معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَـٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ} (84)

قوله تعالى : { وتولى عنهم } ، وذلك أن يعقوب عليه السلام لما بلغه خبر بنيامين تتام حزنه وبلغ جهده ، وتهيج حزنه على يوسف فأعرض عنهم ، { وقال يا أسفى } ، يا حزناه ، { على يوسف } ، والأسف أشد الحزن ، { وابيضت عيناه من الحزن } ، عمي بصره . قال مقاتل : لم يبصر بهما ست سنين ، { فهو كظيم } أي : مكظوم مملوء من الحزن ممسك عليه لا يبثه . وقال قتادة : يردد حزنه في جوفه ولم يقل إلا خيرا . قال الحسن : كان بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التقى معه ثمانون عاما لا تجف عينا يعقوب وما على وجه الأرض يومئذ أكرم على الله من يعقوب .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَـٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ} (84)

ثم يصور - سبحانه - ما اعترى يعقوب من أحزانه على يوسف ، جددها فراق بنيامين له فقال - تعالى - { وتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأسفى عَلَى يُوسُفَ وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن فَهُوَ كَظِيمٌ } .

وقوله { ياأسفى } من الأسف وهو أشد الحزن والتحسر على ما فات من أحداث . يقال : أسف فلان على كذا يأسف أسفا ، إذا حزن حزناً شديداً .

وألفه بدل من ياء المتكلم للتخفيف والأصل يا أسفى .

وكظيم بمعنى مكظوم ، وهو الممتلئ بالحزن ولكنه يخفيه من الناس ولا يبديه لهم .

ومنه قوله - تعالى - { والكاظمين الغيظ } أى : المخففين له ، مأخوذ من كظم فلان السقاء : إذا سده على ما بداخله .

والمعنى : وبعد أن استمع يعقوب إلى ما قاله له أبناؤه ، ورد عليهم .

انتابته الأحزان والهموم ، وتجددت في قلبه الشجون . . فتركهم واعتزل مجلسهم وقال : { ياأسفى عَلَى يُوسُفَ } أى : يا حزنى الشديد على يوسف أقبل فهذا أوان إقبالك .

{ وابيضت } عينا يعقوب من شدة الحزن على يوسف وأخيه حتى ضعف بصره ، حيث انقلب سواد عينيه بياضاً من كثرة البكاء .

{ فَهُوَ كَظِيمٌ } أى : ممتلئ زنا على فراق يوسف له ، إلا أنه كاتم لهذا الحزن لا يبوح به لغيره من الناس .

قالوا : وإنما تأسف على يوسف دون أخويه - بنيامين وروبيل - مع أن الرزء الأحدث أشد على النفس . . . لأن الرزء في يوسف كان قاعدة مصيباته التي ترتبت عليها الرزايا والخطوب ولأن حبه ليوسف كان حباً خاصاً لا يؤثر فيه مرور الأعوام . . . ولأن من شأن المصيبة الجديدة أن تذكر بالمصيبة السابقة عليها ، وتهيج أحزانها ، وقد عبر عن هذا المعنى متمم ابن نويرة في رثائه لأخيه مالك فقال :

لقد لامنى عند القبور على البكا *** رفيقي لتذراف الدموع السوافك

فقال أتبكى كل قبر رأيته *** لقبر ثوى بين اللوى والدكادك

فقلت له : إن الشجى يبعث الشجى *** فدعنى ، فهذا كله قبر مالك

وقال صاحب الكشاف : " فإن قلت : كيف جاز لنبى الله يعقوب أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ ؟ "

قلت : الإِنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن .

ولقد بكى النبى - صلى الله عليه وسلم - على ولده إبراهيم وقال : إن العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون .

وإنما الجز المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة ، ولطم الصدور والوجوه وتمزيق الثياب .

وعن الحسن أنه بكى على ولده له ، فقيل له في ذلك ؟ فقال : " ما رأيت الله جعل الحزن عارا على يعقوب "

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَـٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ} (84)

وتولى عنهم وقال : يا أسفا على يوسف ! وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم . .

وهي صورة مؤثرة للوالد المفجوع . يحس أنه منفرد بهمه ، وحيد بمصابه ، لا تشاركه هذه القلوب التي حوله ولا تجاوبه ، فينفرد في معزل ، يندب فجيعته في ولده الحبيب . يوسف . الذي لم ينسه ، ولم تهون من مصيبته السنون ، والذي تذكره به نكبته الجديدة في أخيه الأصغر فتغلبه على صبره الجميل :

يا أسفا على يوسف ! . .

ويكظم الرجل حزنه ويتجلد فيؤثر هذا الكظم في أعصابه حتى تبيض عيناه حزنا وكمدا :

( وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ) . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَـٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ} (84)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَوَلّىَ عَنْهُمْ وَقَالَ يَأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } .

يعني تعالى ذكره بقوله : وَتَوَلّى عَنْهُمْ وأعرض عنهم يعقوب ، وَقالَ يا أسَفا على يُوسُفَ يعني : يا حزنا عليه . يقال : إن الأسف هو أشدّ الحزن والتندم ، يقال منه : أسفت على كذا آسف عليه أسفا . يقول الله جلّ ثناؤه : وابيضت عينا يعقوب من الحزن فَهُوَ كَظِيمٌ يقول : فهو مكظوم على الحزن ، يعني أنه مملوء منه ممسك عليه لا يبينه صرف المفعول منه إلى فعيل . ومنه قوله : والكاظِمِينَ الغَيْظَ وقد بيّنا معناه بشواهده فيما مضى .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ما قلنا في تأويل قوله وَقالَ يا أسَفَا على يُوسُفَ :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَتَوَلّى عَنْهُمْ أعرض عنهم ، وتتامّ حزنه ، وبلغ مجهوده ، حين لحق بيوسف أخوه وهيّج عليه حزنه على يوسف ، فقال : يا أسَفَا على يُوسُفَ وابْيَضّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَتَوَلّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أسَفا على يُوسُفَ يقول : يا حَزَنَى على يوسف .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يا أسَفَا على يُوسُفَ : يا حَزَنَا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يا أسَفَا على يُوسُفَ : يا جزعاه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يا أسَفَا على يُوسُفَ يا جزعاه حزنا .

حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يا أسَفَا على يُوسُفَ قال : يا جزعا .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا أسَفَا على يُوسُفَ أي حزناه .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : يا أسَفَا على يُوسُفَ قال : يا حزناه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن حميد المَعْمَري ، عن معمر ، عن قتادة ، نحوه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : وَقالَ يا أسَفا على يُوسُفَ . . . .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي حجيرة ، عن الضحاك : يا أسَفَا على يُوسُفَ قال : يا حَزَنا على يوسف .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أبي مرزوق ، عن جويبر ، عن الضحاك : يا أسَفَا يا حزناه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : ثني هشيم ، قال : أخبرنا جويبر عن الضحاك : يا أسَفَا يا حزنا على يوسف .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن سفيان العصفري ، عن سعيد بن جبير ، قال : لم يعط أحدٌ غير هذه الأمة الاسترجاع ، ألا تسمعون إلى قول يعقوب : يا أسَفَا على يُوسُفَ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن سعيد بن جبير ، نحوه .

ذكر من قال ما قلنا في تأويل قوله تعالى وَابْيَضّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فهُوَ كَظِيمٌ قال : كظيم الحزن .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَهُوَ كَظِيمٌ قال : كظيم الحزن .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .

حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَهُوَ كَظِيمٌ قال : الحزن .

حدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَهُوَ كَظِيمٌ مكمود .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : فَهُوَ كَظِيمٌ قال : كظيم على الحزن .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : فَهُوَ كَظِيمٌ قال : الكظيم : الكميد .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : فَهُو كَظِيمٌ قال كميد .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : كَظِيمٌ قال : كميد .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَابْيَضّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ يقول : يردّد حزنه في جوفه ولم يتكلم بسوء .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : فَهُوَ كَظِيمٌ قال : كظيم على الحزن فلم يقل بأسا .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا الحسين بن الحسن ، قال : حدثنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَابْيَضّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قال : كظيم على الحزن فلم يقل إلاّ خيرا .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن يزيد بن زُريع ، عن عطاء الخراسانيّ : فَهُوَ كَظِيمٌ قال : مكروب .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : فَهُوَ كَظِيمٌ قال : من الغيظ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَابْيَضّتْ عَيناهْ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ . قال : الكظيم : الذي لا يتكلم ، بلغ به الحزن حتى كان لا يكلمهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَـٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ} (84)

وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ( 84 ) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ( 85 ) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ( 86 )

المعنى : أنه لما ساء ظنه بهم ولم يصدق قولهم بل استراب به ، { تولى عنهم } أي زال بوجهه عنهم وجعل يتفجع ويتأسف ، قال الحسن : خصت هذه الأمة بالاسترجاع{[6782]} ألا ترى إلى قول يعقوب : { يا أسفي } .

قال القاضي أبو محمد : والمراد : «يا أسفي » . لكن هذه لغة من يرد ياء الإضافة ألفاً نحو : يا غلاماً ويا أبتا ، ونادى الأسف على معنى احضر فهذا من أوقاتك . وقيل : قوله : { يا أسفى } على جهة الندبة ، وحذف الهاء التي هي في الندبة علامة المبالغة في الحزن تجلداً منه عليه السلام ، إذ كان قد ارتبط إلى الصبر الجميل ، وقيل : قوله : { يا أسفى } نداء فيه استغاثة{[6783]} .

قال القاضي أبو محمد : ولا يبعد أن يجتمع الاسترجاع و { يا أسفى } لهذه الأمة وليعقوب عليه السلام .

{ وابيضت عيناه } أي من ملازمة البكاء الذي هو ثمرة الحزن ، وروي «أن يعقوب عليه السلام حَزِنَ حُزْنَ سبعين ثكلى وأعطي أجر مائة شهيد وما ساء ظنه بالله قط » ، رواه الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم{[6784]} .

وقرأ ابن عباس ومجاهد «من الحَزَن » بفتح الحاء والزاي ، وقرأ قتادة بضمهما وقرأ الجمهور بضم الحاء وسكون الزاي .

{ وهو كظيم } بمعنى كاظم ، كما قال { والكاظمين الغيظ }{[6785]} [ آل عمران : 134 ] ، ووصف يعقوب بذلك لأنه لم يشك إلى أحد ، وإنما كان يكمد في نفسه ويمسك همه في صدره ، وكان يكظمه أي يرده إلى قلبه ولا يرسله بالشكوى والغضب والفجر . وقال ناس : { كظيم } بمعنى : مكظوم .

قال القاضي أبو محمد : وقد وصف الله تعالى يونس عليه السلام بمكظوم في قوله { إذ نادى وهو مكظوم }{[6786]} [ القلم : 48 ] وهذا إنما يتجه على تقدير أنه مليء بحزنه ، فكأنه كظم بثه في صدره ، وجري كظيم على باب كاظم أبين . وفسر ناس «الكظيم » بالمكروب وبالمكمود - وذلك كله متقارب - وقال منذر بن سعيد : الأسف إذا كان من جهة من هو أقل من الإنسان فهو غضب ، ومنه قول الله تعالى : { فلما آسفونا انتقمنا منهم }{[6787]} [ الزخرف : 55 ] ومنه قول الرجل الذي ذهبت لخادمه الشاة من الغنم : فأسفت فلطمتها ؛ وإذا كان من جهة لا يطيقها فهو حزن وهم .

