله فيها، ولا يعتبرون بها، وإنما يمرون عليها معرضين كما يمرون على مسارح الأنعام، وفيه ذم للغفلة وعدم التفكر في أسباب الحوادث وعواقبها واستبانة سنن الله فيها للاعتبار والاتعاظ بها، ومن العجيب أن يكون أهل القرآن منهم، كلا، إنه حجة على الغافلين، بريء منهم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} فلذلك تمر عليهم وتتكرر فلا ينتفعون بها، لعدم إقبالهم عليها. وأما من له عقل وقلب حاضر، فإنه يرى من آيات الله ما هو أكبر دليل على صحة ما أخبرت به الرسل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(فاليوم ننجيك ببدنك).. لا تأكله الأسماك، ولا يذهب منكراً مع التيار لا يعرف للناس. ذلك ليدرك من وراءك من الجماهير كيف كان مصيرك: (لتكون لمن خلفك آية).. يتعظون بها ويعتبرون، ويرون عاقبة التصدي لقوة اللّه ووعيده بالتكذيب: (وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون).. لا يوجهون إليها قلوبهم وعقولهم، ولا يتدبرونها في الآفاق وفي أنفسهم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون} غافلون عن آيات الله تعالى في الكون والناس ولولا أنهم غافلون لأقاموا العدل واعتبروا بفرعون ولأبعدوا الغرور عن أنفسهم وما استبدوا بمن يماثلونهم في الخلق والتكوين من الناس وقد يزيدون عليهم في المواهب التي أنعم الله بها على بعض عباده الأبرار، ولو لم يكونوا غافلين لآمنوا بقدرة الله تعالى على البعث والنشور.
... وبالله، لو لم يأمر الحق البحر بأن يلفظ جثمان فرعون، أما كان من الجائز أن يقولوا: إنه إله، وإنه سيرجع مرة أخرى؟
ولكن الحق سبحانه قد شاء أن يلفظ البحر جثمانه كما يلفظ جيفة أي حيوان غارق؛ حتى لا يكون هناك شك في أن هذا الفرعون قد غرق، وحتى ينظر من بقي من قومه إلى حقيقته، فيعرفوا أنه مجرد بشر، ويصبح عبرة للجميع، بعد أن كان جبارا مسرفا طاغية يقول لهم: {ما علمت لكم من إله غيري} [القصص 38].
وبعض من باحثي التاريخ يقول: إن فرعون المقصود هو "تحتمس "وإنهم حللوا بعضا من جثمانه، فوجدوا به آثار مياه مالحة.
ونحن نقول: إن فرعون ليس اسما لشخص، بل هو توصيف لوظيفة، ولعل أجساد الفراعين المحنطة تقول لنا: إن علة حفظ الأبدان هي عبرة؛ وليتعظ كل إنسان ويرى كيف انهارت الحضارات، وكيف بقيت تلك الأبدان آية نعتبر بها.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(لمن خلفك آية) آية للحكام المستكبرين ولكل الظالمين والمفسدين، وآية للفئات المستضعفة. اللطيف هنا، أنّ البدن في اللغة كما قال الراغب في مفرداته يعني الجسد العظيم وهذا يدلنا على أن فرعون كان عظيم الهيكل ممتلئ الجسم كما هو الحال في الكثير من أهل الترف والرفاه الدنيوي! ويقول في نهاية الآية: إِنّه وبالرغم من كل هذه الآيات والدلالات على قدرة الله، ومع كل الدروس والعبر التي ملأت تاريخ البشر فإِنّ الكثير معرضون عنها (وإِنّ كثيراً من النّاس عن آياتنا لغافلون).