{ خاشعةً أبصارهم } وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم من السجود ووجوههم أشد بياضاً من الثلج ، وتسود وجوه الكافرين والمنافقين ، { ترهقهم ذلة } يغشاهم ذل الندامة والحسرة ، { وقد كانوا يدعون إلى السجود } قال إبراهيم التيمي : أي إلى الصلاة المكتوبة بالأذان والإقامة وقال سعيد بن جبير : كانوا يسمعون حي على الصلاة حي على الفلاح فلا يجيبون ، { وهم سالمون } أصحاء فلا يأتونه ، قال كعب الأحبار : والله ما نزلت هذه الآية إلا عن الذين يتخلفون عن الجماعات .
ثم بين - سبحانه - جابنا من أهوال يوم القيامة ، ومن حال الكافرين فيه ، فقال : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ .
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود وَهُمْ سَالِمُونَ } .
والظرف " يوم " يجوز أن يكون متعلقا بقوله - تعالى - قبل ذلك { فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ . . . } ويصح أن يكون متعلقا بمحذوف تقديره ، اذكر ، والمراد باليوم ، يوم القيامة .
والكشف عن الساق معناه التشمير عنها وإظهارها ، وهو مثل لشدة الحال ، وصعوبة الخطب والهول ، وأصله أن الإنسان إذا اشتد خوفه ، أسرع فى المشى ، وشمر عن ثيابه ، فينكشف ساقه .
قال صاحب الكشاف : الكشف عن الساق ، والإبداء عن الخدام - أى : الخلخال الذى تلبسه المرأة فى رجلها - وهو جمع خَدَمة كرقاب جمع رقبة - مثل فى شدة الأمر ، وصعوبة الخطب ، وأصله فى الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهن فى الهرب ، وإبداء خِدَامهن عند ذلك . .
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها . . . وإن شمرت عن سوقها الحرب شمرا
فمعنى يوم يكشف عن ساق : يوم يشتد الأمر يتفاقم ، ولا كشف ولا ساق ، كما تقول للأقطع الشحيح : يده مغلولة ، ولا يد ثَمَّ ولا غل ، وإنما هو مثل فى البخل . .
فإن قلت : فلم جاءت منكرة فى التمثيل ؟ قلت : للدلالة على أنه أمر مبهم فى الشدة فظيع خارج عن المألوف . .
والمعنى : اذكر لهم - أيها الرسول الكريم - لكى يعتبروا ويتعظوا أهوال يوم القيامة ، يوم يشتد الأمر ، ويعظم الهول .
{ وَيُدْعَوْنَ } هؤلاء الذين فسقوا عن أمر ربهم فى هذا اليوم { إِلَى السجود } لله - تعالى - على سبيل التوبيخ لهم ، لأنهم كانوا ممتنعين عنه فى الدنيا . .
{ فَلاَ يَسْتَطِيعُون } أى : فلا يستطيعون ذلك ، لأنه الله - تعالى - سلب منهم القدرة على السجود له فى هذا اليوم العظيم ، لأنه يوم جزاء وليس يوم تكليف والذين يدعونهم إلى السجود ، هم الملائكة بأمره - تعالى - .
وقوله : { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ . . . } حال من فاعل { يدعون } وخشوع الأبصار : كناية عن الذلة والخوف الشديد ، ونسب الخشوع إلى الأبصار ، لظهور أثره فيها .
أى : هم يدعون إلى السجود فلا يستطيعون ذلك . لأنه - تعالى - سلب منهم القدرة عليه ، ثم يساقون إلى النار ، حالة كونهم ذليلة أبصارهم ، منخفضة رءوسهم . .
{ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أى : تغشاهم وتعلوهم ذلة وانكسار . .
