إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{قُل لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ كَثۡرَةُ ٱلۡخَبِيثِۚ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (100)

{ قُل لا يَسْتَوِي الخبيث والطيب } حكم عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال ، وبين جيِّدها ، قَصَد به الترغيب في جيِّد كل منها والتحذيرَ عن رديئها ، وإن كان سببَ النزول شريحُ بنُ ضُبيعةَ البكريُّ الذي مرت قصته في تفسير قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ الله } [ المائدة ، الآية 2 ] الخ ، وقيل : نزلت في رجل سأل رسول الله عليه الصلاة والسلام : إن الخمر كانت تجارتي ، وإني اعتقدت من بيعها مالاً ، فهل ينفعني من ذلك المال إن عمِلت فيه بطاعة الله تعالى ؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام : «إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدِلْ جَناحَ بعوضة ، إن الله لا يقبل إلا الطيب » ، وقال عطاءٌ والحسنُ رضي الله عنهما : الخبيث والطيب الحرامُ والحلال ، وتقديم الخبيث في الذكر للإشعار من أول الأمر بأن القصور الذي يُنْبئ عنه عدمُ الاستواء فيه لا في مقابِلِه ، فإنه مفهومٌ عدمُ الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادةً ونقصاناً وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد ، لكن المتبادر اعتبارُه بحسب قصور القاصر كما في قوله تعالى : { هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير } [ الأنعام ، الآية 50 . والرعد ، الآية 16 ] إلى غير ذلك ، وأما قوله تعالى : { هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزمر ، الآية 9 ] فلعل تقديمَ الفاضلِ فيه لما أن صِلتَه ملكة لصلة المفضول { وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث } أي وإن سرك كثرته ، والخطاب لكل واحد من الذين أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بخطابهم ، والواو لعطف الشرطية على مثلها المقدَّر ، وقيل : للحال وقد مر ، أي ولو لم تُعجِبْك كثرة الخبيث ولو أعجبتك ، وكلتاهما في موقع الحال من فاعل لا يستوي ، أي لا يستويان كائنين على كل حال مفروض كما في قولك : أحسِنْ إلى فلان وإن أساء إليك ، أي أحسن إليه وإن لم يُسِئ إليك وإن أساء إليك ، أي كائناً على كل حال مفروض ، وقد حُذفت الأولى حذفاً مطَّرداً لدِلالة الثانية عليها دلالة واضحة ، فإن الشيء إذا تحقق مع المعارِض فلأن يتحقق بدونه أولى ، وعلى هذا السر يدور ما في لو وإن الوصليتين من المبالغة والتأكيد ، وجواب لو محذوف في الجملتين لدلالة ما قبلهما عليه ، وسيأتي تمام تحقيقه في مواقعَ عديدةٍ بإذن الله عز وجل . { فاتقوا الله ياأولي الألباب } أي في تحرِّي الخبيث وإن كثر ، وآثِروا عليه الطيِّب وإن قلّ ، فإن مدارَ الاعتبار هو الجُودة والرداءةُ لا الكثرةُ والقِلة ، فالمحمودُ القليلُ خيرٌ من المذموم الكثير ، بل كلما كثر الخبيثُ كان أخبثَ { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } راجين أن تنالوا الفلاح .