قال القاضي أبو محمد : وتحرير هذا المنزع : أن الأسف يقال في الغضب ويقال في الحزن ، وكل واحد من هذين يحزر حاله التي يقال عليها ،


[6782]:يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والاسترجاع هو قولنا عند المصيبة: "إنا لله وإنا إليه راجعون".
[6783]:قال الزمخشري: "والتجانس بين لفظتي "الأسف ويوسف" مما يقع مطبوعا غير مستعمل فيملح، ونحوه: {اثقلتم إلى الأرض أرضيتم} و {وهم ينهون عنه وينـأون عنه} و { يحسبون أنهم يحسنون صنعا} و {من سبأ بنبأ يقين}". اهـ. وهذا ما يسمى تجنيس التصريف، وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف وتتفق معها في بقية الحروف.
[6784]:أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ليث بن أبي سليم رضي الله عنه أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام في السجن فعرفه، فقال له : (أيها الملك الكريم على ربه، هل لك علم بيعقوب؟ قال: نعم، قال: ما فعل؟ قال: ابيضت عيناه من الحزن عليك، قال: فماذا بلغ من حزنه؟ قال: حزن سبعين مثكلة، قال: هل له على ذلك من أجر؟ قال: نعم، أجر مائة شهيد). (الدر المنثور).
[6785]:من الآية (134) من سورة (آل عمران).
[6786]:من الآية (48) من سورة (القلم).
[6787]:من الآية (55) من سورة (الزخرف).
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَـٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ} (84)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وتولى عنهم}، يعني: وأعرض يعقوب عن بنيه، ثم أقبل على نفسه، {وقال يا أسفى}، يعني: يا حزناه {على يوسف وابيضت عيناه} لم يبصر بهما، {من الحزن} على يوسف، {فهو كظيم}، يعني مكروب يتردد الحزن في قلبه...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني تعالى ذكره بقوله:"وَتَوَلّى عَنْهُمْ": وأعرض عنهم يعقوب، "وَقالَ يا أسَفا على يُوسُفَ "يعني: يا حزنا عليه. يقال: إن الأسف هو أشدّ الحزن والتندم... يقول الله جلّ ثناؤه: وابيضت عينا يعقوب من الحزن "فَهُوَ كَظِيمٌ "يقول: فهو مكظوم على الحزن، يعني أنه مملوء منه ممسك عليه لا يبينه

... عن الضحاك، في قوله: "فَهُوَ كَظِيمٌ" قال: الكظيم: الكميد...

عن قتادة: "وَابْيَضّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ" يقول: يردّد حزنه في جوفه ولم يتكلم بسوء...

قال ابن زيد، في قوله: "وَابْيَضّتْ عَيناهْ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ" قال: الكظيم: الذي لا يتكلم، بلغ به الحزن حتى كان لا يكلمهم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... والحزن هو ما يؤثر التغيير في الخلقة، ولا يظهر في الأفعال. والجزع يظهر في الأفعال، ولا يغير الخلقة عن حالها؛ لذلك عمل الحزن في ضعف نفس يعقوب، وعمل في إهلاك بعضه حيث ذهبت عيناه، وابيضت من الحزن...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فإن قلت: كيف تأسف على يوسف دون أخيه ودون الثالث، والرزء الأحدث أشدّ على النفس وأظهر أثراً؟ قلت: هو دليل على تمادي أسفه على يوسف، وأنه لم يقع فائت عنده موقعه، وأنّ الرزء فيه مع تقادم عهده كان غضاً عنده طريا...

ولأنّ الرزء في يوسف كان قاعدة مصيباته التي ترتبت عليها الرزايا في ولده، فكان الأسف عليه أسفاً على من لحق به...

