قوله تعالى : { الذين ينقضون } . يخالفون ويتركون . وأصل النقض الكسر .
قوله تعالى : { عهد الله } . أمر الله الذي عهد إليهم يوم الميثاق بقوله : ( ألست بربكم قالوا بلى ) وقيل : أراد به العهد الذي أخذه على النبيين وسائر الأمم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله : ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ) الآية . وقيل : أراد به العهد الذي عهد إليهم في التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويبينوا نعته .
قوله تعالى : { من بعد ميثاقه } . توكيده . والميثاق : العهد المؤكد .
قوله تعالى : { ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } . يعنى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبجميع الرسل عليهم السلام ، لأنهم قالوا : نؤمن ببعض ونكفر ببعض وقال المؤمنون لا نفرق بين أحد من رسله . وقيل : أراد به الأرحام .
قوله تعالى : { ويفسدون في الأرض } . بالمعاصي وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن .
قوله تعالى : { أولئك هم الخاسرون } . المغبونون ، ثم قال لمشركي العرب على وجه التعجب .
ثم وصف الله - تعالى - هؤلاء الفاسقين بثلاث خصال ذميمة فقال : في بيان الخصلة الأولى : { الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } .
والنقض : فى اللغة حقيقة في فسخ وحل ما ركب ووصل ، بفعل يعاكس الفعل الذي كان به التركيب مثل نقض الحبل المفتول وقد استعمل هنا مجازاً في إبطال العهد بقرينة إضافته إلى عهد الله .
وعبر عن إبطال العهد بالنقض ، لأنه أبلغ في الدلالة على الإِبطال من القطع والصرم ونحوهما ، لأن فى النقض إفساداً لهيئة الحبل .
والعهد : اسم للموثق الذي يلزم مراعاته وحفظه ، يقال : عهد إليه في كذا ، إذا أوصاه به ووثقه عليه .
وعهد الله : تارة يكون بما ركز في العقول من الحجة على التوحيد ، وتارة يكون بما أوجبه الله على الناس على لسان رسله - صلوات الله عليهم - وتارة بما يلتزمه المؤمن . وليس بلازم له في أصل الشرع مما ليس بمعصية كالنذور وما يجري مجراها .
والميثاق : التوثقة ، وهي التقوية والتثبيت ، والمراد به : ما قوى الله به عهده .
وقوله : { مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } متعلق بينقضون ، ومن لابتداء الغاية ، وميثاقه الضمير فيه يجوز أن يعود على العهد ، وأن يعود على اسم الله - فهو على الأولى مصدر مضاف إلى المفعول ، وعلى الثاني مضاف للفاعل .
أما الصفة الثانية التي وصفهم الله بها فهى قوله : { وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } وهو عام في كل قطيعة لا يرضاها الله ، كقطع الرحم ، والإِعراض عن موالاة المؤمنين ، وترك الجماعات المفروضة ، وعدم وصل الأقوال الطيبة بالأعمال الصالحة ، وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شر .
وأما الصفة الثانية التي وصفهم بها فهي قوله - تعالى - : { وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض } .
والفساد في الأرض يقع بعبادة غير الله ، وبالدعاية إلى الكفر به ، وبالاستهزاء بالحق ، وبالاعتداء على حقوق الغير ، وبغير ذلك من الأمور التي حرمها الله - تعالى - .
وعبر بقوله { فِي الأرض } للإِشعار بأن فسادهم لا يقتصر عليهم ، وإنما هو يتعداهم إلى غيرهم . ثم بين - سبحانه - بعد أن دمغهم بتلك الصفات المرذولة - عاقبة أمرهم فقال : { أولئك هُمُ الخاسرون } .
الخاسرون : جمع خاسر مأخوذ من الخسر والخسران وهو النقص ، ومن نقض عهد الله ، وقطع ما أمر الله بوصله ، وأفسد في الأرض ، لا شك أنه قد نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز ، وكانت عاقبته الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة .
قال ابن جرير : " والخاسرون جمع خاسر ، وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم من رحمة الله بسسبب معصيتهم له ، كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه ، وكذلك المنافق والكافر قد خسرا بحرمان الله لهما من رحمته التي خلقها لعباده . . . "
ويفصل السياق صفة الفاسقين هؤلاء ، كما فصل في أول السورة صفة المتقين ؛ فالمجال ما يزال - في السورة - هو مجال الحديث عن تلك الطوائف ، التي تتمثل فيها البشرية في شتى العصور :
( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، ويفسدون في الأرض . أولئك هم الخاسرون ) . .
فأي عهد من عهود الله هو الذي ينقضون ؟ وأي أمر مما أمر الله به أن يوصل هو الذي يقطعون ؟ وأي لون من الفساد في الأرض هو الذي يفسدون ؟
لقد جاء السياق هنا بهذا الإجمال لأن المجال مجال تشخيص طبيعة ، وتصوير نماذج ، لا مجال تسجيل حادثة ، أو تفصيل واقعة . . إن الصورة هنا هي المطلوبة في عمومها . فكل عهد بين الله وبين هذا النموذج من الخلق فهو منقوض ؛ وكل ما أمر الله به أن يوصل فهو بينهم مقطوع ؛ وكل فساد في الأرض فهو منهم مصنوع . . إن صلة هذا النمط من البشر بالله مقطوعة ، وإن فطرتهم المنحرفة لا تستقيم على عهد ولا تستمسك بعروة ولا تتورع عن فساد . إنهم كالثمرة الفجة التي انفصلت من شجرة الحياة ، فتعفنت وفسدت ونبذتها الحياة . . ومن ثم يكون ضلالهم بالمثل الذي يهدي المؤمنين ؛ وتجيء غوايتهم بالسبب الذي يهتدي به المتقون .
