مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ثُمَّ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِنَعۡلَمَ أَيُّ ٱلۡحِزۡبَيۡنِ أَحۡصَىٰ لِمَا لَبِثُوٓاْ أَمَدٗا} (12)

ثم قال تعالى : { ثم بعثناهم } يريد من بعد نومهم يعني أيقظناهم بعد نومهم وقوله : { لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا } فيه مسائل :

المسألة الأولى : قوله : { ثم بعثناهم لنعلم } اللام لام الغرض فيدل على أن أفعال الله معللة بالأغراض وقد سبق الكلام فيه .

المسألة الثانية : ظاهر اللفظ يقتضي أنه تعالى إنما بعثهم ليحصل له هذا العلم وعند هذا يرجع إلى أنه تعالى هل يعلم الحوادث قبل وقوعها أم لا ، فقال هشام : لا يعلمها إلا عند حدوثها واحتج بهذه الآية والكلام فيه قد سبق ، ونظائر هذه الآية كثيرة في القرآن منها ما سبق في هذه السورة ومنها قوله في سورة البقرة : { إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } وفي آل عمران { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } وقوله : { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم } وقوله : { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم } .

المسألة الثالثة : { أي } رفع بالابتداء و { أحصى } خبره وهذه الجملة بمجموعها متعلق العلم فلهذا السبب لم يظهر عمل قوله : { لنعلم } في لفظة { أي } بل بقيت على ارتفاعها ونظيره قوله : اذهب فاعلم أيهم قام قال تعالى : { سلهم أيهم بذلك زعيم } وقوله : { ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا } وقرئ ليعلم على فعل ما لم يسم فاعله وفي هذه القراءة فائدتان . إحداهما : أن على هذا التقدير لا يلزم إثبات العلم المتجدد لله بل المقصود أنا بعثناهم ليحصل هذا العلم لبعض الخلق . والثانية : أن على هذا التقدير يجب ظهور النصب في لفظة أي ، لكن لقائل أن يقول : الإشكال بعد باق لأن ارتفاع لفظة أي بالإبتداء لا بإسناد يعلم إليه . ولمجيب أن يجيب فيقول : إنه لا يمتنع اجتماع عاملين على معمول واحد لأن العوامل النحوية علامات ومعرفات ولا يمتنع اجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد ، والله أعلم .

المسألة الرابعة : اختلفوا في الحزبين فقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : المراد بالحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة ملكا بعد ملك ، فالملوك حزب وأصحاب الكهف حزب . والقول الثاني : قال مجاهد : الحزبان من هذه الفتية لأن أصحاب الكهف لما انتبهوا اختلفوا في أنهم كم ناموا والدليل عليه قوله تعالى :{ قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم } فالحزبان هما هذان ، وكان الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول . القول الثالث : قال الفراء : إن طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدة لبثهم .

المسألة الخامسة : قال أبو علي الفارسي قوله { أحصى } ليس من باب أفعل التفضيل لأن هذا البناء من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس فأما قولهم ما أعطاه للدرهم وما أولاه للمعروف وأعدى من الجرب وأفلس من ابن المدلق ، فمن الشواذ والشاذ لا يقاس عليه بل الصواب أن أحصى فعل ماض وهو خبر المبتدأ والمبتدأ والخبر مفعول نعلم وأمدا مفعول به لأحصى وما في قوله تعالى : { لما لبثوا } مصدرية والتقدير أحصى أمدا للبثهم ، وحاصل الكلام لنعلم أي الحزبين أحصى أمد ذلك اللبث ، ونظيره قوله : { أحصاه الله } وقوله : { وأحصى كل شيء عددا } .

المسألة السادسة : احتج أصحابنا الصوفية بهذه الآية على صحة القول بالكرامات وهو استدلال ظاهر ونذكر هذه المسألة ههنا على سبيل الاستقصاء فنقول قبل الخوض في الدليل على جواز الكرامات نفتقر إلى تقديم مقدمتين :

