قوله تعالى : { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون قل لا يستوي الخبيث والطيب } ، أي الحلال والحرام .
قوله تعالى : { ولو أعجبك } ، سرك .
قوله تعالى : { كثرة الخبيث } ، نزلت في شريح بن ضبعة البكري ، وحجاج بن بكر بن وائل .
قوله تعالى : { فاتقوا الله } ، ولا تتعرضوا للحجاج وإن كانوا مشركين ، وقد مضت القصة في أول السورة .
ثم صرح - سبحانه - بعد ذلك بأنه لا يستوي عنده الخبيث والطيب فقال : { قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث } .
والخبيث - كما يقول الراغب - ما يكره رداءه وخساسة محسوسا كان أم معقولا ، وأصله الردئ الدخلة الجاري مجري خبث الحديد كما قال الشاعر :
سبكناه ونحسبه لجينا . . . فأبدى الكير على خبث الحديد
وذلك يتناول الباطل في الاعتقاد ، والكذب في المقال ، والقبيح في الفعال .
والطيب : الشيء الحسن الذي أباحته الشريعة ورضيته العقول السليمة ، ويتناول الاعتقاد الحق ، والمقال الصدق ، والعمل الصالح .
والمعنى : قل - يا محمد - للناس : إنه لا يستوي عند الله ولا عند العقلاه القبيح والحسن من كل شيء ، لأن الشيء القبيح - في ذاته أو في سببه أو في غير ذلك من أشكاله - بغيض إلى الله وإلى كل عاقل ، وسكون مصيره إلى الهلاك والبوار .
أما الشيء الطيب الحسن فهو محبوب من الله ومن كل عاقل ، ومحمود العاقبة دنيا ودينا .
وقوله : { وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث } زيادة في التنفير من الشيء الخبيث ، وحض على التمسك بما هو طيب .
أي : لا يستوي في ميزان الله ولا في ميزان العقلاء الخبيث والطيب ، حتى ولو كان الفريق الخبيث كثير المظهر ، براق الشكل ، تعجب الناظرين هيئته فلا تغتر به أيها العاقل ، ولا تؤثر في نفسك كثرته وسطوته فإنه مهما كثر وظهر وفشا . فإنه سيء العاقبة ، سريع الزوال ، لذته تعقبها الحسرة ، وشهوته تتلوها الندامة ، وسطوته تصحبها الخسارة والكراهية ، وطريقة المليئة بالدنس والقذر يجب أن يوصد أبوابها الأخيار الشرفاء .
أما الفريق الطيب أو الشيء الطيب فهو محمود العاقبة ، لذته الحلال يباركها الله ، وثماره الحسنة تؤيدها شريعته وتستريح لها العقول السليمة ، والقلوب النقية من كل دنس وباطل وطريقه المستقيم - مهما قل - سالكوه - هو الطريق الذي يوصل إلى كل خير وفلاح .
ولا شك أن العقل عندما يتخلص من الهوى سيختار الطيب على الخبيث لأن في الطيب سعادة الدنيا والآخرة .
وما أحسن قول أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها : " ما تمتع الأشرار بشيء إلا وتمتع به الأخيار ، وزادوا عليهم رضا الله - عز وجل - " .
والفاء في قوله : { فاتقوا الله ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } للإفصاح عن كلام مقدر ، والتقدير :
إذا كان الأمر كما بينت لكم - أيها الناس - من أنه لا يستوي الخبيث والطيب . لأن أهل الخبيث سيعاقبون ويندمون مهما كثروا وأهل الطيب سيثابون ويفرحون ، إذا كان الأمر كذلك فاتقوا الله يا أصحابا العقول السليمة بأن تجتنبوا كل ما هو خبيث ، وتقبلوا على كل ما هو طيب ، لعلكم بسبب هذه التقوى والخشية من الله تنولون الفلاح والنجاح في دنياكم وآخرتكم .
