قوله تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } ، أي : يفتح قلبه وينوره حتى يقبل الإسلام ، ولما نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر ، فقال : ( نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح ) ، قيل : فهل لذلك أمارة ؟ قال : نعم ، الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت .
قوله تعالى : { ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً } ، قرأ ابن كثير { ضيقا } ، بالتخفيف هاهنا وفي الفرقان ، والباقون بالتشديد ، وهما لغتان مثل : هين وهين ، ولين ولين .
قوله تعالى : { حرجا } ، قرأ أهل المدينة وأبو بكر بكسر الراء ، والباقون بفتحها ، وهما لغتان أيضا مثل : الدنف والدنف ، وقال سيبويه الحرج بالفتح : المصدركالطلب ، ومعناه ذا حرج ، وبالكسر الاسم ، وهو أشد الضيق ، يعني : يجعل قلبه ضيقاً حتى لا يدخله الإيمان . وقال الكلبي : ليس للخير فيه منفذ . قال ابن عباس : إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه ، وإذا ذكر شيئاً من عبادة الأصنام ارتاح إلى ذلك . وقرأ عمر ابن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية ، فسأل أعرابياً من كنانة : ما الحرجة فيكم ؟ قال : الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية ، ولا وحشية ، ولا شيء ، فقال عمر رضي الله عنه : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير . قوله تعالى : { كأنما يصعد في السماء } ، قرأ ابن كثير : { يصعد } ، بالتخفيف ، وسكون الصاد ، وقرأ أبو بكر عن عاصم يصاعد بالألف .
أي يتصاعد ، وقرأ الآخرون { يصعد } ، بتشديد الصاد والعين ، أي : يتصعد ، يعني يشق عليه الإيمان كما يشق عليه صعود السماء ، وأصل الصعود المشقة ، ومنه قوله تعالى : { سأرهقه صعوداً } أي : عقبة شاقة .
قوله تعالى : { كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } ، قال ابن عباس : الرجس هوا لشيطان ، أي : يسلط عليه . وقال الكلبي : هو المأثم ، وقال مجاهد : الرجس ما لا خير فيه . وقال عطاء : الرجس العذاب مثل الرجز . وقيل : هو النجس . روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال : ( اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس ) . وقال الزجاج : الرجس اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة .
ثم بين - سبحانه - حال المستعد لهداية الإسلام ، وحال المستعد للضلال فقال :
{ فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } .
أى : فمن يرد الله أن يهديه للإسلام ، ويوفقه له ، يوسع صدره لقبوله ، ويسهله له بفضله وإحسانه .
وشرح الصدر : توسعته ، يقال : شرح الله صدره فانشرح ، أى : وسعه فاتسع ، وهو مجاز أو كناية عن جعل النفس مهيأة لحلول الحق فيها . مصفاة عما يمنعه وينافيه .
روى عبد الرازق أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية : كيف يشرح صدره ؟ فقال : " نور يقذف فينشرح له وينفسح ، قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافة عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت " .
وقوله : { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً } أى ومن يرد أن يضله لسوء اختياره ، وإيثاره الضلالة على الهداية يصير صدره ضيقا متزايد الضيق لا منفذ فيه للإسلام .
والحرج : مصدر حرج صدره حرجا فهو حرج ، أى : ضاق ضيقا شديداً . وصف به الضيق للمبالغة ، كأنه نفس الضيق ، وأصل الحرج مجتمع الشىء ويقال : للحديقة الملتفة الأشجار التى يصعب دخولها حرجة .
وقرىء حرجا - بكسر الراء - صفة لقوله { ضَيِّقاً } .
روى أن جماعة من الصحابة قرأوا أمام عمر - رضى الله عنه - " ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا " بكسر الراء فقال عمر : يا فتى ما الحرجة فيكم ؟ قال الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التى لا تصل إليها راعية ولا وحشية . فقال عمر : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شىء من الخير " .
وقوله { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء } استئناف ، أو حال من ضمير الوصف ، أو وصف آخر لقلب الضال ، والمراد المبالغة فى ضيق صدره حيث شبه بمن يزاول ما لا يقدر عليه ، فإن صعود السماء مثل فيما هو خارج عن دائرة الاستطاعة .
أى : كأنما إذا دعى إلى الإسلام قد كلف الصعود إلى السماء وهو لا يستطيعه بحال . ويصعد أى : يتصعد ، بمعنى يتكلف الصعود فلا يقدر عليه .
وفيه إشارة إلى أن الإيمان يمتنع منه كما يمتنع منه الصعود .
وقوله : { كذلك يَجْعَلُ الله الرجس عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } أى : مثل جعل الصدر ضيقا حرجا بالإسلام ، يجعل الله الرجس . أى : العذاب ، أو الخذلان ، أو اللعنة فى الدنميا على الذين لا يؤمنون بالإسلام .
ثم تختم الجولة بتصوير حالة الهدى وحالة الايمان في داخل القلوب والنفوس :
( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام . ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء . . كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) . .
من يقدر الله له الهداية - وفق سنته الجارية من هداية من يرغب في الهدى ويتجه إليه بالقدر المعطى له من الاختيار بقصد الابتلاء - ( يشرح صدره للإسلام ) ؛ فيتسع له ؛ ويستقبله في يسر ورغبة ، ويتفاعل معه ، ويطمئن إليه ؛ ويستروح به ويستريح له .