وننظر في الآثار الهدامة لهذا النمط من البشر الذي كانت الدعوة تواجهه في المدينة في صورة اليهود والمنافقين والمشركين ؛ والذي ظلت تواجهه وما تزال تواجهه اليوم في الأرض مع اختلاف سطحي في الأسماء والعنوانات !
( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ) . .
وعهد الله المعقود مع البشر يتمثل في عهود كثيرة : إنه عهد الفطرة المركوز في طبيعة كل حي . . أن يعرف خالقه ، وأن يتجه إليه بالعبادة . وما تزال في الفطرة هذه الجوعة للاعتقاد بالله ، ولكنها تضل وتنحرف فتتخذ من دون الله أندادا وشركاء . . وهو عهد الاستخلاف في الأرض الذي أخذه الله على آدم - كما سيجيء ( فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . . وهو عهوده الكثيرة في الرسالات لكل قوم أن يعبدوا الله وحده ، وأن يحكموا في حياتهم منهجه وشريعته . . وهذه العهود كلها هي التي ينقضها الفاسقون . وإذا نقض عهد الله من بعد ميثاقه ، فكل عهد دون الله منقوض . فالذي يجرؤ على عهد الله لا يحترم بعده عهدا من العهود .
( ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ) . .
والله أمر بصلات كثيرة . . أمر بصلة الرحم والقربى . وأمر بصلة الإنسانية الكبرى . وأمر قبل هذا كله بصلة العقيدة والأخوة الإيمانية ، التي لا تقوم صلة ولا وشيجة إلا معها . . وإذا قطع ما أمر الله به أن يوصل فقد تفككت العرى ، وانحلت الروابط ، ووقع الفساد في الأرض ، وعمت الفوضي .
والفساد في الأرض ألوان شتى ، تنبع كلها من الفسوق عن كلمة الله ، ونقض عهد الله ، وقطع ما أمر الله به أن يوصل . ورأس الفساد في الأرض هو الحيدة عن منهجه الذي اختاره ليحكم حياة البشر ويصرفها . هذا مفرق الطريق الذي ينتهي إلى الفساد حتما ، فما يمكن أن يصلح أمر هذه الأرض ، ومنهج الله بعيد عن تصريفها ، وشريعة الله مقصاة عن حياتها . وإذا انقطعت العروة بين الناس وربهم على هذا النحو فهو الفساد الشامل للنفوس والأحوال ، وللحياة والمعاش ؛ وللأرض كلها وما عليها من ناس وأشياء .
إنه الهدم والشر والفساد حصيلة الفسوق عن طريق الله . . ومن ثم يستحق أهله أن يضلهم الله بما يهدي به عباده المؤمنين .
وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين ، كما قال تعالى في سورة الرعد : { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ } الآيات ، إلى أن قال : { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ الرعد : 19 - 25 ] .
وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه ، فقال بعضهم : هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه ، وعلى لسان رسله ، ونقضهم{[1429]} ذلك هو تركهم العمل به .
وقال آخرون : بل هي{[1430]} في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم ، وعهد الله الذي نقضوه هو ما أخذه الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث والتصديق به ، وبما جاء به من عند ربهم ، ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته وإنكارهم ذلك ، وكتمانهم علم ذلك [ عن ]{[1431]} الناس بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه ، فأخبر تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم ، واشتروا به ثمنًا قليلا . وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله وقول مقاتل بن حيان .
وقال آخرون : بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق . وعهده إلى جميعهم في توحيده : ما وضع لهم{[1432]} من الأدلة الدالة على ربوبيته ، وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها{[1433]} الشاهدة لهم على صدقهم ، قالوا : ونقضهم ذلك : تركهم{[1434]} الإقرار بما ثبتت لهم صحته بالأدلة وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق ، وروي أيضًا عن مقاتل بن حيان{[1435]} نحو هذا ، وهو حسن ، [ وإليه مال الزمخشري ، فإنه قال : فإن قلت : فما المراد بعهد الله ؟ قلت : ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد ، كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم وهو معنى قوله : { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } [ الأعراف : 172 ] إذ أخذ الميثاق عليهم في الكتب المنزلة عليهم لقوله : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [ البقرة : 40 ]{[1436]} .
وقال آخرون : العهد الذي ذكره [ الله ]{[1437]} تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصف في قوله : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [ شَهِدْنَا ] }{[1438]} الآيتين [ الأعراف : 172 ، 173 ] ونقضهم{[1439]} ذلك تركهم الوفاء به . وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضًا ، حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } إلى قوله : { الْخَاسِرُونَ } قال : هي ست خصال من{[1440]} المنافقين إذا كانت فيهم الظَّهْرَة{[1441]} على الناس أظهروا هذه الخصال : إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا ، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه ، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، وأفسدوا في الأرض ، وإذا كانت الظَّهْرَةُ{[1442]} عليهم أظهروا الخصال{[1443]} الثلاث : إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا .
وكذا{[1444]} قال الربيع بن أنس أيضًا . وقال السدي في تفسيره بإسناده ، قوله تعالى : { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } قال : هو ما عهد إليهم في القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه .
وقوله : { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } قيل : المراد به صلة الأرحام والقرابات ، كما فسره قتادة كقوله تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } [ محمد : 22 ] ورجحه ابن جرير . وقيل : المراد أعم من ذلك فكل ما أمر الله بوصله وفعله قطعوه وتركوه .
وقال مقاتل بن حيان في قوله : { أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } قال{[1445]} في الآخرة ، وهذا كما قال تعالى : { أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ الرعد : 25 ] .
وقال الضحاك عن ابن عباس : كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل خاسر ، فإنما يعني به الكفر ، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذنب .
وقال ابن جرير في قوله : { أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } الخاسرون : جمع خاسر ، وهم الناقصون أنفسهم [ و ]{[1446]} حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته ، كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه ، وكذلك الكافر والمنافق خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته ، يقال منه : خسر الرجل يخسر خَسْرًا وخُسْرانًا وخَسارًا ، كما قال جرير بن عطية{[1447]} :
إن سَلِيطًا في الخَسَارِ إنَّه *** أولادُ قَومٍ خُلقُوا أقِنَّه{[1448]}
{ الّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولََئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
قال أبو جعفر : وهذا وصف من الله جل ذكره الفاسقين الذين أخبر أنه لا يضلّ بالمثل الذي ضربه لأهل النفاق غيرهم ، فقال : ومَا يُضِلّ اللّهُ بالمثل الذي يضربه على ما وصف قبل في الاَيات المتقدمة إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه .
ثم اختلف أهل المعرفة في معنى العهد الذي وصف الله هؤلاء الفاسقين بنقضه ، فقال بعضهم : هو وصية الله إلى خلقه ، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونقضهم ذلك تركهم العمل به .
وقال آخرون : إنما نزلت هذه الاَيات في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم ، وإياهم عنى الله جل ذكره بقوله : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ وبقوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَبالْيَوْمِ الاَخِرِ فكل ما في هذه الاَيات فعذل لهم وتوبيخ إلى انقضاء قصصهم . قالوا : فعهد الله الذي نقضوه بعد ميثاقه : هو ما أخذه الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها ، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث ، والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم . ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته ، وإنكارهم ذلك ، وكتمانهم علم ذلك عن الناس ، بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه . فأخبر الله جل ثناؤه أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلاً .
وقال بعضهم : إن الله عنى بهذه الآية جميع أهل الشرك والكفر والنفاق وعهده إلى جميعهم في توحيده ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها الشاهدة لهم على صدقهم . قالوا : ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة ، وتكذيبهم الرسل والكتب ، مع علمهم أن ما أتوا به حق .
وقال آخرون : العهد الذي ذكره الله جل ذكره ، هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم ، الذي وصفه في قوله : وَإذْ أخَذَ رَبّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ وأشْهَدَهُمْ على أنْفُسِهِمْ الاَيتين ، ونقضُهم ذلك ، تركهم الوفاء به .
وأولى الأقوال عندي بالصواب في ذلك ، قول من قال : إن هذه الاَيات نزلت في كفار أحبار اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما قرب منها من بقايا بني إسرائيل ، ومن كان على شركه من أهل النفاق الذين قد بينا قصصهم فيما مضى من كتابنا هذا .
وقد دللنا على أن قول الله جل ثناؤه : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ وقوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَبالْيَوْمِ الاَخِرِ فيهم أنزلت ، وفيمن كان على مثل الذي هم عليه من الشرك بالله . غير أن هذه الاَيات عندي وإن كانت فيهم نزلت ، فإنه معنيّ بها كل من كان على مثل ما كانوا عليه من الضلال ، ومعنيّ بما وافق منها صفة المنافقين خاصةً جميعُ المنافقين ، وبما وافق منها صفة كفار أحبار اليهود جميع من كان لهم نظيرا في كفرهم . وذلك أن الله جل ثناؤه يعمّ أحيانا جميعهم بالصفة لتقديمه ذكر جميعها في أول الاَيات التي ذكرتْ قصصهم ، ويخصّ أحيانا بالصفة بعضهم لتفصيله في أول الاَيات بين فريقيهم ، أعني فريق المنافقين من عبدة الأوثان وأهل الشرك بالله ، وفريق كفار أحبار اليهود .
فالذين ينقضون عهد الله : هم التاركون ما عهد الله إليهم من الإقرار بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به وتبيين نبوّته للناس الكاتمون بيان ذلك بعد علمهم به وبما قد أخذ الله عليهم في ذلك ، كما قال الله جل ذكره : وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثاقَ الّذِينَ أوتُوا الكِتابَ لَتُبَيّنُنّهُ للنّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ فَنبذوهُ وراءَ ظهُورهِمْ ونبذهم ذلك وراء ظهورهم : هو نقضهم العهد الذي عهد إليهم في التوراة الذي وصفناه ، وتَرْكُهم العمل به .
