الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَٱلۡيَوۡمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنۡ خَلۡفَكَ ءَايَةٗۚ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنۡ ءَايَٰتِنَا لَغَٰفِلُونَ} (92)

قوله تعالى : { الآنَ } : منصوبٌ بمحذوفٍ أي : آمنْتَ الآن ، أو/ أتؤمن الآن . وقوله : " وقد عَصَيْتَ " جملةٌ حالية ، وقد تقدَّم نظيرُ ذلك قريباً .

قوله : { بِبَدَنِكَ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنها باءُ المصاحبةِ بمعنى مصاحباً لبدنك وهي الدِّرْع ، وفي التفسير : لم يُصَدِّقوا بغرقه ، وكانت له دِرْعُ تُعْرَفُ فأُلقي بنَجْوة من الأرض وعليه دِرْعُه ليعرفوه ، والعربُ تطلِقُ البدنَ على الدرع ، قال عمرو بن معد يكرب :

2628 أعاذِلُ شِكَّتي بدني وسيفي *** وكلّ مُقَلَّصٍ سَلِس القِيادِ

وقال آخر :

2629 ترى الأبْدانَ فيها مُسْبَغَاتٍ *** على الأبطالِ واليَلَبَ الحصينا

وقيل : ببدنك أي عُرْيانَ لا شيءَ عليه ، وقيل : بدناً بلا روح .

والثاني : أن تكونَ سببيةً على سبيل المجاز ؛ لأنَّ بدنه سبب في تنجيته ، وذلك على قراءةِ ابن مسعود وابن السَّمَيْفَع " بندائك " من النداء وهو الدعاءِ أي : بما نادَى به في قومه من كفرانه في قولِه { وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ } [ الزخرف : 51 ] { فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى } [ النازعات : 23-24 ] { يأَيُّهَا الْملأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي } [ القصص : 38 ] .

وقرأ يعقوب " نُنْجِيْك " مخففاً مِنْ أنجاه . وقرأ أبو حنيفة " بأبدانك " جمعاً : إمَّا على إرادة الأدْراع لأنه كان يلبس كثيراً منها خوفاً على نفسِه ، أو جعل كلَّ جزء مِنْ بدنه بدناً كقوله : " شابت مَفارِقُه " قال :

2630 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** شابَ المَفارِقُ واكتَسَيْنَ قَتِيرا

وقرأ ابن مسعود وابن السَّمَيْفَع ويزيد البربري " نُنَحِّيْكَ " بالحاء المهملةِ من التَّنْحِيَة أي : نُلْقيك بناحيةٍ فيما يلي البحر ، وفي التفسير : أنَّه رماه إلى ساحل البحر كالثور . وهل ننجِّيك من النجاة بمعنى نُبْعدك ممَّا وقع فيه قومُك مِنْ قعر البحر وهو تهكُّم بهم ، أو مِنْ ألقاه على نَجْوة أي : رَبْوة مرتفعة ، أو مِن النجاة وهو التَّرْكُ أو من النجاء وهو العلامة ، وكلُّ هذه معانٍ لائقة بالقصة . والظاهر أن قوله : " فاليوم نُنَجِّيك " خبرٌ محض . وزعم بعضهم أنه على نية همزةِ الاستفهام وفيه بُعْدٌ لحَذْفِها من غيرِ دليل ، ولأنَّ التعليلَ بقوله " لتكونَ " لا يناسب الاستفهام .

و " لتكون " متعلِّقٌ ب " نُنَجِّيك " و " آية " أي : علامة ، و " لمَنْ خلفك " في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ " آية " لأنه في الأصلِ صفةٌ لها .