ومن يقدر له الضلال - وفق سنته الجارية من إضلال من يرغب عن الهدى ويغلق فطرته عنه ( يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ) . . فهو مغلق مطموس يجد العسر والمشقة في قبوله ، ( كأنما يصعد في السماء ) . . وهي حالة نفسية تجسم في حالة حسية ، من ضيق النفس ، وكربة الصدر ، والرهق المضني في التصعد إلى السماء ! وبناء اللفظ ذاته ( يصعد )- كما هو في قراءة حفص - فيه هذا العسر والقبض والجهد . وجرسه يخيل هذا كله ، فيتناسق المشهد الشاخص ، مع الحالة الواقعة ، مع التعبير اللفظي في إيقاع واحد .
وينتهي المشهد بهذا التعقيب المناسب :
( كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) . .
. . كذلك . . بمثل هذا الذي يجري به قدر الله من شرح صدر الذي يريد الله به الهدى ، ومن العسر والجهد والمشقة لمن يريد به الضلال . . كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون .
ومن معاني الرجس : العذاب . ومن معانيه كذلك : الارتكاس - وكلاهما يلون هذا العذاب بمشهد الذي يرتكس في العذاب ويعود إليه ولا يفارقه ! وهو الظل المقصود !
على أنه تبقى في النفس بقية من الحديث عن قوله تعالى : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام . ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء . كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) . .
إن تصور الحقيقة التي يقررها هذا النص وأمثاله في القرآن الكريم من النصوص التي تتعلق بالتعامل والارتباط بين مشيئة الله - سبحانه - واتجاهات البشر ؛ وما يصيبهم من الهدى والضلال ، وما ينالهم بعد ذلك من جزاء وثواب وعقاب . . إن هذا كله يحتاج إلى استخدام منطقة أخرى من مناطق الإدراك البشري وراء منطقة المنطق الذهني ! وكل ما ثار من الجدل بشأن هذه القضية سواء في تاريخ الفكر الإسلامي ، وبخاصة بين المعتزلة وأهل السنة والمرجئة - أو في تاريخ اللاهوت والفلسفة - وكل القضايا والتعبيرات عنها ، موسومة بطابع المنطق الذهني .
إن تصور هذه الحقيقة يحتاج إلى استخدام منطقة أخرى من مناطق الإدراك البشري وراء منطقة المنطق الذهني . وكذلك يقتضي التعامل مع " الواقع الفعلي " لا مع " القضايا الذهنية " . فالقرآن يصور الحقيقة الفعلية في الكينونة البشرية وفي الوجود الواقع ؛ وهذه الحقيقة يتراءى فيها التشابك بين مشيئة الله وقدره وبين إرادة الإنسان وعمله . في محيط لا يدركه المنطق الذهني كله .
فإذا قيل : إن إرادة الله تدفع الإنسان دفعا إلى الهدى أو الضلال . . لم تكن هذه هي الحقيقة الفعلية . وإذا قيل : إن إرادة الإنسان هي التي تقرر مصيره كله . . لم تكن هذه هي الحقيقة الفعلية كذلك ! إن الحقيقة الفعلية تتألف من نسب دقيقة - وغيبية كذلك - بين طلاقة المشيئة الإلهية وسلطانها الفاعل ، وبين اختيار العبد واتجاهه الإرادي . بلا تعارض بين هذه وتلك ولا تصادم . .
ولكن تصور الحقيقة " الفعلية " كما هي في واقعها هذا لا يمكن أن يتم في حدود المنطق الذهني . وفي شكل القضايا الذهنية والعبارة البشرية عنها . . إن نوع الحقيقة هو الذي يحدد منهج تناولها وأسلوب التعبير عنها . . وهذه الحقيقة لا يصلح لها منهج المنطق الذهني ولا القضايا الجدلية .
كذلك يحتاج تصور هذه الحقيقة كما هي في واقعها الفعلي إلى تذوق كامل في تجربة روحية وعقلية . . إن الذي تتجه فطرته إلى الإسلام يجد في صدره انشراحاً له . . هو من صنع الله قطعاً . . فالانشراح حدث لا يقع إلا بقدر من الله يخلقه ويبرزه . والذي تتجه فطرته إلى الضلال يجد في صدره ضيقا وتقبضا وعسراً . . هو من صنع الله قطعا . . لأنه حدث لا يتم وقوعه الفعلي إلا بقدر من الله يخلقه ويجري به كذلك . . وكلاهما من إرادة الله بالعبد . . ولكنها ليست إرادة القهر . إنما هي الإرادة التي انشأت السنة الجارية النافذة من أن يبتلي هذا الخلق المسمى بالإنسان بهذا القدر من الإرادة . وأن يجري قدر الله بإنشاء ما يترتب على استخدامه لهذا القدر من الإرادة في الاتجاه للهدى أو للضلال .
وحين توضع قضية ذهنية في مواجهة قضية ذهنية . وحين يتم التعامل مع هذه القضايا ، بدون استصحاب الملامسة الباطنية للحقيقة ، والتجربة الواقعية في التعامل معها ، فإنه لا يمكن أبداً أن يتم تصور كامل وصحيح لهذه الحقيقة . . وهذا ما وقع في الجدل الإسلامي . . وفي غيره كذلك !