{فَهُوَ كَظِيمٌ} فهو مملوء من الغيظ على أولاده ولا يظهر ما يسوؤهم، فعيل بمعنى مفعول، بدليل قوله {وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48] من كظم السقاء إذا شدّه على ملئه...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{فهو كظيم} بمعنى كاظم، كما قال {والكاظمين الغيظ} [آل عمران: 134]، ووصف يعقوب بذلك لأنه لم يشْكُ إلى أحد، وإنما كان يكمد في نفسه ويمسك همه في صدره، وكان يكظمه أي يرده إلى قلبه ولا يرسله بالشكوى والغضب... وقال ناس: {كظيم} بمعنى: مكظوم... وقد وصف الله تعالى يونس عليه السلام بمكظوم في قوله {إذ نادى وهو مكظوم} [القلم: 48] وهذا إنما يتجه على تقدير أنه مليء بحزنه، فكأنه كظم بثه في صدره. وجريُ كظيم على باب كاظم أبين...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: كَانَ يَعْقُوبُ حَزِينًا فِي الدَّرَجَةِ الَّتِي قَدْ بَيَّنَّاهَا، وَلَكِنَّ حُزْنَهُ كَانَ فِي قَلْبِهِ جِبِلَّةً، وَلَمْ يَكْتَسِبْ لِسَانُهُ قَوْلًا قَلِقًا يُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْنِهِ فِي صَحِيحِ الْخَبَرِ: (تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِك يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ).

وَقَالَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ وَإِنَّمَا يُعَذَّبُ بِهَذَا وَأَشَارَ إلَى لِسَانِهِ، أَوْ يَرْحَمُ). وَهُوَ تَفَضُّلٌ مِنْهُ، سُبْحَانَهُ، حِينَ عَلِمَ عَجْزَ الْخَلْقِ عَنْ الصَّبْرِ؛ فَأَذِنَ لَهُمْ فِي الدَّمْعِ وَالْحُزْنِ، وَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِهِ، وَخَطَمَ الْفَمَ بِالزِّمَامِ عَنْ سُوءِ الْكَلَامِ، فَنَهَى عَمَّا نَهَى، وَأَمَرَ بِالتَّسْلِيمِ وَالرِّضَا لِنَافِذِ الْقَضَاءِ، وَخَاصَّةً عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى. وَأَحْسَنُ الْكَلَامِ فِي الشَّكْوَى سُؤَالُ الْمَوْلَى زَوَالَ الْبَلْوَى، وَذَلِكَ قَوْلُ يَعْقُوبَ: {إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} مِنْ جَمِيلِ صُنْعِهِ وَغَرِيبِ لُطْفِهِ وَعَائِدَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

وإنما عظم حزنه على مفارقة يوسف عند هذه الواقعة لوجوه:

الوجه الأول: أن الحزن الجديد يقوي الحزن القديم الكامن...

والوجه الثاني: أن بنيامين ويوسف كانا من أم واحدة وكانت المشابهة بينهما في الصورة والصفة أكمل، فكان يعقوب عليه السلام يتسلى برؤيته عن رؤية يوسف عليه السلام، فلما وقع ما وقع زال ما يوجب السلوة فعظم الألم والوجد.

الوجه الثالث: أن المصيبة في يوسف كانت أصل مصائبه التي عليها ترتب سائر المصائب والرزايا، وكان الأسف عليه أسفا على الكل.

الرابع: أن هذه المصائب الجديدة كانت أسبابها جارية مجرى الأمور التي يمكن معرفتها والبحث عنها. وأما واقعة يوسف فهو عليه السلام كان يعلم كذبهم في السبب الذي ذكروه، وأما السبب الحقيقي فما كان معلوما له، وأيضا أنه عليه السلام كان يعلم أن هؤلاء في الحياة، وأما يوسف فما كان يعلم أنه حي أو ميت، فلهذه الأسباب عظم وجده على مفارقته وقويت مصيبته على الجهل بحاله...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{وتولى} أي انصرف بوجهه {عنهم} لما تفاقم عليه من الحزن، وبلغ به من الجهد، وهاج به باجتماع حزن إلى حزن من الحرق كراهية لما جاؤوا به وإقبالاً على من إليه الأمر {وقال} مشتكياً إلى الله لا غيره، فهو تعريض بأشد التصريح والدعاء: {يا أسفى} أي يا أشد حزني، والألف بدل عن ياء الإضافة لتدل على بلوغ الأسف إلى ما لا حد له، وجناس "الأسف "مع "يوسف" مما لم يتعمد، فيكون مطبوعاً، فيصل إلى نهاية الإبداع، وأمثاله في القرآن كثير {على يوسف} هذا أوانك الذي ملأني بك فنادمني كما أنادمك، وخصه لأنه قاعدة إخوانه، انبنى عليها وتفرع منها ما بعدها {وابيضت عينه} أي انقلب سوادهما إلى حال البياض كثرة الاستعبار، فعمي البصر {من الحزن} الذي هو سبب البكاء الدائم الذي هو سبب البياض، فذكر السبب الأول، يقال: بلغ حزنه عليه السلام حزن سبعين ثكلى وما ساء ظنه قط.