المقدمة الأولى : في بيان أن الولي ما هو فنقول ههنا وجهان ، الأول : أن يكون فعيلا مبالغة من الفاعل كالعليم والقدير فيكون معناه من توالت طاعاته من غير تخلل معصية . الثاني : أن يكون فعيلا بمعنى مفعول كقتيل وجريح بمعنى مقتول ومجروح . وهو الذي يتولى الحق سبحانه حفظه وحراسته على التوالي عن كل أنواع المعاصي ويديم توفيقه على الطاعات واعلم أن هذا الاسم مأخوذ من قوله تعالى : { الله ولي الذين آمنوا } وقوله : { وهو يتولى الصالحين } وقوله تعالى : { أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } وقوله : { ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم } وقوله : { إنما وليكم الله ورسوله } وأقول الولي هو القريب في اللغة فإذا كان العبد قريبا من حضرة الله بسبب كثرة طاعاته وكثرة إخلاصه وكان الرب قريبا منه برحمته وفضله وإحسانه فهناك حصلت الولاية .

المقدمة الثانية : إذا ظهر فعل خارق للعادة على الإنسان فذاك إما أن يكون مقرونا بالدعوى أولا مع الدعوى والقسم الأول وهو أن يكون مع الدعوى فتلك الدعوى إما أن تكون دعوى الإلهية أو دعوى النبوة أو دعوى الولاية أو دعوى السحر وطاعة الشياطين ، فهذه أربعة أقسام . القسم الأول : إدعاء الإلهية وجوز أصحابنا ظهور خوارق العادات على يده من غير معارضة كما نقل ، أن فرعون كان يدعي الإلهية وكانت تظهر خوارق العادات على يده وكما نقل ذلك أيضا في حق الدجال . قال أصحابنا : وإنما جاز ذلك لأن شكله وخلقته تدل على كذبه فظهور الخوارق على يده لا يفضي إلى التلبيس . والقسم الثاني : وهو ادعاء النبوة فهذا القسم على قسمين لأنه إما أن يكون ذلك المدعي صادقا أو كاذبا فإن كان صادقا وجب ظهور الخوارق على يده وهذا متفق عليه بين كل من أقر بصحة نبوة الأنبياء ، وإن كان كاذبا لم يجز ظهور الخوارق على يده وبتقدير أن تظهر وجب حصول المعارضة . وأما القسم الثالث : وهو ادعاء الولاية والقائلون بكرامات الأولياء اختلفوا في أنه هل يجوز أن يدعي الكرامات ثم إنها تحصل على وفق دعواه أم لا . وأما القسم الرابع : وهو ادعاء السحر وطاعة الشيطان فعند أصحابنا يجوز ظهور خوارق العادات على يده وعند المعتزلة لا يجوز . وأما القسم الثاني : وهو أن تظهر خوارق العادات على يد إنسان من غير شيء من الدعاوى ، فذلك الإنسان إما أن يكون صالحا مرضيا عند الله ، وإما أن يكون خبيثا مذنبا . والأول هو القول بكرامات الأولياء ، وقد اتفق أصحابنا على جوازه وأنكرها المعتزلة إلا أبا الحسين البصري وصاحبه محمود الخوارزمي . وأما القسم الثالث : وهو أن تظهر خوارق العادات على بعض من كان مردودا عن طاعة الله تعالى فهذا هو المسمى بالاستدراج فهذا تفصيل الكلام في هاتين المقدمتين ، إذا عرفت ذلك فنقول : الذي يدل على جواز كرامات الأولياء القرآن والأخبار والآثار والمعقول . أما القرآن فالمعتمد فيه عندنا آيات :

الحجة الأولى : قصة مريم عليها السلام ، وقد شرحناها في سورة آل عمران فلا نعيدها .

الحجة الثانية : قصة أصحاب الكهف وبقاؤهم في النوم أحياء سالمين عن الآفات مدة ثلاثمائة سنة وتسع سنين وأنه تعالى كان يعصمهم من حر الشمس كما قال : { وتحسبهم أيقاظا وهم رقود } إلى قوله : { وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين } ومن الناس من تمسك في هذه المسألة بقوله تعالى : { قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } وقد بينا أن ذلك الذي كان عنده علم من الكتاب هو سليمان فسقط هذا الاستدلال . أجاب القاضي عنه بأن قال : لا بد من أن يكون فيهم أو في ذلك الزمان نبي يصير ذلك علما له لما فيه من نقض العادة كسائر المعجزات ، قلنا : إنه يستحيل أن تكون هذه الواقعة معجزة لأحد من الأنبياء لأن إقدامهم على النوم أمر غير خارق للعادة حتى يجعل ذلك معجزة لأن الناس لا يصدقونه في هذه الواقعة لأنهم لا يعرفون كونهم صادقين في هذه الدعوى إلا إذا بقوا طول هذه المدة وعرفوا أن هؤلاء الذين جاؤوا في هذا الوقت هم الذين ناموا قبل ذلك بثلاثمائة سنين وتسع سنين وكل هذه الشرائط لم توجد فامتنع جعل هذه الواقعة معجزة لأحد من الأنبياء فلم يبق إلا أن تجعل كرامة للأولياء وإحسانا إليهم .