والجملة الكريمة تذييل قصد به تأكيد ما مر من الترغيب في الطاعات والتحذير من المعاصي قال الفخر الرازي : لما ذكر - سبحانه - هذه الترغيبات الكثيرة في الطاعة ، والتحذيرات من المعصية . أتبعها بوجه آخر يؤكدها فقالك { فاتقوا الله ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } : أي : فاتقوا الله بعد هذه البيانات الجليلة والتعريفات القوية ، ولا تقدموا على مخالفته لعلكم تصيرون فائزين بالمطالب الدنيوية والدينية العاجلة والآجلة .
ثم تختم الفقرة بميزان يقيمه الله للقيم ، ليزن به المسلم ويحكم . ميزان يرجح فيه الطيب ويشيل الخبيث . كي لا يخدع الخبيث المسلم بكثرته في أي وقت وفي أي حال ! ( قل : لا يستوي الخبيث والطيب ؛ ولو أعجبك كثرة الخبيث ، فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون ) . .
إن المناسبة الحاضرة لذكر الخبيث والطيب في هذا السياق ، هي مناسبة تفصيل الحرام والحلال في الصيد والطعام . والحرام خبيث ، والحلال طيب . . ولا يستوي الخبيث والطيب ولو كانت كثرة الخبيث تغر وتعجب . ففي الطيب متاع بلا معقبات من ندم أو تلف ، وبلا عقابيل من ألم أو مرض . . وما في الخبيث من لذة إلا وفي الطيب مثلها على اعتدال وأمن من العاقبة في الدنيا والآخرة . . والعقل حين يتخلص من الهوى بمخالطة التقوى له ورقابة القلب له ، يختار الطيب على الخبيث ؛ فينتهي الأمر إلى الفلاح في الدنيا والآخرة :
هذه هي المناسبة الحاضرة . . ولكن النص - بعد ذلك - أفسح مدى وأبعد أفقا . وهو يشمل الحياة جمعيا ، ويصدق في مواضع شتى :
لقد كان الله الذي أخرج هذه الأمة ، وجعلها خير أمة أخرجت للناس ، يعدها لأمر عظيم هائل . . كان يعدها لحمل أمانة منهجه في الأرض ، لتستقيم عليه كما لم تستقم أمة قط ، ولتقيمه في حياة الناس كما لم يقم كذلك قط . ولم يكن بد أن تراض هذه الأمة رياضة طويلة . رياضة تخلعها أولا من جاهليتها ؛ وترفعها من سفح الجاهلية الهابطة وتمضي بها صعدا في المرتقى الصاعد إلى قمة الإسلام الشامخة ثم تعكف بعد ذلك على تنقية تصوراتها وعاداتها ومشاعرها من رواسب الجاهلية ؛ وتربية إرادتها على حمل الحق وتبعاته . ثم تنتهي بها إلى تقييم الحياة جملة وتفصيلا وفق قيم الإسلام في ميزان الله . . حتى تكون ربانية حقا . . وحتى ترتفع بشريتها إلى أحسن تقويم . . وعندئذ لا يستوي في ميزانها الخبيث والطيب ؛ ولو أعجبها كثرة الخبيث ! والكثرة تأخذ العين وتهول الحس . ولكن تمييز الخبيث من الطيب ، وارتفاع النفس حتى تزنه بميزان الله ، يجعل كفة الخبيث تشيل مع كثرته ، وكفة الطيب ترجح على قلته . . وعندئذ تصبح هذه الأمة أمينة ومؤتمنة على القوامة . . القوامة على البشرية . . تزن لها بميزان الله ؛ وتقدر لها بقدر الله ؛ وتختار لها الطيب ، ولا تأخذ عينها ولا نفسها كثرة الخبيث !