وإنما قلت : إنه عنى بهذه الاَيات من قلت إنه عَنَى بها ، لأن الاَيات من ابتداء الاَيات الخمس والستّ من سورة البقرة فيهم نزلت إلى تمام قصصهم ، وفي الآية التي بعد الخبر عن خلق آدم وبيانه في قوله : يا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُروا نِعْمَتِي الّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وأوْفُوا بِعَهْدِي أوفِ بِعَهْدِكُمْ وخطابه إياهم جلّ ذكره بالوفاء في ذلك خاصة دون سائر البشر ما يدلّ على أن قوله : الّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ مقصود به كفارهم ومنافقوهم ، ومن كان من أشياعهم من مشركي عبدة الأوثان على ضلالهم .
غير أن الخطاب وإن كان لمن وصفت من الفريقين فداخل في أحكامهم وفيما أوجب الله لهم من الوعيد والذمّ والتوبيخ كل من كان على سبيلهم ومنهاجهم من جميع الخلق وأصناف الأمم المخاطبين بالأمر والنهي . فمعنى الآية إذا : وما يضلّ به إلا التاركين طاعة الله ، الخارجين عن اتباع أمره ونهيه ، الناكثين عهود الله التي عهدها إليهم في الكتب التي أنزلها إلى رسله وعلى ألسن أنبيائه باتباع أمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وطاعة الله فيما افترض عليهم في التوراة من تبيين أمره للناس ، وإخبارهم إياهم أنهم يجدونه مكتوبا عندهم أنه رسول من عند الله مفترضة طاعته وترك كتمان ذلك لهم . ونَكْثُهم ذلك ونَقْضُهم إياه ، هو مخالفتهم الله في عهده إليهم فيما وصفت أنه عهد إليهم بعد إعطائهم ربهم الميثاق بالوفاء بذلك كما وصفهم به جل ذكره بقوله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتابَ يأخُذونَ عَرَضَ هَذَا الأدنى ويَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإنْ يأتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يأخُذُوهُ ألَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ أنْ لا يَقُولُوا على اللّهِ إلاّ الحَقّ .
وأما قوله : مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ : فإنه يعني من بعد توثق الله فيه بأخذ عهوده بالوفاء له بما عهد إليهم في ذلك ، غير أن التوثق مصدر من قولك : توثقت من فلان توثّقا ، والميثاق اسم منه ، والهاء في الميثاق عائدة على اسم الله .
وقد يدخل في حكم هذه الآية كل من كان بالصفة التي وصف الله بها هؤلاء الفاسقين من المنافقين والكفار في نقض العهد وقطع الرحم والإفساد في الأرض . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : الّذِينَ يَنْقُضونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ فإياكم ونقض هذا الميثاق ، فإن الله قد كره نقضه وأوعد فيه وقدم فيه في آي القرآن حجة وموعظة ونصيحة ، وإنا لا نعلم الله جل ذكره أوعد في ذنب ما أوعد في نقض الميثاق ، فمن أعطى عهد الله وميثاقه من ثمرة قلبه فليف به لله .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : الّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ الله بِهِ أنْ يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ في الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ فهي ست خلال في أهل النفاق إذا كانت لهم الظّهَرَة أظهروا هذه الخلال الستّ جميعا : إذا حدّثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا ، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه ، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، وأفسدوا في الأرض . وإذا كانت عليهم الظّهَرَة أظهروا الخلال الثلاث : إذا حدّثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا .
القول في تأويل قوله تعالى : ويَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ .
قال أبو جعفر : والذي رغب الله في وصله وذمّ على قطعه في هذه الآية : الرحم ، وقد بين ذلك في كتابه فقال تعالى : فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وتُقَطّعُوا أرْحَامَكُمْ وإنما عنى بالرحم : أهل الرجل الذين جمعتهم وإياه رحم والدة واحدة ، وقطع ذلك ظلمه في ترك أداء ما ألزم الله من حقوقها وأوجب من برّها ووصلها أداء الواجب لها إليها : من حقوق الله التي أوجب لها ، والتعطف عليها بما يحقّ التعطف به عليها . و«أن » التي مع «يوصل » في محل خفض بمعنى ردّها على موضع الهاء التي في «به » فكان معنى الكلام : ويقطعون الذي أمر الله بأن يوصل . والهاء التي في «به » هي كناية عن ذكر «أن يوصل » .
وبما قلنا في تأويل قوله : ويَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ وأنه الرحم كان قتادة يقول :
حدثنا بشر بن معاذ . قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : وَيَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ فقطع والله ما أمر الله به أن يوصل بقطيعة الرحم والقرابة .
وقد تأوّل بعضهم ذلك أن الله ذمهم بقطعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به وأرحامهم ، واستشهد على ذلك بعموم ظاهر الآية ، وأن لا دلالة على أنه معنيّ بها : بعض ما أمر الله بوصله دون بعض .
قال أبو جعفر : وهذا مذهب من تأويل الآية غير بعيد من الصواب ، ولكن الله جل ثناؤه قد ذكر المنافقين في غير آية من كتابه ، فوصفهم بقطع الأرحام . فهذه نظيرة تلك ، غير أنها وإن كانت كذلك فهي دالة على ذمّ الله كل قاطع قطع ما أمر الله بوصله رحما كانت أو غيرها .
