فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{فَٱلۡيَوۡمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنۡ خَلۡفَكَ ءَايَةٗۚ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنۡ ءَايَٰتِنَا لَغَٰفِلُونَ} (92)

قوله : { فاليوم نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ } قرئ «ننجيك » بالتخفيف ، والجمهور على التثقيل . وقرأ اليزيدي : «ننحيك » بالحاء المهملة من التنحية ، وحكاها علقمة عن ابن مسعود ؛ ومعنى ننجيك بالجيم : نلقيك على نجوة من الأرض ، وذلك أن بني إسرائيل لم يصدّقوا أن فرعون غرق ، وقالوا : هو أعظم شأناً من ذاك ، فألقاه الله على نجوة من الأرض ، أي : مكان مرتفع من الأرض حتى شاهدوه . وقيل : المعنى : نخرجك مما وقع فيه قومك من الرسوب في قعر البحر ، ونجعلك طافياً ليشاهدوك ميتاً بالغرق ، ومعنى ننحيك بالمهملة : نطرحك على ناحية من الأرض ، وروي عن ابن مسعود أنه قرأ «بأبدانك » .

وقد اختلف المفسرون في معنى ببدنك ، فقيل : معناه : بجسدك بعد سلب الروح منه . وقيل : معناه : بدرعك ، والدرع يسمى بدناً ، ومنه قول كعب بن مالك :

ترى الأبدان فيها مسبغات *** على الأبطال واليلب الحصينا

أراد بالأبدان : الدروع ، وقال عمرو بن معدي كرب :

ومضى نساؤهم بكل مُضاضة *** جدلاء سابغة وبالأبدان

أي بدروع سابغة ، ودروع قصيرة : وهي التي يقال لها : أبدان كما قال أبو عبيدة . وقال الأخفش : وأما قول من قال : بدرعك ، فليس بشيء ، ورجح أن البدن المراد به هنا الجسد . قوله : { لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً } هذا تعليل لتنجيته ببدنه ، وفي ذلك دليل على أنه لم يظهر جسده دون قومه إلا لهذه العلة لا سوى ، والمراد بالآية : العلامة ، أي لتكون لمن خلفك من الناس علامة يعرفون بها هلاكك ، وأنك لست كما تدّعي ، ويندفع عنهم الشك في كونك قد صرت ميتاً بالغرق . وقيل : المراد ليكون طرحك على الساحل وحدك دون المغرقين من قومك آية من آيات الله ، يعتبر بها الناس ، أو يعتبر بها من سيأتي من الأمم إذا سمعوا ذلك ، حتى يحذروا من التكبر والتجبر والتمرّد على الله سبحانه ، فإن هذا الذي بلغ إلى ما بلغ إليه من دعوى الإلهية ، واستمرّ على ذلك دهراً طويلاً كانت له هذه العاقبة القبيحة . وقرئ «لمن خلفك » على صيغة الفعل الماضي أي : لمن يأتي بعدك من القرون ، أو من خلفك في الرياسة أو في السكون في المسكن الذي كنت تسكنه { وَإِنَّ كَثِيراً منَ الناس عَنْ آيَاتِنَا } التي توجب الاعتبار والتفكر ، وتوقظ من سنة الغفلة { لغافلون } عما توجبه الآيات ، وهذه الجملة تذييلية .

/خ92