{ وَقَدْ كَانُواْ } فى الدنيا { يُدْعَوْنَ إِلَى السجود } لله - تعالى - { وَهُمْ سَالِمُونَ } أى : قادرون على السجود له - تعالى - ، ومتمكنون من ذلك أقوى تمكن . . ، ولكنهم كانوا يعرضون عمن يدعوهم إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - ، ويستهزئون به . .
قال الإِمام انب كثير ما ملخصه : قوله : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ . . . } يعنى يوم القيامة وما يكون فيه من الأهوال ، والزلازل ، والبلايا ، والامتحان ، والأمور العظام . .
روى البخارى عن أبى سعيد الخدرى قال : سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول : يكشف ربنا عن ساقه ، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ، ويبقى من كان يسجد فى الدنيا رياء وسمعة ، فيذهب ليسجد فيعود ظهره ، طبقا واحدا - أى : يصير ظهره كالشئ الصلب فلا يقدر على السجود- .
وعن ابن عباس قال : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } : وهو يوم كرب وشدة . .
ثم يكمل رسم هيئتهم : ( خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ) . . هؤلاء المتكبرون المتبجحون . والأبصار الخاشعة والذلة المرهقة هما المقابلان للهامات الشامخة والكبرياء المنفوخة . وهي تذكر بالتهديد الذي جاء في أول السورة : ( سنسمه على الخرطوم ) . . فإيحاء الذلة والانكسار ظاهر عميق مقصود !
وبينما هم في هذا الموقف المرهق الذليل ، يذكرهم بما جرهم إليه من إعراض واستكبار : ( وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ) . . قادرون على السجود . فكانوا يأبون ويستكبرون . . كانوا . فهم الآن في ذلك المشهد المرهق الذليل . والدنيا وراءهم . وهم الآن يدعون إلى السجود فلا يستطيعون !
وقوله : خاشِعَةً أبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلّةٌ يقول : تغشاهم ذلة من عذاب الله وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إلى السّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ يقول : وقد كانوا في الدينا يدعونهم إلى السجود له ، وهم سالمون ، لا يمنعهم من ذلك مانع ، ولا يحول بينه وبينهم حائل . وقد قيل : السجود في هذا الموضع : الصلاة المكتوبة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم التيميّ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إلى السّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ قال : إلى الصلاة المكتوبة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي سنان ، عن سعيد بن جبير وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إلى السّجُودِ قال : يَسْمَعُ المناديَ إلى الصلاة المكتوبة فلا يجيبه .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن إبراهيم التيميّ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إلى السّجُودِ قال : الصلاة المكتوبة .
وبنحو الذي قلنا في قوله وَيُدْعَوْنَ إلى السّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ . . . الاَية ، قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إلى السّجُودِ وَهُمْ سالِمُون قال : هم الكفار كانوا يدعون في الدنيا وهم آمنون ، فاليوم يدعوهم وهم خائفون ، ثم أخبر الله سبحانه أنه حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والاَخرة ، فأما في الدنيا فإنه قال ما كانُوا يسْتَطيعُون السّمْعَ ومَا كانُوا يُبْصِرُونَ وأما في الاَخرة فإنه قال : فَلا يَسْتَطِيعُونَ خاشِعَة أبْصَارُهُمْ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَيُدْعَوْنَ إلى السّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ذلكم والله يوم القيامة . ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «يُؤْذَنُ للْمُؤْمِنينَ يَوْمَ القِيامَةِ في السّجُودِ ، فَيَسْجُدُ المُؤْمِنُونَ ، وَبَينَ كُلّ مُؤْمِنَيْنِ مُنافقٌ ، فَيَقْسُو ظَهْرُ المُنافِقِ عَنْ السّجُودِ ، ويَجْعَلُ اللّهُ سُجُودَ المُؤْمِنينَ عَلَيْهِمْ تَوْبِيخا وَذُلاّ وَصَغارا ، وَنَدَامَةً وَحَسْرَةً » .