إنه لا بد من منهج آخر ومن تذوق مباشر للتعامل مع هذه الحقيقة الكبيرة . .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنّمَا يَصّعّدُ فِي السّمَآءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرّجْسَ عَلَى الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أنْ يَهْدِيَهُ للإيمان به وبرسوله وما جاء به من عند ربه فيوفقه له ، يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ يقول : فسح صدره لذلك وهوّنه عليه وسهله له بلطفه ومعونته ، حتى يستنير الإسلام في قلبه ، فيضيء له ويتسع له صدره بالقبول . كالذي جاء الأثر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي :
حدثنا سوار بن عبد الله العنبري ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت أبي يحدّث ، عن عبد الله بن مرّة ، عن أبي جعفر ، قال : لما نزلت هذه الاَية : فَمَنْ يُرِدَ اللّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ قالوا : كيف يشرح الصدر ؟ قال : «إذا نَزَلَ النّورُ في القَلْبِ انْشَرَحَ له الصّدْرُ وانْفَسَحَ » . قالوا : فهل لذلك آية يعرف بها ؟ قال : «نَعَمْ ، الإنَابَةُ إلى دَار الخُلُودِ ، والتّجَافي عن دَارِ الغُرُورِ ، والاسْتِعْدَادُ للمَوْتِ قَبْلَ الفَوْتِ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن عمرو بن قيس ، عن عمرو بن مرّة ، عن أبي جعفر ، قال : سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم : أيّ المؤمنين أكيس ؟ قال : «أكْثَرُهُمْ للْمَوْت ذكْرا ، وأحْسَنُهُمْ لمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادا » . قال : وسئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن هذه الاَية : فَمُنْ يُرِدِ اللّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ قالوا : كيف يشرح صدره يا رسول الله ؟ قال : «نُورٌ يُقْذَفُ فِيهِ فَيَنْشَرِحُ لَهُ ويَنْفَسِحُ » قالوا : فهل لذلك من أمارة يُعرف بها ؟ قال : «الإنابَةُ إلى دارِ الخُلُودِ ، والتّجافِي عَنْ دَار الغُرور ، وَالاسْتِعْدادُ للْمَوْت قَبْلَ المَوْت » .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن عمرو بن مرّة ، عن رجل يكني أبا جعفر كان يسكن المدائن ، قال : سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قوله : فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ قال : «نُورٌ يُقْذَفُ فِي القَلْبِ فَيَنْشَرِحُ ويَنْفَسِحُ » . قالوا : يا رسول الله ، هل له من أمارة يُعرف بها ؟ ثم ذكر باقي الحديث مثله .
حدثني محمد بن العلاء ، قال : حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد الحراني ، قال : قال : حدثنا محمد بن سلمة ، عن أبي عبد الرحيم ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن عمرو بن مرّة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الاَية : فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ ؟ قال : «إذَا دَخَلَ النّورُ القَلْبَ انْفَسَحَ وانْشَرَحَ » قالوا : فهل لذلك من أمارة يُعرف بها ؟ قال : «الإنابَةُ إلى دارِ الخُلُودِ ، والتّنَحّي عَنْ دَارِ الغُرُورِ ، والاِسْتِعْدَادُ للمَوْتِ قَبْلَ المَوْتِ » .
حدثني سعيد بن الربيع الرازي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن خالد بن أبي كريمة ، عن عبد الله بن المسور ، قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذَا دَخَلَ النورُ القَلْبَ انْفَسَحَ وانْشَرَحَ » . قالوا : يا رسول الله ، وهل لذلك من علامة تُعرف ؟ قال : «نَعَمْ ، الإنابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ ، والتّجافِي عَنْ دَارِ الغُرُورِ ، وَالاِسْتِعْدَادُ للمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ المَوْتِ » .
حدثني ابن سنان القزاز ، قال : حدثنا محبوب بن حسن الهاشمي ، عن يونس ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة ، عن عبد الله بن مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ قالوا : يا رسول الله ، وكيف يشرح صدره ؟ قال : «يُدْخَلُ فيهِ النّورُ فَيَنْفَسِحُ » . قالوا : وهل لذلك من علامة يا رسول الله ؟ قال : «التّجافِي عَنْ دَارِ الغُرُورِ ، والإنابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ ، وَالاِسْتِعْدَادَ للمَوْتِ قَبْلَ أنْ يَنْزِلَ المَوْتُ » .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ أما يشرح صدره للإسلام : فيوسع صدره للإسلام .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : فَمَنْ يَرِدِ اللّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ ب«لا إلَهَ إلاّ اللّهُ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج قراءة : فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ ب«لا إلَهَ إلاّ اللّهُ » يَجْعَلْ لَهَا فِي صَدْرِهِ مُتّسَعا .
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقا حَرَجا .
يقول تعالى ذكره : ومن أراد الله إضلاله عن سبيل الهدى يشغله بكفره وصدّه عن سبيله ، ويجعل صدره بخذلانه وغلبة الكفر عليه حرجا . والحرج : أشدّ الضيق ، وهو الذي لا ينفذ من شدّة ضيقه ، وهو ههنا الصدر الذي لا تصل إليه الموعظة ولا يدخله نور الإيمان لرَيْنِ الشرك عليه . وأصله من الحرج ، والحَرَجُ جمع حَرَجة : وهي الشجرة الملتفّ بها الأشجار ، لا يدخل بينها وبينها شيء لشدّة التفافها بها . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا عبد الله بن عمار رجل من أهل اليمن ، عن أبي الصلت الثقفي : أنّ عمر بن الخطاب رحمة الله عليه قرأ هذه الاَية : وَمَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقا حَرَجا بنصب الراء . قال : وقرأ بعض من عنده من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم «ضَيّقا حَرِجا » . قال صفوان : فقال عمر : ابغوني رجلاً من كنانة واجعلوه راعيا ، وليكن مدلجيّا قال : فأتوه به ، فقال له عمر : يا فتى ما الحَرَجة ؟ قل : الحرجة فينا : الشجرة تكون بين الأشجاء التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء . قال : فقال عمر : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَمَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقا حَرَجا يقول : من أراد الله أن يضله يضيق عليه صدره حتى يجعل الإسلام عليه ضيقا والإسلام واسع ، وذلك حين يقول : وَما جَعَلَ عَلَيْكُم فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ يقول : ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : شاكّا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : حدثنا حميد ، عن مجاهد : ضَيّقا حَرَجا قال : شاكّا .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ضَيّقا حَرَجا أما حرجا : فشاكّا .
