اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{خَٰشِعَةً أَبۡصَٰرُهُمۡ تَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةٞۖ وَقَدۡ كَانُواْ يُدۡعَوۡنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمۡ سَٰلِمُونَ} (43)

قوله { خَاشِعَةٌ } . حال من مرفوع «يُدْعَونَ » و «أبْصَارهُمْ » فاعل به ، ونسب الخشوع للأبصار وإن كانت الأعضاء كُلها كذلك لظهور أثره فيها .

وقوله : «وهُمْ سَالِمُونَ » . حال من مرفوع «يُدعَونَ » الثانية .

ومعنى { خَاشِعَةٌ أَبْصَارُهُمْ } ، أي : متواضعةٌ «تَرْهقُهُمْ ذلَّةٌ » وذلك أن المؤمنين يرفعون رءوسهم ، ووجوههم أشد بياضاً من الثلج ، وتسود وجوه الكافرين والمنافقين حتى ترجع أشد سواداً من القار .

فصل في تقرير كلام أهل اللغة في الساق

قال ابن الخطيب{[57680]} بعد أن حكى أقوال أهلِ اللغةِ في الكشف عن الساق : واعلم أن هذا اعتراف من أهل اللغة بأن استعماله في الشدة مجاز ، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز صرف الكلامِ إلى المجاز إلا بعد تعذر حمله على الحقيقة ، فإذا أقمنا الدلائل القاطعة على أنه تعالى يستحيل أن يكون جسماً ، فيجب حينئذٍ صرف هذا اللفظ إلى المجاز . واعلم أن صاحب الكشَّاف أورد هذا التأويل في معرض آخر ، فقال : الكشف عن السَّاق مثلٌ في شدَّة الأمر ، فمعنى { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } يوم يشتد ، ويتعاظم ، ولا كشف ثمَّ ولا ساقَ ، كما تقول : الشحيح يده مغلولة ، ولا يد ثمَّ ، ولا غل ، وإنما هو مثل في البخلِ ، ثم أخذ يعظم علم البيانِ ويقول : لولاه ما وقفنا على هذه الأسرارِ ، وأقولُ : إما أن يدعي أنه يجوز صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل ، أو تقول : لا يجوز ذلك إلا بعد امتناع حمله على الحقيقة ، والأول باطل بالإجماع ، ولأنا إن جوزنا ذلك انفتحت أبواب تأويلات الفلاسفةِ في أمر المعاد ، فإنهم يقولون في قوله : { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار }[ الحج : 23 ] ليس هناك أنهار ولا أشجار ، وإنما هو مثل للّذة والسعادة ويقولون في قوله تعالى : { اركعوا واسجدوا }[ الحج : 77 ] وليس هناك ركوع ولا سجود وإنما هو مثل للتعظيم ، ومعلوم أن ذلك يفضي إلى رفع الشرائع ، وفساد الدينِ ، وأما من قال : إنه لا يصار إلى التأويل ، إلا عند قيام الدليل على أنه لا يجوز حمله على ظاهره ، فهذا قولُ كُلِّ أحد من المتكلمين ، فأين الدقائق التي استند هو بمعرفتها والاطلاع عليها بواسطةِ علم البيان ، ثم إن قال بعد أن حكى القول بأن المراد بالساق جهنم ، أو ساق العرش ، أو ساق ملك عظيم إن اللفظ لا يدل إلا على ساق ، وأما أي شيء هو فليس في اللفظ ما يدل عليه ، ثم ذكر حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنَّهُ تعالى يتَمثَّلُ للخَلْق يَوْمَ القِيامةِ حِيْنَ يَمُرُّ المُسْلمُونَ فيقول : مَنْ تَعْبُدُونَ ؟ فيقولون : نَعْبُدُ اللَّهَ فيُشْهدُهمْ مرَّتينِ ، أو ثلاثاً ، ثُمَّ يقُولَ : هَلْ تَعْرفُون ربَّكُمْ ؟ فيقولون : لَوْ عرَّفنَا نَفسَهُ عرفْناهُ ، فعِنْدَ ذلِكَ يُكْشَفُ عن سَاقٍ فَلا يَبْقَى مُؤمِنٌ إلاَّ خَرَّ للَّه ساجِداً ، ويَبْقَى المُنافِقُونَ ظُهُورهُمْ كالطَّبَقِ الوَاحدِ ، كأنَّما فيهَا السَّفافِيدُ »{[57681]} .

قال : واعلم أن هذا القول باطل لوجوه :

أحدها : أن الدلائل دلت على أن كل جسم متناهي وكل متناهٍ محدث ، وأنّ كلَّ جسم ممكن وكل ممكن محدث .

وثانيها : أنه لو كان المراد ذلك لكان من حق الساق أن يعرف أنها ساق مخصوصة معهودة عنده ، وهي ساق الرحمن ، أما إذا أجملت ففائدة التنكير : الدلالة على التعظيم ، كأنه قال : يوم يكشف عن شدة ، وأي شدة لا يمكن وصفها .

وثالثها : أن التعريف لا يحصل بالكشف عن الساق ، وإنما يحصل بكشف الوجه ، ثم حكى قول أبي مسلم : بأنه لا يمكن حمله على يوم القيامة ؛ لأنه تعالى قال في وصفه : { وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود } ويوم القيامة ليس فيها تعبد ، ولا تكليف ، بل المراد منه إما آخر أيام الرجل في دنياه ، كقوله تعالى :{ يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ }[ الفرقان : 22 ] ، وقوله : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ }[ الأنعام : 158 ] الآية لأنه الوقت الذي لا تنفع نفساً إيمانها ، وإما حال المرض والهرم والعجز ، ثم إنه يرى الناس يدعون إلى الصلاة إذا حضرت أوقاتها ، وهو لا يستطيع الصلاة { وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود وَهُمْ سَالِمُونَ } مما بهم الآن من الشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت ، أو من العجز والهرم ، ونظير هذه الآية { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم } [ الواقعة : 83 ] . ثم قال : واعلم أنه لا نزاع في أنه يمكن حمل اللفظ على ما قال أبو مسلم ، ثم قال : فأما قوله : «إنه لا يمكن حمله على يوم القيامة بسبب أن الأمر بالسجود حاصل في الدنيا والتكاليف زائلة يوم القيامة » .

فجوابه : أن ذلك لا يكون على سبيل التكليف بل على سبيل التقريع والتخجيل فلم قلت : إن ذلك غير جائزٍ .

قوله { وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود } في الدنيا { وَهُمْ سَالِمُونَ } معافون أصحاء .

قال إبراهيم التيمي : أي : يدعون بالأذان ، والإقامة ، فيأبون .

وقال سعيد بن جبيرٍ : كانوا يسمعون حيّ على الفلاح ، فلا يجيبون ، وهم سالمون أصحاء{[57682]} .

وقال كعبُ الأحبار : والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات .

وقيل : أي : بالتكليف الموجه عليهم في الشرع .


[57680]:ينظر الفخر الرازي 30/83.
[57681]:أخرجه الحاكم (4/598-600) والطبراني كما في "مجمع الزوائد" (10/331-333: من طريق أبي الزعراء عن ابن مسعود. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ورده الذهبي بقوله: قلت ما احتجا بأبي الزعراء. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/401) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي في "البعث والنشور".
[57682]:ذكره البغوي في "تفسيره" (4/383) والقرطبي (18/163).