قوله تعالى : { قال رب اجعل لي آية } أي علامة أعلم بها وقت حمل امرأتي فأزيد في العبادة شكراً لك .
قوله تعالى : { قال آيتك أن لا تكلم الناس }أي تكف عن الكلام .
قوله تعالى : { ثلاثة أيام } وتقبل بكليتك على عبادتي ، لا أنه يحبس لسانه عن الكلام ، وهو صحيح سوي كما قال في سورة مريم ( ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ) يدل عليه قوله تعالى ( وسبح بالعشي والإبكار ) فأمره بالذكر ، ونهاه عن كلام الناس . وقال أكثر المفسرين عقل لسانه عن الكلام مع الناس ثلاثة أيام ، وقال قتادة : أمسك لسانه عن الكلام عقوبة له لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه فلم يقدر على الكلام ثلاثة أيام .
وقوله تعالى : { إلا رمزاً } أي إشارة ، والإشارة قد تكون باللسان وبالعين وباليد ، وكانت إشارته بالإصبع المسبحة . قال الفراء : قد يكون الرمز باللسان من غير أن يبين وهو الصوت الخفي شبه الهمس ، وقال عطاء : أراد به صوم ثلاثة أيام لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا إلا رمزاً .
قوله تعالى : { واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار } . قيل : المراد بالتسبيح الصلاة ، والعشي ما بين زوال الشمس إلى غروب الشمس ، ومنه سمى صلاة الظهر والعصر صلاتي العشي ، والإبكار ما بين صلاة الفجر إلى الضحى .
ثم حكى القرآن أن زكريا - لشدة لهفته على تحقق البشارة - سأل ربه أن يجعل له علامة تكون دليلا على تحقيق الحمل عند زوجته فقال – تعالى : { قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً } .
أى قال زكريا مناجيا ربه : يا رب إنى أسألك أن تجعل لي { آيَةً } آي : علامة تدلنى على حصول الحمل عند زوجتي : لأبادر إلى القيام بشكر هذه النعمة شكراً جزيلا ولأقوم بحقها حق القيام .
وقد أجابه - سبحانه - إلى طلبه فقال : { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } . أي قال الله - تعالى - لعبده زكريا : آيتك أى علامتك ألا تقدر على كلام الناس من غير آفة في لسانك لمدة ثلاثة أيام إلا { رَمْزاً } أى إلا عن طريق الإيحاء والإشارة .
وأصل الرمز الحركة . يقال ارتمز أى تحرك ، ومنه قيل للبحر الراموز وفعله من باب نصر وضرب . ثم أطلق الرمز على الإيماء بالشفتين أو بالحاجبين وعلى الإشارة باليدين وهو المراد هنا .
قال صاحب الكشاف : قال الله - تعالى - لزكريا آيتك ألا تقدر على تكليم الناس ثلاثة أيام : وإنما خص تكليم الناس ليعلمه أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله . ولذلك قال : { واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار } يعنى فى أيام عجزك عن تكليم الناس وهى من الآيات الباهرة ، فإن قلت : لم حبس لسانه عن كلام الناس ؟ قلت : ليخلص المدة لذكر الله لا يشغل لسانه بغيره ، توفرا منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها الذي طلب الآية من أجله ، كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له : آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر . وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من السؤال ومنتزعا منه { إِلاَّ رَمْزاً } أى : إلا إشارة بيد أو رأس أو غيرهما .
وعلى رأى صاحب الكشاف يكون احتباس لسان زكريا عن كلام الناس اضطراريا وليس عن اختيار منه .
ويمكن أن يقال إن المراد بقوله- تعالى- { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } . . . أن زكريا - عليه السلام - عندما طلب آية يعرف بها أن زوجته قد حملت بهذا الغلام الذى بشره الله به ، أخبره - سبحانه - أن العلامة على ذلك أن يوفق إلى خلوص نفسه من شواغل الدنيا حتى أنه ليجد نفسه متجها اتجاها كليا إلى ذكر الله وتمجيده وتسبيحه ، دون أن يكون عنده أى دافع إلى كلام الناس أو مخالطتهم مع قدرته على ذلك ، وعلى هذا يكون انصراف زكريا - عليه السلام - عن كلام الناس اختيارا وليس اضطراريا كما يرى صاحب الكشاف .