وقال آخرون : معناه : ملتبسا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيقا حَرَجا قال : ضيقا : ملتبسا .
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن الحسن ، عن قتادة أنه كان يقرأ : ضَيقا حَرَجا يقول : ملتبسا .
وقال آخرون : معناه أنه من شدّة الضيق لا يصل إليه الإيمان . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير : يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيقا حَرَجا قال : لا يجد مسلكا إلا صُعُدا .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن عطاء الخراساني : ضَيقا حَرَجا قال : ليس للخير فيه منفذ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن عطاء الخراساني مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج عن ابن جريج ، قوله : وَمَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيقا حَرَجا بلا إله إلا الله لا يجد لها في صدره مساغا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج قراءة ، في قوله : وَمَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيقا بلا إله إلا الله ، حتى لا يستطيع أن تدخله .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعضهم : ضَيقا حَرَجا بفتح الحاء والراء من حَرَجا ، وهي قراءة عامة المكيين والعرقيين ، بمعنى : حَرَجة على ما وصفت . وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة : «ضَيقا حَرِجا » بفتح الحاء وكسر الراء .
ثم اختلف الذين قرءوا ذلك في معناه ، فقال بعضهم : هو بمعنى الحَرَج ، وقالوا : الحَرَج بفتح الحاء والراء ، والحَرِج بفتح الحاء وكسر الراء بمعَنى واحد ، وهما لغتان مشهورتان ، مثل الدّنَف والدّنِف ، والوَحَد والوَحِد ، والفَرَد والفَرِد .
وقال آخرون منهم : بل هو بمعنى الإثم من قولهم : فلان آثمٌ حَرِجٌ . وذكر عن العرب سماعا منها : حَرِجٌ عليك ظلمي ، بمعنى : ضِيقٌ وإثم .
والقول عندي في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان ولغتان مستفيضتان بمعنى واحد ، وبأيتهما قرأ القارىء فهو مصيب لاتفاق معنييهما ، وذلك كما ذكرنا من الروايات عن العرب في الوحَد والفَرَد بفتح الحاء من الوَحَد والراء من الفَرَد وكسرهما بمعنى واحد . وأما الضّيّق ، فإن عامة القرّاء على فتح ضاده وتشديد يائه ، خلا بعض المكيين فإنه قرأه : «ضَيْقا » بفتح الضاد وتسكين الياء وتخفيفه . وقد يتجه لتسكينه ذلك وجهان : أحدهما أن يكون سكنه وهو ينوي معنى التحريك والتشديد ، كما قيل : هَيْن لَين ، بمعنى : هَيّن لَيّن . والاَخر أن يكون سكنّه بنية المصدر من قولهم : ضاق هذا الأمر يضيق ضَيْقا ، كما قال رؤبة :
وَقَدْ عَلِمْنا عندَ كُلّ مَأْزِقِ ***ضَيْقٍ بوَجْهِ الأمرِ أيّ مَضْيَقِ
ومنه قول الله : وَلا تَكُ فِي ضيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ . وقال رؤبة أيضا :
***وشَفّها اللّوْحُ بِمأزُولٍ ضَيَقْ ***
بمعنى : ضيق . وحُكي عن الكسائي أنه كان يقول : الضيق بالكسر : في المعاش والموضع ، وفي الأمر الضيق .
وفي هذه الاَية أبين البيان لمن وفق لفهمها عن أن السبب الذي به توصل إلى الإيمان والطاعة غير السبب الذي به توصل إلى الكفر والمعصية ، وأن كلا السببين من عند الله وذلك أن الله جلّ ثناؤه أخبر عن نفسه أنه يشرح صدر من أراد هدايته للإسلام ، ويجعل صدر من أراد إضلاله ضيقا عن الإسلام حرجا ، كأنما يصعد في السماء . ومعلوم أن شرح الصدر للإيمان خلاف تضييقه له ، وأنه لو كان توصل بتضييق الصدر عن الإيمان إليه لم يكن بين تضييقه عنه وبين شرحه له فرق ، ولكان من ضيق صدره عن الإيمان قد شرح صدره له ومن شرح صدره له فقد ضيق عنه ، إذ كن موصولاً بكلّ واحد منهما ، أعني من التضييق والشرح إلى ما يوصل به إلى الاَخر . ولو كان ذلك كذلك ، وجب أن يكون الله قد كان شرح صدر أبي جهل للإيمان به وضيّق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وهذا القول من أعظم الكفر بالله . وفي فساد ذلك أن يكون كذلك الدليل الواضح على أن السبب الذي به آمن المؤمنون بالله ورسله وأطاعه المطيعون ، غير السبب الذي كفر به الكافرون بالله وعصاه العاصون ، وأن كلا السببين من عند الله وبيده ، لأنه أخبر جلّ ثناؤه أنه هو الذي يشرح صدر هذا المؤمن به للإيمان إذا أراد هدايته ، ويضيق صدر هذا الكافر عنه إذا أراد إضلاله .
القول في تأويل قوله تعالى : كأنّمَا يَصّعّدُ فِي السّماءِ .
وهذا مثل من الله تعالى ذكره ضربه لقلب هذا الكافر في شدّة تضييقه إياه عن وصوله إليه ، مثل امتناعه من الصعود إلى السماء وعجزه عنه لأن ذلك ليس في وسعه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن عطاء الخراساني : كأنّمَا يَصّعّدُ فِي السّماءِ يقول : مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد في السماء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن عطاء الخراساني ، مثله .