أما الأخبار فكثيرة : الخبر الأول : ما أخرج في «الصحيحين » عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم عليه السلام وصبي في زمن جريج الناسك وصبي آخر ، أما عيسى فقد عرفتموه ، وأما جريج فكان رجلا عابدا ببني إسرائيل وكانت له أم فكان يوما يصلي إذ اشتاقت إليه أمه فقالت : يا جريج فقال يا رب الصلاة خير أم رؤيتها ثم صلى فدعته ثانيا فقال مثل ذلك حتى قال ثلاث مرات وكان يصلي ويدعها فاشتد ذلك على أمه قالت : اللهم لا تمته حتى تريه المومسات ، وكانت زانية هناك فقالت لهم : أنا أفتن جريجا حتى يزني فأتته فلم تقدر على شيء ، وكان هناك راع يأوي بالليل إلى أصل صومعته قلما أعياها راودت الراعي على نفسها فأتاها فولدت ثم قالت ولدي هذا من جريج فأتاها بنو إسرائيل وكسروا صومعته وشتموه فصلى ودعا ثم نخس الغلام قال أبو هريرة : كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين قال بيده يا غلام من أبوك ؟ فقال : الراعي فندم القوم على ما كان منهم واعتذروا إليه . وقالوا : نبني صومعتك من ذهب أو فضة فأبى عليهم ، وبناها كما كانت ، وأما الصبي الآخر فإن امرأة كان معها صبي لها ترضعه إذ مر بها شاب جميل ذو شارة حسنة فقالت : اللهم اجعل ابني مثل هذا فقال الصبي : اللهم لا تجعلني مثله ثم مرت بها امرأة ذكروا أنها سرقت وزنت وعوقبت فقالت : اللهم لا تجعل ابني مثل هذه ، فقال الصبي : اللهم اجعلني مثلها . فقالت له أمه في ذلك : فقال إن الشاب كان جبارا من الجبابرة فكرهت أن أكون مثله وإن هذه قيل إنها زنت ولم تزن وقيل إنها سرقت ولم تسرق وهي تقول حسبي الله " الخبر الثاني : وهو خبر الغار وهو مشهور في «الصحاح » عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم فأواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل وسدت عليهم باب الغار فقالوا : والله لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم ، فقال رجل منهم : كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما فناما في ظل شجرة يوما فلم أبرح عنهما وحلبت لهما غبوقهما فجئتهما به فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أغبق قبلهما فقمت والقدح في يدي انتظر استيقاظهما حتى ظهر الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت هذا ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت انفراجا لا يستطيعون الخروج منه ، ثم قال الآخر : كانت لي ابنة عم وكانت أحب الناس إلي فراودتها عن نفسها فامتنعت حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني وأعطيتها مالا عظيما على أن تخلي بيني وبين نفسها فلما قدرت عليها قالت : لا يجوز لك أن تفك الخاتم إلا بحقه ! فتحرجت من ذلك العمل وتركتها وتركت المال معها اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال الثالث : اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجورهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين وقال : يا عبد الله أد إلي أجرتي ، فقلت له : كل ما ترى من أجرتك من الإبل والغنم والرقيق فقال : يا عبد الله أتستهزئ بي ؟ فقلت : إني لا أستهزئ بك فأخذ ذلك كله اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه ، فانفرجت الصخرة عن الغار فخرجوا يمشون "