ثم علل ذلك بقوله: {فهو} أي بسبب الحزن {كظيم} أي شديد الكظم لامتلائه من الكرب، مانع نفسه من عمل ما يقتضيه ذلك من الرعونات بما آتاه الله من العلم والحكمة، وذلك أشد ما يكون على النفس وأقوى ما يكون للحزن، فهو فعيل بمعنى مفعول، وهو أبلغ منه، من كظم السقاء -إذا شده على ملئه.

ومادة "كظم" تدور على المنع من الإظهار...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

انتقال إلى حكاية حال يعقوب عليه السلام في انفراده عن أبنائه ومناجاته نفسه، فالتولي حاصل عقب المحاورة. و {تولى}: انصرف، وهو انصراف غَضَب. ولمّا كان التولّي يقتضي الاختلاء بنفسه ذكر من أخواله تجدد أسفه على يوسف عليه السلام فقال: {يا أسفى على يوسف} والأسف؛ أشد الحزن، أسِف كحزن. ونداء الأسف مجاز. نزّل الأسف منزلة من يعقل فيقول له: احضر فهذا أوان حضورك، وأضاف الأسف إلى ضمير نفسه لأن هذا الأسف جزئي مختص به من بين جزئيات جنس الأسف. والألف عوض عن ياء المتكلم فإنها في النداء تبدل ألفاً. وإنما ذكر القرآن تحسّره على يوسف عليه السلام ولم يذكر تحسره على ابنيه الآخرين لأن ذلك التحسّر هو الذي يتعلق بهذه القصة فلا يقتضي ذكرُه أن يعقوب عليه السلام لم يتحسّر قط إلاّ على يوسف، مع أن الواو لا تفيد ترتيب الجمل المعطوفة بها. وكذلك عطف جملة {وابيضت عيناه من الحزن} إذ لم يكن ابيضاض عينيه إلا في مدة طويلة. فكل من التولّي والتحسر وابيضاض العينين من أحواله إلاّ أنها مختلفة الأزمان. وابيضاض العينين: ضعُف البصر. وظاهره أنه تبدّل لون سوادهما من الهزال. ولذلك عبّر ب {وابيضت عيناه} دون عميت عيناه. و {من} في قوله: {من الحزن} سببية. والحزن سبب البكاء الكثير الذي هو سبب ابيضاض العينين. وعندي أن ابيضاض العينين كناية عن عدم الإبصار،

وأن الحزن هو السبب لعدم الإبصار كما هو الظاهر. فإن توالي إحساس الحزن على الدماغ قد أفضى إلى تعطيل عمل عصب الإبصار؛ على أن البكاء من الحزن أمر جبليّ فلا يستغرب صدوره من نبيء، أو أن التصبّر عند المصائب لم يكن من سنة الشريعة الإسرائيلية بل كان من سننهم إظهار الحزن والجزع عند المصائب... والكظيم: مبالغة للكاظم. والكَظم: الإمساك النفساني، أي كاظم للحزن لا يظهره بين الناس، ويبكي في خلوته، أو هو فعيل بمعنى مفعول، أي محزون...