وبه قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج قراءة : يجعل صدره ضيقا حرجا بلا إله إلا الله ، حتى لا يستطيع أن تدخله ، كأنما يصّعد في السماء من شدّة ذلك عليه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، مثله .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : كأنّمَا يَصّعّد فِي السّمَاءِ من ضيق صدره .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والعراق : كأنّمَا يَصّعّدُ بمعنى : يتصعدُ ، فأدغموا التاء في الصاد ، فلذلك شدّدوا الصاد . وقرأ ذلك بعض الكوفيين : «يَصّاعَدُ » بمعنى : يتصاعد ، فأدغم التاء في الصاد وجعلها صادا مشدّدة . وقرأ ذلك بعض قراء المكيين : «كأنّمَا يَصْعَد » من صَعِدَ يَصْعَد . وكل هذه القراءات متقاربات المعاني وبأيها قرأ القارىء فهو مصيب ، غير أني أختار القراءة في ذلك بقراءة من قرأه : كأنّمَا يَصّعّدُ بتشديد الصاد بغير ألف ، بمعنى : يتصعد ، لكثرة القراء بها ، ولقِيلِ عمر بن الخطاب رضي الله عنه : «ما تصعّدني شيء ما تصعّدني خُطْبَة النكاح » .
القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ يَجْعَلُ الله الرّجْسَ على الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ .
يقول تعالى ذكره : كما يجعل الله صدر من أراد إضلاله ضيقا حَرَجا ، كأنما يصعد في السماء من ضيقه عن الإيمان ، فيجزيه بذلك ، كذلك يسلط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبى الإيمان بالله ورسوله ، فيغويه ويصدّه عن سبيل الحقّ .
وقد اختلف أهل التأويل في معنى الرجس ، فقال بعضهم : هو كلّ ما لا خير فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمر ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الرجس : ما لا خير فيه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَجْعَل اللّهُ الرّجْسَ على الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ قال : ما لا خير فيه .
وقال آخرون : الرجس : العذاب . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كَذَلِكَ يَجْعَلُ الله الرّجْسَ على الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ قال : الرجس : عذاب الله .
وقال آخرون : الرجس : الشيطان . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : الرّجْسَ قال : الشيطان .
وكان بعض أهل المعرفة بلغات العرب من الكوفين يقول : الرّجْس والنّجْس لغتان . ويحكى عن العرب أنها تقول : ما كان رِجْسا ، ولقد رَجُسَ رجاسة ، ونَجُس نَجَاسة . وكان بعض نحويي البصريين يقول : الرّجْس والرّجْز سوَاء ، وهما العذاب .
والصواب في ذلك من القول عندي ما قاله ابن عباس ، ومن قال : إن الرجس والنجس واحد ، للخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا دخل الخلاء : «اللّهُمّ إنّي أعُوذ بِكَ مِنَ الرّجْسِ النّجْسِ الخَبِيثِ المُخْبِثِ الشّيْطانِ الرّجِيمِ » .
حدثني بذلك عبد الرحمن بن البختريّ الطائي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن وقتادة ، عن أنس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم .
وقد بَيّن هذا الخبر أن الرجس هو النجس القذر الذي لا خير فيه ، وأنه من صفة الشيطان .
وقوله تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } ، الآية ، «من » أداة شرط ، و { يشرح } جواب الشرط ، والآية نص في أن الله عز وجل يريد هدى المؤمن وضلال الكافر ، وهذا عند جميع أهل السنة بالإرادة القديمة التي هي صفة ذاته تبارك وتعالى ، و «الهدى » في هذه الآية هو خلق الإيمان في القلب واختراعه ، و «شرح الصدر » هو تسهيل الإيمان وتحبيبه وإعداد القلب لقبوله وتحصيله ، والهدى لفظة مشتركة تأتي بمعنى الدعاء كقوله عز وجل : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم }{[5081]} وتأتي بمعنى إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق والأعمال المفضية إليها ، كقوله تعالى : { فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم }{[5082]} وغير ذلك ، إلا أنها في هذه الآية وفي قوله { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون }{[5083]} ، وفي قوله { إنك لا تهدي من أحببت }{[5084]} ونحوها لا يتجه حملها إلا على خلق الإيمان واختراعه ، إذ الوجوه من الهدى تدفعها قرائن الكلام مما قبل وبعد ، وقوله { يشرح صدره } ألفاظ مستعارة ها هنا إذ الشرح التوسعة والبسط في الأجسام وإذا كان الجرم مشروحاً موسعاً كان معداً ليحل فيه ، فشبه توطئة القلب وتنويره وإعداده للقبول بالشرح والتوسيع ، وشبه قبوله وتحصيله للايمان بالحلول في الجرم المشروح ، و «الصدر » عبارة عن القلب وهو المقصود إذ الإيمان من خصاله ، وكذلك الإسلام عبارة عن الإيمان إذ الإسلام أعم منه ، وإنما المقصود هنا الإيمان فقط بدليل قرينة الشرح والهدى ، ولكنه عبر بالإسلام إذ هو أعم . وأدنى الهدى حب الأعمال وامتثال العبادات . وفي { يشرح } ضمير عائد على الهدى ، قال : وعوده على الله عز وجل أبين .