ثم أمره الله - تعالى - بالإكثار وتسبيحه فقال : { واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار } .
و { العشي } جمع عشية وقيل : هو واحد وذلك من حين تزول الشمس إلى أن تغيب ، وأما { الإبكار } فمصدر أبكر يبكر إذا خرج للأمر في أول النهار .
. . ومنه الباكورة لأول الثمرة . والمراد به هنا الوقت الذى يكون من طلوع الفجر إلى الضحى .
أى عليك أن تكثر من ذكر الله - تعالى - ومن تسبيحه فى أول النهار وفى آخره وفى كل وقت لا سيما فى تلك الأيام الثلاثة شكراً لله - تعالى - على ما أعطاك من نعم جليلة لا تحصى ، فقد وهبك الذرية بعد أن بلغت من الكبر عتيا ، وجعل هذا المولود من أنبياء الله الذين اصطفاهم لتبليغ رسالته .
وفي هذا الأمر الإلهي لزكريا حصن لكل عاقل على الإكثار من ذكر الله من تسبيحه وتمجيده لن ذكر الله به تطمئن القلوب . وتسكن النفوس وتغسل الخطايا والذنوب ويكفى للدلالة على فضل الذكر أن الله - تعالى - أمر به حتى في حالة الحرب فقال : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ساقت لنا جانبا من قصد زكريا - عليه السلام - فيه الكثير من العبر والعظات لقوم يعقلون .
ولكن زكريا لشدة لهفته على تحقق البشرى ، ولدهشة المفاجأة في نفسه ، راح يطلب إلى ربه أن يجعل له علامة يسكن إليها :
( قال : رب اجعل لي آية . . . ) . .
هنا يوجهه الله سبحانه إلى طريق الاطمئنان الحقيقي ؛ فيخرجه من مألوفه في ذات نفسه . . إن آيته أن يحتبس لسانه ثلاثة أيام إذا هو اتجه إلى الناس ؛ وأن ينطلق إذا توجه إلى ربه وحده يذكره ويسبحه :
( قال : آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا . واذكر ربك كثيرا . وسبح بالعشي والإبكار )
ويسكت السياق هنا . ونعرف أن هذا قد كان فعلا . فإذا زكريا يجد في ذات نفسه غير المألوف في حياته وحياة غيره . . لسانه هذا هو لسانه . . ولكنه يحتبس عن كلام الناس وينطلق لمناجاة ربه . . أي قانون يحكم هذه الظاهرة ؟ إنه قانون الطلاقة الكاملة للمشيئة العلوية . . فبدونه لا يمكن تفسير هذه الغريبة . . كذلك رزقه بيحيى وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر ! ! !
{ قال رب اجعل لي آية } علامة أعرف بها الحبل لاستقبله بالبشاشة والشكر وتزيح مشقة الانتظار . { قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام } أي لا تقدر على تكليم الناس ثلاثا ، وإنما حبس لسانه عن مكالمتهم خاصة ليخلص المدة لذكر الله تعالى وشكره ، قضاء لحق النعمة وكأنه قال آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر وأحسن الجواب ما اشتق من السؤال . { إلا رمزا } إشارة بنحو يد أو رأس ، وأصله التحرك ومنه الراموز للبحر والاستثناء منقطع وقيل متصل والمراد بالكلام ما دل على الضمير . وقرئ { رمزا } بفتحتين كخدم جمع رامز ورمزا كرسل جمع رموز على أنه حال منه ومن الناس بمعنى مترامزين كقوله :
متى ما تلقني فردين ترجف *** روانف أليتيك وتستطارا
{ واذكر ربك كثيرا } في أيام الحبسة ، وهو مؤكد لما قبله مبين للغرض منه ، وتقييد الأمر بالكثرة يدل على أنه لا يفيد التكرار . { وسبح بالعشي } من الزوال إلى الغروب . وقيل من العصر أو الغروب إلى ذهاب صدر الليل . { والإبكار } من طلوع الفجر إلى الضحى . وقرئ بفتح الهمزة جمع بكر كسحر وأسحار .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.