وموقف آخر ينفع فيه هذا الميزان . . ذلك حين ينتفش الباطل ؛ فتراه النفوس رابيا ؛ وتؤخذ الأعين بمظهره وكثرته وقوته . . ثم ينظر المؤمن الذي يزن بميزان الله إلى هذا الباطل المنتفش ، فلا تضطرب يده ، ولا يزوغ بصره ، ولا يختل ميزانه ؛ ويختار عليه الحق الذي لا رغوة له ولا زبد ؛ ولا عدة حوله ولا عدد . . إنما هو الحق . . الحق المجرد إلا من صفته وذاته ؛ وإلا من ثقله في ميزان الله وثباته ؛ وإلا من جماله الذاتي وسلطانه !
لقد ربى الله هذه الأمة بمنهج القرآن ، وقوامة رسول الله [ ص ] حتى علم - سبحانه - أنها وصلت إلى المستوى الذي تؤتمن فيه على دين الله . . لا في نفوسها وضمائرها فحسب ، ولكن في حياتها ومعاشها في هذه الأرض ، بكل ما يضطرب في الحياة من رغبات ومطامع ، وإهواء ومشارب ، وتصادم بين المصالح ، وغلاب بين الأفراد والجماعات . ثم بعد ذلك في قوامتها على البشرية بكل ما لها من تبعات جسام في خضم الحياة العام .
لقد رباها بشتى التوجيهات ، وشتى المؤثرات ، وشتى الابتلاءات ، وشتى التشريعات ؛ وجعلها كلها حزمة واحدة تؤدي دورا في النهاية واحدا ، هو إعداد هذه الأمة بعقيدتها وتصوراتها ، وبمشاعرها واستجاباتها ، وبسلوكها وأخلاقها ، وبشريعتها ونظامها ، لأن تقوم على دين الله في الأرض ، ولأن تتولى القوامة على البشر . . وحقق الله ما يريده بهذه الأمة . . والله غالب على أمره . . وقامت في واقع الحياة الأرضية تلك الصورة الوضيئة من دين الله . . حلما يتمثل في واقع . . وتملك البشرية أن تترسمه في كل وقت حين تجاهد لبلوغه فيعينها الله . .
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : { قُلْ } يا محمد : { لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ } أي : يا أيها الإنسان { كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } يعني : أن القليل الحلال النافع خير من الكثير الحرام الضار ، كما جاء في الحديث : " ما قَلَّ وكَفَى ، خَيْرٌ مما كَثُر وألْهَى " .
وقال أبو القاسم البَغَوِيُّ في معجمه : حدثنا أحمد بن زُهَيْر ، حدثنا الحَوْطِي ، حدثنا محمد بن شعيب ، حدثنا مُعان{[10426]} بن رِفاعة ، عن أبي عبد الملك علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة أنه أخبره عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أنه قال : يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه " . {[10427]}
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ } أي : يا ذوي العقول الصحيحة المستقيمة ، وتجنبوا الحرام ودعوه ، واقنعوا بالحلال واكتفوا به { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : في الدنيا والآخرة .
وقوله { هل يستوي } الآية لفظ عام في جميع الأمور يتصور في المكاسب وعدد الناس والمعارف من العلوم ونحوها ، ف { الخبيث } من هذا كله لا يفلح ولا ينجب ولا تحسن له عاقبة ، { والطيب } ولو قل نافع جميل العاقبة وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى : { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً }{[4739]} والخبث هو الفساد الباطن في الأشياء حتى يظن بها الصلاح والطيب وهي بخلاف ذلك ، وهكذا هو الخبث في الإنسان ، وقد يراد بلفظة خبيث في الإنسان فساد نسبه ، فهذا لفظ يلزم قائله على هذا القصد الحد ، وقوله تعالى { فاتقوا الله يا أولي الألباب } تنبيه على لزوم الطيب في المعتقد والعمل ، وخص { أولي الألباب } بالذكر لأنهم المتقدمون في ميز هذه الأمور والذين لا ينبغي لهم إهمالها مع ألبابهم وإدراكهم ، وكأن الإشارة بهذه { الألباب } إلى لب التجربة الذي يزيد على لب التكليف بالحنكة والفطنة المستنبطة والنظر البعيد .