قال القاضي أبو محمد : والقول بأن الضمير عائد على المهدي قول يتركب عليه مذهب القدرية في خلق الأفعال وينبغي أن يعتقد ضعفه وأن الضمير إنما هو عائد على اسم الله عز وجل ، فإن هذا يعضده اللفظ والمعنى ، وروي عن النبي عليه السلام أنه لما نزلت هذه الآية ، «قالوا يا رسول الله ، كيف يشرح الصدر ؟ قال :«إذا نزل النور في القلب انشرح له الصدر وانفسح ، قالوا وهل لذلك علامة يا رسول الله ؟ قال : نعم : الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل الفوت »{[5085]} والقول في قوله { ومن يرد أن يضله } كالقول في قوله { فمن يرد الله أن يهديه } ، وقوله { يجعل صدره ضيقاً حرجاً } ألفاظ مستعارة تضاد شرح الصدر للإسلام ، ويجعل في هذا الموضع تكون بمعنى يحكم له بهذا الحكم ، كما تقول :«هذا يجعل البصرة مصراً{[5086]} » أي يحكم لها بحكمها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا المعنى يقرب من صير ، وحكاه أبو علي الفارسي ، وقال أيضاً يصح أن يكون «جعل » بمعنى سمى ، كما قال تعالى { وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثاً }{[5087]} أي سموهم ، قال وهذه الآية تحتمل هذا المعنى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الوجه يضعف في هذه الآية ، وقرأ جمهور الناس والسبعة سوى ابن كثير «ضيِّقاً » بكسر الياء وتشديدها ، وقرأ ابن كثير «ضيْقاً » بسكون الياء وكذلك قرأ في الفرقان{[5088]} ، قال أبو علي وهما بمنزلة الميِّت والميْت ، قال الطبري وبمنزلة الهيِّن والليِّن والهيْن والليْن ، قال ويصح أن يكون الضيق مصدراً من قولك ضاق والأمر يضيق ضيقاً وضيقاً ، وحكي عن الكسائي أنه قال الضِّيق بشد الضاد وكسرها في الأجرام والمعاش ، والضَّيِق بفتح الضاد : في الأمور والمعاني ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي «حرَجاً » بفتح الراء وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر «حرِجاً » بكسرها ، قال أبو علي فمن فتح الراء كان وصفاً بالمصدر كما تقول رجل َقمَن بكذا وحرَي بكذا ودنَف{[5089]} ، ومن كسر الراء فهو كدِنف وقمِن وفرِق{[5090]} ، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأها يوماً بفتح الراء فقرأها له بعض الصحابة بكسر الراء ، فقال : ابغوني رجلاً من كنانة وليكن راعياً من بني مدلج ، فلما جاءه قال له : يا فتى ما الحرجة عندكم ؟ قال : الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية . قال عمر : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير ، وقوله تعالى : { كأنما يصعد في السماء } أي كأن هذا الضيق الصدر يحاول الصعود في السماء متى حاول الإيمان أو فكر فيه ويجد صعوبته عليه كصعوبة الصعود في السماء ، قال بهذا التأويل ابن جريج وعطاء الخراساني والسدي ، وقال ابن جبير : المعنى لا يجد مسلكاً إلا صعداً من شدة التضايق ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي «يصعد » بإدغام التاء من يتصعد في الصاد ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «يصّاعد » بإدغام التاء من يتصاعد في السماء ، وقرأ ابن كثير وحده «يصعد »{[5091]} ، وقرأ ابن مسعود والأعمش وابن مصرف «يتصعد » بزيادة تاء ، و { في السماء } يريد من سفل إلى علو في الهواء ، قال أبو علي : ولم يرد السماء المظلة بعينها ، وإنما هو كما قال سيبويه والقيدود : الطويل في غير سماء ، يريد في غير ارتفاع صعداً قال ومن هذا قوله عز وجل :
{ قد نرى تقلب وجهك في السماء }{[5092]} أي في وجهة الجو .
قال القاضي أبو محمد : وهذا على غير من تأول تقلب الوجه أنه الدعاء إلى الله عز وجل في الهداية إلى قبلة فإن مع الدعاء يستقيم أن يقلب وجهه في السماء المظلة حسب عادة الداعين إذ قد ألفوا مجيء النعم والآلاء من تلك الجهة ، وتحتمل الآية أن يكون التشبيه بالصاعد في عقبة كؤود كأنه يصعد بها الهواء ، و { يصعد } معناه يعلو ، و { يصعد } معناه يتكلف من ذلك ما يشق عليه . ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه :«ما تصَّعدني شيء كما تصَّعدني خطبة النكاح » ، إلى غير ذلك من الشواهد ، «ويَّصاعد » في المعنى مثل «يَّصعد » وقوله تعالى : { كذلك يجعل الله الرجس } أي وكما كان هذه كله من الهدى والضلال بإرادة الله عز وجل ومشيئته كذلك يجعل الله الرجس ، قال أهل اللغة { الرجس } يأتي بمعنى العذاب ويأتي بمعنى النجس ، وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال : { الرجس } كل ما لا خير فيه وقال بعض الكوفيين : الرجس والنجس لغتان بمعنى ، «ويجعل » في هذا الموضع يحسن أن تكون بمعنى يلقي كما تقول جعلت متاعك بعضه على بعض ، وكما قال عز وجل { ويجعل الخبيث بعضه على بعض }{[5093]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا المعنى في َجَعَل حكاه أبو علي الفارسي ، ويحسن أن تكون { يجعل } في هذه الآية بمعنى يصير ويكون المفعول الثاني في ضمن { على الذين لا يؤمنون } ، كأنه قال سبحانه :«قرين الدين » أو«لزيم الذين »ونحو ذلك .