القول في تأويل قوله تعالى : ويُفْسِدُونَ في الأرْضِ .
قال أبو جعفر : وفسادهم في الأرض هو ما تقدم وَصْفُنَاه قبل من معصيتهم ربهم وكفرهم به ، وتكذيبهم رسوله ، وجحدهم نبوّته ، وإنكارهم ما أتاهم به من عند الله أنه حق من عنده .
القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ .
قال أبو جعفر : والخاسرون جمع خاسر ، والخاسرون : الناقصون أنفسهم حظوظها بمعصيتهم الله من رحمته ، كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضَع من رأس ماله في بيعه . فكذلك الكافر والمنافق خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كان إلى رحمته ، يقال منه : خَسِرَ الرجل يَخْسَر خَسْرا وخُسْرانا وخَسَارا ، كما قال جرير بن عطية :
إنّ سَلِيطا فِي الخسَارِ إنّهْ *** أوْلادُ قَوْمٍ خُلِقُوا أقِنّهْ
يعني بقوله في الخسار : أي فيما يوكسهم حظوظهم من الشرف والكرم .
وقد قيل : إن معنى أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ : أولئك هم الهالكون . وقد يجوز أن يكون قائل ذلك أراد ما قلنا من هلاك الذي وصف الله صفته بالصفة التي وصفه بها في هذه الآية بحرمان الله إياه ما حرمه من رحمته بمعصيته إياه وكفره به . فحمل تأويل الكلام على معناه دون البيان عن تأويل عين الكلمة بعينها ، فإن أهل التأويل ربما فعلوا ذلك لعلل كثيرة تدعوهم إليه .
حدثت به عن المنجاب . قال : حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل «خاسر » ، فإنما يعني به الكفر ، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذنب .
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 27 )
النقض رد ما أبرم على أوله غير مبرم ، والعهد في هذه الآية التقدم في الشيء والوصاة به .
واختلف في تفسير هذا العهد : فقال بعض المتأولين : هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهر أبيهم آدم كالذر .
وقال آخرون : بل نصب الأدلة على وحدانية الله بالسماوات والأرض وسائر الصنعة هو بمنزلة العهد . ( {[382]} )
وقال آخرون : بل هذا العهد هو الذي أخذه الله على عباده بواسطة رسله أن يوحدوه وان لا يعبدوا غيره .
وقال آخرون : بل هذا العهد هو الذي أخذه الله تعالى على أتباع الرسل والكتب المنزلة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأن لا يكتموا أمره .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فالآية على هذا( {[383]} ) في أهل الكتاب ، وظاهر ما قبل وبعد أنه في جميع الكفار . ( {[384]} )
وقال قتادة : «هذه الآية هي فيمن كان آمن بالنبي عليه السلام ثم كفر به فنقض العهد » .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : لم ينسب الطبري شيئاً من هذه الأقوال ، وكل عهد جائز بين المسلمين فنقضه لا يحل بهذه الآية ، والضمير في { ميثاقه } يحتمل العودة على العهد أو على اسم الله تعالى ، وميثاق مفعال من الوثاقة ، وهي الشد في العقد والربط ونحوه ، وهو في هذه الآية اسم في موضع المصدر( {[385]} ) كما قال عمرو بن شييم : [ الوافر ] .
أكفراً بعد ردِّ الموتِ عنّي . . . وبَعْدَ عَطَائك المائَةَ الرّتاعا( {[386]} ) ؟
وقوله تعالى : { ما أمر الله به أن يوصل } ، { ما } في موضع نصب ب { يقطعون } واختلف ما الشيء الذي أمره بوصله ؟
فقال قتادة : «الأرحام عامة في الناس » وقال غيره : «خاصة فيمن آمن بمحمد ، كان الكفار يقطعون أرحامهم » . وقال جمهور أهل العلم : الإشارة في هذه الآية إلى دين الله وعبادته في الأرض ، وإقامة شرائعه ، وحفظ حدوده .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الحق ، والرحم جزء من هذا( {[387]} ) ، و { أن } في موضع نصب بدل من { ما } ، أو مفعول من أجله . وقيل { أن } في موضع خفض بدل من الضمير في { به }( {[388]} ) ، وهذا متجه .
{ ويفسدون في الأرض } يعبدون غير الله ويجورون في الأفعال ، إذ هي بحسب شهواتهم ، والخاسر الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز ، والخسران النقص كان في ميزان أو غيره .
{ الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الارض أولاائك هُمُ الخاسرون } .
وجملة { الذين ينقضون } إلى آخره صفة ل { الفاسقين } لتقرير اتصافهم بالفسق لأن هاته الخلال من أكبر أنواع الفسوق بمعنى الخروج عن أمر الله تعالى . وجوز أن تكون مقطوعة مستأنفة على أن الذين مبتدأ وقوله { أولئك هم الخاسرون } خبر وهي مع ذلك لا تخرج عن معنى توصيف الفاسقين بتلك الخلال إذ الاستئناف لما ورد إثر حكاية حال عن الفاسقين تعين في حكم البلاغة أن تكون هاته الصلة من صفاتهم وأحوالهم للزوم الاتحاد في الجامع الخيالي وإلا لصار الكلام مقطعا منتوفا فليس بين الاعتبارين إلا اختلاف الإعراب وأما المعنى فواحد فلذلك كان إعرابه صفة أرجح أو متعينا إذ لا داعي إلى اعتبار القطع .
