قوله تعالى : { ثم بعثناهم } ، يعني من نومهم ، { لنعلم } أي : علم المشاهدة { أي الحزبين } أي الطائفتين { أحصى لما لبثوا أمداً } . وذلك أن القرية تنازعوا في مدة لبثهم في الكهف . واختلفوا في قوله { أحصى لما لبثوا } أحفظ لما مكثوا في كهفهم نياماً أمداً ، أي : غاية . وقال مجاهد : عدداً ، ونصبه على التفسير .
ثم بين - سبحانه - ما حدث لهم بعد هذا النوم الطويل فقال : { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً } .
وأصل البعث فى اللغة : إثارة الشئ من محله وتحريكه بعد سكون . ومنه قولهم : بعث فلان الناقة - إذا أثارها من مبركها للسير ، ويستعمل بمعنى الإِيقاظ وهو المقصود هنا من قوله : { بعثناهم } أى : أيقظناهم بعد رقادهم الطويل .
وقوله { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ } بيان للحكمة التى من أجلها أيقظهم الله من نومهم .
وكثير من المفسرين على أن الحزبين أحدهما : أصحاب الكهف والثانى : أهل المدينة الذين أيقظ الله أهل الكهف من رقادهم فى عهدهم ، وكان عندهم معرفة بشأنهم .
وقيل : هما حزبان من أهل المدينة الذين بعث هؤلاء الفتية فى زمانهم ، إلا أن أهل هذه المدينة كان منهم حزب مؤمن وآخر كافر .
وقيل : هما حزبان من المؤمنين كانوا موجودين فى زمن بعث هؤلاء الفتية ، وهذان الحزبان اختلفوا فيما بينهم فى المدة التى مكثها هؤلاء الفتية رقوداً .
والذى تطمئن إليه النفس أن الحزبين كليهما من أصحاب الكهف ، لأن الله - تعالى - قد قال بعد ذلك - { وكذلك بعثناهم } أى الفتية { قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ . . } .
قال الآلوسى : { ثم بعثناهم } أى : أيقظناهم وأثرناهم من نومهم { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ } أى : منهم ، وهم القائلون { لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ } والقائلون { رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } .
وقيل : أحد الحزبين الفتية الذين ظنوا قلة زمان لبثهم ، والثانى أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم وكان عندهم تاريخ غيبتهم . . والظاهر الأول لأن اللام للعهد ، ولا عهد لغير من سمعت .
والمراد بالعلم فى قوله { لنعلم . . } إظهار المعلوم ، أى ثم بعثناهم لنعلم ذلك علما يظهر الحقيقة التى لا حقيقة سواها للناس .
ويجوز أن يكون العلم هنا بمعنى التمييز ، أى : ثم بعثناهم لنميز أى الحزبين أحصى لما لبثوا أبدا .
وقوله : ثُمّ بَعَثْناهُمْ لنَعْلَمَ أيّ الحِزْبَيْنِ أحْصَى يقول : ثم بعثنا هؤلاء الفتية الذين أوَوْا إلى الكهف بعد ما ضربنا على آذانهم فيه سنين عددا من رقدتهم ، لينظر عبادي فيعلموا بالبحث ، أيّ الطائفتين اللتين اختلفتا في قدر مبلغ مُكْث الفتية في كهفهم رقودا أحْصَى لِمَا لَبِثُوا أمَدا يقول : أصوب لقدر لبثهم فيه أمدا ويعني بالأمد : الغاية ، كما قال النابغة :
إلاّ لمِثْلِكَ أوْ مَنْ أنْتَ سابِقُهُ *** سَبْقَ الجَوَادِ إذا اسْتَوْلَى على الأمَدِ
وذُكر أن الذين اختلفوا في ذلك من أمورهم ، قوم من قوم الفتية ، فقال بعضهم : كان الحزبان جميعا كافرين . وقال بعضهم : بل كان أحدهما مسلما ، والاَخر كافرا . ذكر من قال : كان الحزبان من قوم الفتية :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أيّ الحِزْبينِ من قوم الفتية .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ثُمّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أيّ الحِزْبَيْنِ أحْصَى لِما لَبِثُوا أمَدا يقول : ما كان لواحد من الفريقين علم ، لا لكفارهم ولا لمؤمنيهم .
وأما قوله : أمَدا فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه ، فقال بعضهم : معناه : بعيدا . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله لِمَا لَبِثُوا أمَدا يقول : بعيدا .
وقال آخرون : معناه : عددا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أمَدا قال : عددا .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وفي نصب قوله أمَدا وجهان : أحدهما أن يكون منصوبا على التفسير من قوله أحْصَى كأنه قيل : أيّ الحزبين أصوب عددا لقدر لبثهم .
وهذا هو أولى الوجهين في ذلك بالصواب ، لأن تفسير أهل التفسير بذلك جاء .
والاَخر : أن يكون منصوبا بوقوع قوله لَبِثُوا عليه ، كأنه قال : أيّ الحزبين أحصى للبثهم غاية .
و «البعث » التحريك بعد سكون ، وهذا مطرد مع لفظة البعث حيث وقعت ، وقد يكون السكون في الشخص أو عن الأمر المبعوث فيه وإن كان الشخص متحركاً ، وقوله { لنعلم } عبارة عن خروج ذلك الشيء إلى الوجود ، وهذا على نحو كلام العرب أي لنعلم ذلك موجوداً ، وإلا فقد كان الله تعالى علم { أي الحزبين } أحصى الأمد وقرأ الزهري «ليعلم » بالياء ، و «الحزبان » الفريقان ، والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية ، إذ ظنوا لبثهم قليلاً ، والحزب الثاني هم أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية ، وهذا قول الجمهور من المفسرين ، وقالت فرقة : هما حزبان من الكافرين اختلفا في مدة أصحاب الكهف ، وقالت فرقة : هما حزبان من المؤمنين ، وهذا لا يرتبط من ألفاظ الآية ، وأما قوله { أحصى } فالظاهر الجيد فيه أنه فعل ماض ، و { أمداً } منصوب به على المفعول ، و «الأمد » الغاية ، وتأتي عبارة عن المدة من حيث للمدة غاية هي أمدها على الحقيقة ، وقال الزجاج : { أحصى } هو أفعل ، و { أمداً } على هذا نصب على التفسير ، ويلحق هذا القول من الاختلال أن أفعل لا يكون من فعل رباعي إلا في الشاذ ، و { أحصى } فعل رباعي ، ويحتج لقول أبي إسحاق بأن أفعل من الرباعي قد كثر ، كقولك ما أعطاه للمال ، وآتاه للخير ، وقال النبي عليه السلام في صفه جهنم :
«هي أسود من القار »{[7755]} وقال في صفة حوضه عليه السلام «ماؤه أبيض من اللبن »{[7756]} وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه «فهو لما سواها أضيع » وهذه كلها أفعل من الرباعي{[7757]} ، وقال مجاهد : { أمداً } معناه عدداً ، وهذا تفسير بالمعنى على جهة التقريب ، وقال الطبري : نصب { أمداً } ب { لبثوا } ، وهذا غير متجه .