الفاء مُرتِّبة الجملةَ الّتي بعدها على مضمون ما قبلها من قوله : { أو من كان ميّتاً فأحييناه } [ الأنعام : 122 ] وما ترتَّب عليه من التّفاريع والاعتراض . وهذا التّفريع إبطال لتعلّلاتهم بعلّة { حتى نوتى مثل ما أوتي رسل الله } [ الأنعام : 124 ] ، وأنّ الله منعهم ما علّقوا إيمانَهم على حصوله ، فتفرّع على ذلك بيان السّبب المؤثّر بالحقيقة إيمانَ المؤمن وكُفْرَ الكافر ، وهو : هداية الله المؤمنَ ، وإضلالُه الكافرَ ، فذلك حقيقة التّأثير ، دون الأسباب الظّاهرة ، فيعرف من ذلك أنّ أكابر المجرمين لو أوتوا ما سألوا لما آمنوا ، حتّى يريد الله هدايتهم إلى الإسلام ، كما قال تعالى : { إنّ الذين حقّت عليهم كلمات ربّك لا يؤمنون ولو جاءتهم كلّ آية حتّى يَروا العذاب الأليم } [ يونس : 96 ، 97 ] وكما قال : { ولو أنَّنا نزّلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى وحشَرْنا عليهم كلّ شيء قِبَلاً ما كانوا ليؤمنوا إلاّ أن يشاء الله } [ الأنعام : 111 ] .
والهدى إنَّما يتعلّق بالأمور النّافعة : لأنّ حقيقته إصابة الطريق الموصّل للمكان المقصود ، ومجازَه رشاد العقل ، فلذلك لم يحتج إلى ذكر متعلِّقه هنا لظهور أنَّه الهدى للإسلام ، مع قرينة قوله : { يشرح صدره للإسلام } ، وأمّا قوله : { فاهْدُوهم إلى صراط الجحيم } [ الصافات : 23 ] فهو تهكّم . والضّلال إنَّما يكون في أحوال مضرّة لأنّ حقيقته خطأ الطّريق المطلوب ، فلذلك كان مُشعراً بالضرّ وإن لم يذكر متعلّقه ، فهو هنا الاتّصاف بالكفر لأنّ فيه إضاعة خير الإسلام ، فهو كالضّلال عن المطلوب ، وإن كان الضّالّ غير طالب للإسلام ، لكنّه بحيث لو استقبَلَ من أمره ما استدبَر لطلبه .
والشّرْح حقيقته شقّ اللّحم ، والشّريحة القطعة من اللّحم تشقّ حتّى ترقّق ليقع شَيُّها . واستعمل الشّرح في كلامهم مجازاً في البيان والكشف ، واستعمل أيضاً مجازاً في انجلاء الأمر ، ويقين النّفس به ، وسكون البال للأمر ، بحيث لا يتردّد فيه ولا يغتمّ منه ، وهو أظهر التّفسيرين في قوله تعالى : { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] .
والصّدر مراد به الباطن ، مجازاً في الفهم والعقل بعلاقة الحلول ، فمعنى { يشرح صدره } يجعل لنفسه وعقله استعداداً وقبولاً لتحصيل الإسلام ، ويُوطّنه لذلك حتّى يسكن إليه ويرضى به ، فلذلك يشبَّه بالشّرح ، والحاصل للنّفس يسمّى انشراحاً ، يقال : لم تنشرح نفسي لكذا ، وانشرحتْ لكذا . وإذا حلّ نور التّوفيق في القلب كان القلب كالمتّسع ، لأنّ الأنوار توسّع مناظر الأشياء . روى الطّبري وغيره ، عن ابن مسعود : « أنّ ناساً قالوا : يا رسول الله كيف يشرحُ الله صدره للإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل فيه النّور فينفسح قالوا وهل لذلك من علامة يعرف بها قال الإنابة إلى دار الخلود ، والتنحّي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل الفوت » .
ومعنى : { ومن يرد أن يضله } من يُرد دوام ضَلاله بالكفر ، أو من يُرد أن يضلّه عن الاهتداء إلى الإسلام ، فالمراد ضلال مستقبل ، إمَّا بمعنى دَوام الضلال الماضي ، وإمَّا بمعنى ضلال عن قبول الإسلام ، وليس المراد أن يضلّه بكفره القديم ، لأنّ ذلك قد مضى وتقرّر .
والضيِّقُ بتشديد الياء بوزن فَيْعِل مبالغة في وصف الشّيء بالضيّق ، يقال ضاق ضِيقاً بكسر الضاد وضَيقاً بفتحها والأشهر كسر الضاد في المصدر والأقيس الفتح ؛ ويقال بتخفيف الياء بوزن فَعْل ، وذلك مثل مَيِّت ومَيْت ، وهما وإن اختلفت زنتهما ، وكانت زنة فَيْعِل في الأصل تفيد من المبالغة في حصول الفعل ما لا تفيده زنة فَعْل ، فإنّ الاستعمال سوّى بينهما على الأصحّ . والأظهر أنّ أصل ضيِّق : بالتخفيف وصف بالمصدر ، فلذلك استويا في إفادة المبالغة بالوصف . وقرىء بهما في هذه الآية ، فقرأها الجمهور : بتشديد الياء ، وابن كثير : بتخفيفها . وقد استعير الضيِّق لضدّ ما استعير له الشّرح فأريد به الّذي لا يستعدّ لقبول الإيمان ولا تسكن نفسه إليه ، بحيث يكون مضطرب البال إذا عُرض عليه الإسلام ، وهذا كقوله تعالى : { حصرت صدورهم } وتقدّم في سورة النّساء ( 90 ) .