ومجيء الموصول هنا للتعريف بالمراد من الفاسقين أي الفاسقين الذين عرفوا بهذه الخلال الثلاث فالأظهر أن المراد من الفاسقين اليهود وقد أطلق عليهم هذا الوصف في مواضع من القرآن وهم قد عرفوا بما دلت عليه صلة الموصول كما سنبينه هنا بل هم قد شهدت عليهم كتب أنبيائهم بأنهم نقضوا عهد الله غير مرة وهم قد اعترفوا على أنفسهم بذلك فناسب أن يجعل النقض صلة لاشتهارهم بها ، ووجه تخصيصهم بذلك ان الطعن في هذا المثل جرهم إلى زيادة الطعن في الإسلام فازدادوا بذلك ضلالا على ضلالهم السابق في تغيير دينهم وفي كفرهم بعيسى ، فأما المشركون فضلالهم لا يقبل الزيادة ، على أن سورة البقرة نزلت بالمدينة وأكثر الرد في الآيات المدنية متوجه إلى أهل الكتاب .
والنقض في اللغة حقيقة في فسخ وحل ما ركب ووصل ، بفعل يعاكس الفعل الذي كان به التركيب ، وإنما زدت قولي بفعل الخ ليخرج القطع والحرق فيقال نقض الحبل إذا حل ما كان أبرمه ، ونقض الغزل ونقض البناء .
وقد استعمل النقض هنا مجازا في إبطال العهد بقرينة إضافته إلى عهد الله وهي استعارة من مخترعات القرآن بنيت على ما شاع في كلام العرب في تشبيه العهد وكل ما فيه وصل بالحبل وهو تشبيه شائع في كلامهم ، ومنه قول مالك بن التيهان الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم يوم بيعة العقبة يا رسول الله إن بيننا وبين القوم حبالا ونحن قاطعوها فنخشى إن أعزك الله وأظهرك أن ترجع إلى قومك يريد العهود التي كانت في الجاهلية بين قريش وبين الأوس والخزرج . وكان الشائع في الكلام إطلاق لفظ القطع والصرم وما في معناهما على إبطال العهد أيضا في كلامهم . قال امرؤ القيس :
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي ***
أو لم تكن تدري نوار بأنني *** وصال عقد حبائل جذّامها
بل ما تذكر من نوار وقد نأت *** وتقطعت أسبابها ورمامهـا
فاقطع لبانة من تعرض وصله *** فلشر واصل خلة صرامهـا
ووجه اختيار استعارة النقض الذي هو حل طيات الحبل إلى إبطال العهد أنها تمثيل لإبطال العهد رويدا رويدا وفي أزمنة متكررة ومعالجة . والنقض أبلغ في الدلالة على الإبطال من القطع والصرم ونحوهما لأن في النقض إفسادا لهيأة الحبل وزوال رجاء عودها وأما القطع فهو تجزئة .
وفي النقض رمز إلى استعارة مكنية لأن النقض من روادف الحبل فاجتمع هنا استعارتان مكنية وتصريحية وهذه الأخيرة تمثيلية وقد تقرر في علم البيان أن ما يرمز به للمشبه به المطروح في المكنية قد يكون مستعملا في معنى حقيقي على طريقة التخييل وذلك حيث لا يكون للمشبه المذكور في صورة المكنية رديف يمكن تشبيهه برديف المشبه به المطروح ، مثل إثبات الأظفار للمنية في قولهم أظفار المنية وإثبات المخالب والناب للكماة في قول أبي فراس الحمداني :
فلما اشتدت الهيجاء كنا *** أشد مخالبا وأحد نابـا
وإثبات اليد للشمال في قول لبيد :
وغداة ريح قد كشفت وقـرة *** إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
وقد يكون مستعملا في معنى مجازي إذا كان للمشبه في المكنية رديف يمكن تشبيهه برديف المشبه به المضمر نحو ينقضون عهد الله ، وقد زدنا أنها تمثيلية أيضا والبليغ لا يفلت هاته الاستعارة مهما تأت له ولا يتكلف لها مهما عسرت فليس الجواز المذكور في قرينة المكنية إلا جوازا في الجملة أي بالنظر إلى اختلاف الأحوال .
وهذا الذي هو من روادف المشبه به في صورة المكنية وغيرها قد يقطع عن الربط بالمكنية فيكون استعارة مستقلة وذلك حيث لا تذكر معه لفظا يراد تشبيهه بمشبه به مضمر نحو أن تقول فلان ينقض ما أبرم . وقد يربط بالمكنية وذلك حيث يذكر معه شيء أريد تشبيهه بمشبه به مضمر كما في الآية حيث ذكر النقض مع العهد . وقد يربط بمصرحة وذلك حيث يذكر مع لفظ المشبه به الذي الرادف من توابعه نحو قوله إن بيننا وبين القوم حبالا نحن قاطعوها وحينئذ يكون ترشيحا للمجاز وهذه الاعتبارات متداخلة لا متضادة إذ قد يصح في الموضع اعتباران منها أو جميعها وإنما التقسيم بالنظر إلى ما ينظر إليه البليغ أول النظر .