وقوله : وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إلى السّجُودِ أي في الدنيا وَهُمْ سالِمُونَ : أي في الدنيا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : بلغني أنه يُؤْذَن للمؤمنين يوم القيامة في السجود بين كل مؤمنين منافق ، يسجد المؤمنون ، ولا يستطيع المنافق أن يسجد وأحسبه قال : تقسو ظهورهم ، ويكون سجود المؤمنين توبيخا عليهم ، قال : وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إلى السّجُودِ وَهُم سالِمُونَ .
و : { خاشعة } نصب على الحال وجوارحهم كلها خاشعة ، أي ذليلة ولكنه خص الأبصار بالذكر لأن الخشوع فيها أبين منه في كل جارحة . وقوله تعالى : { ترهقهم ذلة } أي تزعج نفوسهم وتظهر عليهم ظهوراً يخزيهم ، وقوله تعالى : { وقد كانوا يدعون إلى السجود } يريد في دار الدنيا وهم سالمون مما نال عظام ظهورهم من الاتصال والعتو ، وقال بعض المتأولين : { السجود } هنا عبارة عن جميع الطاعات ، وخص { السجود } بالذكر من حيث هو عظم الطاعات ، ومن حيث به وقع امتحانهم في الآخرة ، وقال إبراهيم التيمي{[11264]} والشعبي : أراد ب { السجود } الصلوات المكتوبة ، وقال ابن جبير : المعنى كانوا يسمعون النداء للصلاة : وحي على الفلاح فلا يجيبون ، وفلج الربيع بن خيثم{[11265]} : فكان يهادي بين رجلين إلى المسجد ، فقيل له : إنك لمعذور ، فقال : من سمع حي على الفلاح ، فليجب ولو حبواً ، وقيل لابن المسيب : إن طارقاً يريد قتلك فاجلس في بيتك ، فقال : أسمع حي على الفلاح فلا أجيب ؟ والله لا فعلت . وهذا كله قريب بعضه من بعض .
وخشوع الأبصار : هيئة النظر بالعين بذلة وخَوف ، استعير له وصف { خاشعة } لأن الخاشع يكون مطأطئا مختفياً .
و { ترهقهم } : تحل بهم وتقترب منهم بحرص على التمكن منهم ، رَهِقَ من باب فَرِح قال تعالى : { تَرْهَقُها قَتَرة } [ عبس : 41 ] .
وجملة { ترهقهم ذلة } حال ثانية من ضمير { يستطيعون .
وجملة وقد كانوا يُدْعَوْن إلى السجود وهم سالمون } معترضة بين ما قبلها وما تفرع عنها ، أي كانوا في الدّنيا يُدعون إلى السجود لله وحده وهم سالمون من مثل الحالة التي هم عليها في يوم الحشر . والواو للحال وللاعتراض .
وجملة { وهم سالمون } حال من ضمير { يُدعون } أي وهم قادرون لا علة تعوقهم عنه في أجسادهم . والسلامة : انتفاء العلل والأمراض بخلاف حالهم يوم القيامة فإنهم مُلْجَأُون لعدم السجود .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{خاشعة أبصارهم} عند معاينة النار.
{ترهقهم ذلة} يعنى تغشاهم مذلة.
{وقد كانوا يدعون إلى السجود} يعني يؤمرون بالصلاة الخمس.
{وهم سالمون} كانوا معافون في الدنيا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
تغشاهم ذلة من عذاب الله،" وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إلى السّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ "يقول: وقد كانوا في الدينا يدعونهم إلى السجود له، وهم سالمون، لا يمنعهم من ذلك مانع، ولا يحول بينه وبينهم حائل.
وقد قيل: السجود في هذا الموضع: الصلاة المكتوبة.
" وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إلى السّجُودِ وَهُمْ سالِمُون ": هم الكفار كانوا يدعون في الدنيا وهم آمنون، فاليوم يدعوهم وهم خائفون.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يذكرهم بذلك ليزدادوا حسرةً، ولتكونَ الحجةُ عليهم أبلغَ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: لم يدعون إلى السجود ولا تكليف؟ قلت: لا يدعون إليه تعبداً وتكليفاً، ولكن توبيخاً وتعنيفاً على تركهم السجود في الدنيا، مع إعقام أصلابهم والحيلولة بينهم وبين الاستطاعة تحسيراً لهم وتنديماً على ما فرّطوا فيه حين دعوا إلى السجود، وهم سالمون الأصلاب والمفاصل يمكنون مزاحو العلل فيما تعبدوا به...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
جوارحهم كلها خاشعة، أي ذليلة، ولكنه خص الأبصار بالذكر لأن الخشوع فيها أبين منه في كل جارحة.
{ترهقهم ذلة} أي تزعج نفوسهم وتظهر عليهم ظهوراً يخزيهم،
{وقد كانوا يدعون إلى السجود} يريد في دار الدنيا وهم سالمون مما نال عظام ظهورهم من الاتصال والعتو.
وقال بعض المتأولين: {السجود} هنا عبارة عن جميع الطاعات، وخص السجود بالذكر من حيث هو عظم الطاعات، ومن حيث به وقع امتحانهم في الآخرة.
يعني يلحقهم ذل بسبب أنهم ما كانوا مواظبين على خدمة مولاهم، مثل العبد الذي أعرض عنه مولاه، فإنه يكون ذليلا فيما بين الناس.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقوله: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي: في الدار الآخرة بإجرامهم وتكبرهم في الدنيا، فعوقبوا بنقيض ما كانوا عليه. ولما دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامتهم كذلك عوقبوا بعدم قدرتهم عليه في الآخرة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان ربما ظن ظان أن المانع لهم الكبر كما في هذه الدنيا، قال مبيناً لنفي الكبر في مثل هذا اليوم العظيم {خاشعة} أي مخبتة متواضعة {أبصارهم} لأن ما في القلب يعرف في العين، وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم ووجوههم أضوأ من الشمس، ووجوه الكافرين والمنافقين سود مظلمة. ولما كان الخاشع لذلك قد يكون خشوعه لخير عنده حمله على ذلك مع العز قال: {ترهقهم} أي تغشاهم وتقهرهم {ذلة} أي عظيمة لأنهم استعملوا الأعضاء التي أعطاهموها سبحانه وتعالى ليتقربوا بها إليه في دار العمل في التمتع بما يبعد منه. ولما دلت هذه العبارة مطابقة لما ورد في الحديث الصحيح على أن من كان في قلبه مرض في الدنيا يصير ظهره طبقاً واحداً فقارة واحدة فيعالج السجود فيصير كلما أراده انقلب لقفاه، عجب منهم في ملازمة الظلم الذي هو إيقاع الشيء في غير موقعه فقال: {وقد} أي والحال أنهم {كانوا} أي دائماً بالخطاب الثابت {يدعون} في الدنيا من كل داع يدعو إلينا {إلى السجود وهم} أي فيأبونه والحال أنهم {سالمون} أي فهم مستطيعون، ليس في أعضائهم ما يمنع من ذلك، وإنما يمنعهم منه الشماخة والكبر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يكمل رسم هيئتهم: (خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة).. هؤلاء المتكبرون المتبجحون. والأبصار الخاشعة والذلة المرهقة هما المقابلان للهامات الشامخة والكبرياء المنفوخة. وهي تذكر بالتهديد الذي جاء في أول السورة: (سنسمه على الخرطوم).. فإيحاء الذلة والانكسار ظاهر عميق مقصود!
وبينما هم في هذا الموقف المرهق الذليل، يذكرهم بما جرهم إليه من إعراض واستكبار: (وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون).. قادرون على السجود. فكانوا يأبون ويستكبرون.. كانوا. فهم الآن في ذلك المشهد المرهق الذليل. والدنيا وراءهم. وهم الآن يدعون إلى السجود فلا يستطيعون!...