والحَرِج بكسر الراء صفة مشبّهة من قولهم : حَرِج الشّيء حرَجاً ، من باب فرح ، بمعنى ضاق ضيقاً شديداً ، فهو كقولهم : دَنِف ، وقَمِن ، وفَرِق ، وحَذِر ، وكذلك قرأه نافع ، وعاصم في رواية أبي بكر ، وأبو جعفر ، وأمّا الباقون فقرأوه بفتح الراء على صيغة المصدر ، فهو من الوصف بالمصدر للمبالغة ، فهو كقولهم : رجل دَنَف بفتح النّون وفَرَد بفتح الراء .
وإتْباع الضيِّق بالحرج : لتأكيد معنى الضيق ، لأنّ في الحرج من معنى شدّة الضّيق ما ليس في ضيق . والمعنى يجعل صدره غير متّسع لقبول الإسلام ، بقرينة مقابلته بقوله : { يشرح صدره للإسلام } . وزاد حالة المضلَّل عن الإسلام تبيينا بالتّمثيل ، فقال : { كأنما يصعد في السماء } .
قرأه الجمهور : { يصّعَّد } بتشديد الصاد وتشديد العين على أنَّه يَتفعَّل من الصعود ، أي بتكلّف الصعود ، فقلبت تاء التفعّل صاداً لأنّ التاء شبيهة بحروف الإطباق ، فلذلك تقلب طاء بعد حروف الإطباق في الافتعال قلباً مطّرداً ثمّ تدغم تارة في مماثلها أو مقاربها ، وقد تقلب فيما يشابه الافتعال إذا أريد التّخفيف بالإدغام ، فتدغم في أحد أحرف الإطباق ، كما هنا ، فإنَّه أريد تخفيف أحد الحروف الثّلاثة المتحرّكة المتوالية من ( يَتصعّد ) ، فسُكنت التاء ثمّ أدغمت في الصّاد إدغام المقارب للتخفيف . وقرأه ابن كثير : { يَصْعَد } بسكون الصّاد وفتح العين ، مخفّفاً . وقرأه أبو بكر ، عن عاصم : { يصّاعد } بتشديد الصّاد بعدها ألف وأصله يتصاعد .
وجملة { كأنما يصعد } في موضع الحال من ضمير : { صدْرَه } أو من صَدره ، مُثِّل حال المشرك حين يدعى إلى الإسلام أو حين يخلو بنفسه ، فيتأمل في دعوة الإسلام ، بحال الصّاعد ، فإنّ الصّاعد يضيق تنفّسه في الصّعود ، وهذا تمثيل هيئة معقولة بهيئة متخيَّلة ، لأنّ الصّعود في السّماء غير واقع .
والسّماء يجوز أن يكون بمعناه المتعارف ، ويجوز أن يكون السّماء أطلق على الجوّ الّذي يعلو الأرض . قال أبو عليّ الفارسي : « لا يكون السّماء المُظلةَ للأرض ، ولكن كما قال سيبويه{[232]} القيدود الطويل في غير سماء أي في غير ارتفاع صعداً » أراد أبو عليّ الاستظهار بكلام سيبويه على أنّ اسم السّماء يقال للفضاء الذّاهب في ارتفاع ( وليست عبارة سيبويه تفسيراً للآية ) .
وحرف { في } يجوز أن يكون بمعنى ( إلى ) ، ويجوز أن يكون بمعنى الظرفية : إمَّا بمعنى كأنّه بلغ السّماء وأخذ يصعد في منازلها ، فتكون هيئة تخييلية ، وإمّا على تأويل السّماء بمعنى الجوّ .
وجملة : { كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } تذييل للتي قبلها ، فلذلك فصلت .
والرجس : الخبث والفساد ، ويطلق على الخبث المعنوي والنّفسي . والمراد هنا خبث النّفس وهو رجس الشّرك ، كما قال تعالى : { وأمّا الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم } [ التوبة : 125 ] أي مرضاً في قلوبهم زائداً على مرض قلوبهم السّابق ، أي أرسخت المرض في قلوبهم ، وتقدّم في سورة المائدة ( 90 ) { إنَّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشّيطان } فالرجس يعمّ سائر الخباثات النّفسيّة ، الشّاملة لضيق الصّدر وحرجه ، وبهذا العموم كان تذييلاً ، فليس خاصّا بضيق الصدر حتّى يكون من وضع المظهر موضع المضمر .
وقوله : { كذلك } نائب عن المفعول المطلق المراد به التّشبيه والمعنى : يجعل الله الرجس على الّذين لا يؤمنون جَعْلا كهذا الضيق والحرج الشّديد الّذي جعله في صدور الّذين لا يؤمنون .
و { على } في قوله : { على الذين لا يؤمنون } تفيد تمكّن الرجس من الكافرين ، فالعُلاوة مجاز في التمكّن ، مثل : { أولئك على هدى من ربّهم } [ البقرة : 5 ] والمراد تمكّنه من قلوبهم وظهور آثاره عليهم . وجيء بالمضارع في { يَجعل } لإفادة التّجدّد في المستقبل ، أي هذه سنّة الله في كلّ من ينصرف عن الإيمان ، ويُعرض عنه .
و { الّذين لا يؤمنون } مَوصول يومىء إلى علّة الخبر ، أي يجعل الله الرجس متمكّناً منهم لأنَّهم يعرضون عن تلقّيه بإنصاف ، فيجعل الله قلوبهم متزائدة بالقساوة . والموصول يعمّ كلّ من يُعرض عن الإيمان ، فيشمل المشركين المخبر عنهم ، ويشمل غيرهم من كلّ من يُدعى إلى الإسلام فيُعرض عنه ، مثل يهود المدينة والمنافقين وغيرهم . وبهذا العموم صارت الجملة تذييلاً ، وصار الإتيان بالموصول جارياً على مقتضى الظاهر ، وليس هو من الإظهار في مقام الإضمار .