واعلم أن رديف المشبه به في المكنية إذا اعتبر استعارة في ذاته قد يتوهم أن اعتباره ذلك ينافي كونه رمزا للمشبه به المضمر كالنقض فإنه لما أريد به إبطال العهد لم يكن من روادف الحبل ، لكن لما كان إيذانه بالحبل سابقا عند سماع لفظه لسبق المعنى الحقيقي إلى ذهن السامع حتى يتأمل في القرينة كفى ذلك السبق دليلا ورمزا على المشبه به المضمر فإذا حصل ذلك الرمز لم يضر فهم الاستعارة في ذلك اللفظ ، وأجاب عبد الحكيم بأن كونه رادفا بعد كونه استعارة بناء على أنه لما شبه به الرادف وسمي به صار رادفا إدعائيا وفيه تكلف .
و{ عهد الله } هو ما عهد به أي ما أوصى برعيه وحفاظه ، ومعاني العهد في كلام العرب كثيرة وتصريفه عرفي . قال الزجاج قال بعضهم ما أدري ما العهد ومرجع معانيه إلى المعاودة والمحافظة والمراجعة والافتقاد ولا أدري أي معانيه أصل لبقيتها وغالب ظني أنها متفرع بعضها عن بعض والأقرب أن أصلها هو العهد مصدر عهده عهدا إذا تذكره وراجع إليه نفسه ، يقولون عهدتك كذا أي أتذكر فيك كذا وعهدي بك كذا ، وفي حديث أم زرع ولا يسأل عما عهد أي عما عهد وترك في البيت ومنه قولهم في عهد فلان أي زمانه لأنه يقال للزمان الذي فيه خير وشر لا ينساه الناس ، وتعهد المكان أو فلانا وتعاهده إذا افتقده وأحدث الرجوع إليه بعد ترك العهد والوصية ومنه ولي العهد . والعهد اليمين والعهد الالتزام بشيء ، يقال عهد إليه وتعهد إليه لأنها أمور لا يزال صاحبها يتذكرها ويراعيها في مواقع الاحتراز عن خفرها . وسمي الموضع الذي يتراجعه الناس بعد البعد عنه معهدا .
والعهد في الآية الذي أخذه الله على بني آدم أن لا يعبدوا غيره { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان } الآية فنقضه يشمل الشرك وقد وصف الله المشركين بنقض العهد في قوله { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } الآية في سورة الرعد . وفسر بالعهد الذي أخذه الله على الأمم على ألسنة رسلهم أنهم إذا بعث بعدهم رسول مصدق لما معهم ليؤمنن به { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه } الآيات لأن المقصود من ذلك أخذ العهد على أممهم . وفسر بالعهد الذي أخذه الله على أهل الكتاب ليبينه للناس { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس } الآية في تفاسير أخرى بعيدة . والصحيح عندي أن المراد بالعهد هو العهد الذي أخذه الله على بني إسرائيل غير مرة من إقامة الدين وتأييد الرسل وأن لا يسفك بعضهم دماء بعض وأن يؤمنوا بالدين كله ، وقد ذكرهم القرآن بعهود الله تعالى ونقضهم إياها في غير ما آية من ذلك قوله تعالى { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } . { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا } إلى قوله { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم } الخ وقوله { لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا } إلى قوله { فعموا وصموا } . { وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم } إلى قوله { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } إلى قوله { وتكفرون ببعض } . بل إن كتبهم قد صرحت بعهود الله تعالى لهم وأنحت عليهم نقضهم لها وجعلت ذلك إنذارا بما يحل بهم من المصائب كما في كتاب أرميا ومراثي أرميا وغير ذلك ، بل قد صار لفظ العهد عندهم لقبا للشريعة التي جاء بها موسى . ولما كان قوله { الذين ينقضون عهد الله } الآية وصفا لـ { الفاسقين } وكان المراد من الفاسقين اليهود كما علمت كان ذكر العهد إيماء إلى أن الفاسقين هنا هم ، وتسجيلا على اليهود بأنهم قد حق عليهم هذا الوصف من قبل اليوم بشهادة كتبهم وعلى ألسنة أنبيائهم فكان لاختيار لفظ العهد هنا وقع عظيم يتنزل منزلة المفتاح الذي يوضع في حل اللغز ليشير للمقصود فهو العهد الذي سيأتي ذكره في قوله تعالى { وأوفوا بعهدي } .
والميثاق مفعال وهو يكون للآلة كثيرا كمرقاة ومرآة ومحراث . قال الخفاجي كأنه إشباع للمفعل ، وللمصدر أيضا نحو الميلاد والميعاد وهو الأظهر هنا . والضمير للعهد أي من بعد توكيد العهد وتوثيقه . ولما كان المراد بالعهد عهدا غير معين ، بل كل ما عاهدوا عليه كان توكيد كل ما يفرضه المخاطب بما تقدمه من العهود وما تأخر عنه فهو على حد { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } فالميثاق إذن عهد آخر اعتبر مؤكدا لعهد سبقه أو لحقه .
وقوله { ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } قيل ما أمر الله به أن يوصل هو قرابة الأرحام يعني وحيث ترجح أن المراد به بعض عمل اليهود فذلك إذ تقاتلوا وأخرجوا كثيرا منهم من ديارهم ولم تزل التوراة توصي بني إسرائيل بحسن معاملة بعضهم لبعض . وقيل الإعراض عن قطع ما أمر الله به أن يوصل هو موالاة المؤمنين . وقيل اقتران القول بالعمل . وقيل التفرقة بين الأنبياء في الإيمان ببعض والكفر ببعض . وقال البغوي يعنى بما أمر الله به أن يوصل الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبجميع الرسل . وأقول تكميلا لهذا إن مراد الله تعالى مما شرع للناس منذ النشأة إلى ختم الرسالة واحد وهو إبلاغ البشر إلى الغاية التي خلقوا لها وحفظ نظام عالمهم وضبط تصرفاتهم فيه على وجه لا يعتوره خلل ، وإنما اختلفت الشرائع على حسب مبلغ تهيئ البشر لتلقي مراد الله تعالى ولذلك قلما اختلفت الأصول الأساسية للشرائع الإلهية قال تعالى { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين } الآية . وإنما اختلفت الشرائع في تفاريع أصولها اختلافا مراعى فيه مبلغ طاقة البشر لطفا من الله تعالى بالناس ورحمة منه بهم حتى في حملهم على مصالحهم ليكون تلقيهم لذلك أسهل ، وعملهم به أدوم ، إلى أن جاءت الشريعة الإسلامية في وقت راهق فيه البشر مبلغ غاية الكمال العقلي وجاءهم دين تناسب أحكامه وأصوله استعدادهم الفكري وإن تخالفت الأعصار وتباعدت الأقطار فكان دينا عاما لجميع البشر ، فلا جرم أن كانت الشرائع السابقة تمهيدا له لتهيئ البشر لقبول تعاليمه وتفاريعها التي هي غاية مراد الله تعالى من الناس ولذا قال تعالى { إن الدين عند الله الإسلام } . فما من شريعة سلفت إلا وهي حلقة من سلسلة جعلت وصلة للعروة الوثقى التي لا انفصام لها وهي عروة الإسلام فمتى بلغها الناس فقد فصموا ما قبلها من الحلق وبلغوا المراد ، ومتى انقطعوا في أثناء بعض الحلق فقد قطعوا ما أراد الله وصله ، فاليهود لما زعموا أنهم لا يحل لهم العدول عن شريعة التوراة قد قطعوا ما أمر الله به أن يوصل ففرقوا مجتمعه .
والفساد في الأرض تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى { ألا إنهم هم المفسدون } ومن الفساد في الأرض عكوف قوم على دين قد اضمحل وقت العمل به وأصبح غير صالح لما أراد الله من البشر فإن الله ما جعل شريعة من الشرائع خاصة وقابلة للنسخ إلا وقد أراد منها إصلاح طائفة من البشر معينة في مدة معينة في علمه ، وما نسخ دينا إلا لتمام وقت صلوحيته للعمل به فالتصميم على عدم تلقي الناسخ وعلى ملازمة المنسوخ هو عمل بما لم يبق فيه صلاح للبشر فيصير ذلك فسادا في الأرض لأنه كمداواة المريض بدواء كان وصف له في حالة تبدلت من أحوال مرضه حتى أتى دين الإسلام عاما دائما لأنه صالح للكل .
وقوله { أولئك هم الخاسرون } قصر قلب لأنهم ظنوا أنفسهم رابحين وهو استعارة مكنية تمثيلية تقدمت في قوله تعالى { فما ربحت تجارتهم } . وذكر الخسران تخييل مراد منه الاستعارة في ذاته على نحو ما قرر في ينقضون عهد الله فهذه الآية ظاهرة في أنها موجهة إلى اليهود لما علمت عند قوله { وما يضل به إلا الفاسقين } ولما علمت من كثرة إطلاق وصف الفاسقين على اليهود ، وإن كان الذين طعنوا في أمثال القرآن فريقين : المشركين واليهود ، كما تقدم وكان القرآن قد وصف المشركين في سورة الرعد وهي مكية بهذه الصفات الثلاث في قوله { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار } فالمراد بهم المشركون لا محالة فذلك كله لا يناكد جعل آية سورة البقرة موجهة إلى اليهود إذ ليس يلزم المفسر حمله أي القرآن على معنى واحد كما يوهمه صنيع كثير من المفسرين حتى كان آي القرآن عندهم قوالب تفرغ فيها معان متحدة .
واعلم أن الله قد وصف المؤمنين بضد هذه الصفات في قوله تعالى { إنما يتذكر أولوا الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } الآية في سورة الرعد .
واعلم أن نزول هذه الآيات ونحوها في بعض أهل الكتاب أو المشركين هو وعيد وتوبيخ للمشركين وأهل الكتاب وهو أيضا موعظة وذكرى للمؤمنين ليعلم سامعوه أن كل من شارك هؤلاء المذمومين فيما أوجب ذمهم وسبب وعيدهم هو آخذ بحظ مما نالهم من ذلك على حسب مقدار المشاركة في الموجب .