وهذا حديث حسن صحيح متفق عليه . الخبر الثالث : قوله صلى الله عليه وسلم : " رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره " ولم يفرق بين شيء وشيء فيما يقسم به على الله . الخبر الرابع : روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : " بينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها فالتفتت إليه البقرة فقالت : إني لم أخلق لهذا ، وإنما خلقت للحرث فقال الناس سبحان الله بقرة تتكلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما " الخبر الخامس : عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بينما رجل يسمع رعدا أو صوتا في السحاب : أن اسق حديقة فلان ، قال فعدوت إلى تلك الحديقة فإذا رجل قائم فيها فقلت له ما اسمك ؟ قال : فلان بن فلان بن فلان قلت : فما تصنع بحديقتك هذه إذا صرمتها ؟ قال : ولم تسأل عن ذلك ؟ قلت : لأني سمعت صوتا في السحاب أن اسق حديقة فلان ، قال : أما إذ قلت فإني أجعلها أثلاثا فأجعل لنفسي وأهلي ثلثا وأجعل للمساكين وابن السبيل ثلثا وأنفق عليها ثلثا " «أما الآثار » فلنبدأ بما نقل أنه ظهر عن الخلفاء الراشدين من الكرامات ثم بما ظهر عن سائر الصحابة ، أما أبو بكر رضي الله عنه فمن كراماته أنه لما حملت جنازته إلى باب قبر النبي صلى الله عليه وسلم ونودي السلام عليك يا رسول الله هذا أبو بكر بالباب فإذا الباب قد انفتح وإذا بهاتف يهتف من القبر ادخلوا الحبيب إلى الحبيب ، وأما عمر رضي الله عنه فقد ظهرت أنواع كثيرة من كراماته وأحدها ما روي أنه بعث جيشا وأمر عليهم رجلا يدعى سارية بن الحصين فبينا عمر يوم الجمعة يخطب جعل يصيح في خطبته وهو على المنبر : يا سارية الجبل الجبل قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فكتبت تاريخ تلك الكلمة فقدم رسول مقدم الجيش فقال : يا أمير المؤمنين غزونا يوم الجمعة في وقت الخطبة فهزمونا فإذا بإنسان يصيح يا سارية الجبل الجبل فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزم الله الكفار وظفرنا بالغنائم العظيمة ببركة ذلك الصوت قلت سمعت بعض المذكرين قال : كان ذلك معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه قال لأبي بكر وعمر أنتما مني بمنزلة السمع والبصر فلما كان عمر بمنزلة البصر لمحمد صلى الله عليه وسلم ، لا جرم قدر على أن يرى من ذلك البعد العظيم .

الثاني : روي أن نيل مصر كان في الجاهلية يقف في كل سنة مرة واحدة وكان لا يجري حتى يلقى فيه جارية واحدة حسناء ، فلما جاء الإسلام كتب عمرو بن العاص بهذه الواقعة إلى عمر ، فكتب عمر على خزفة : أيها النيل إن كنت تجري بأمر الله فاجر ، وإن كنت تجري بأمرك فلا حاجة بنا إليك ! فألقيت تلك الخزفة في النيل فجرى ولم يقف بعد ذلك . الثالث : وقعت الزلزلة في المدينة فضرب عمر الدرة على الأرض وقال : اسكني بإذن الله فسكنت وما حدثت الزلزلة بالمدينة بعد ذلك . الرابع : وقعت النار في بعض دور المدينة فكتب عمر على خزفة : يا نار اسكني بإذن الله فألقوها في النار فانطفأت في الحال . الخامس : روى أن رسول ملك الروم جاء إلى عمر فطلب داره فظن أن داره مثل قصور الملوك فقالوا : ليس له ذلك ، وإنما هو في الصحراء يضرب اللبن فلما ذهب إلى الصحراء رأى عمر رضي الله عنه وضع درته تحت رأسه ونام على التراب ، فعجب الرسول من ذلك وقال : إن أهل الشرق والغرب يخافون من هذا الإنسان وهو على هذه الصفة ! ثم قال في نفسه : إني وجدته خاليا فأقتله وأخلص الناس منه . فلما رفع السيف أخرج الله من الأرض أسدين فقصداه فخاف وألقى السيف من يده وانتبه عمر ولم ير شيئا فسأله عن الحال فذكر له الواقعة وأسلم . وأقول هذه الوقائع رويت بالآحاد ، وههنا ما هو معلوم بالتواتر وهو أنه مع بعده عن زينة الدنيا واحترازه عن التكلفات والتهويلات ساس الشرق والغرب وقلب الممالك والدول لو نظرت في كتب التواريخ علمت أنه لم يتفق لأحد من أول عهد آدم إلى الآن ما تيسر له فإنه مع غاية بعده عن التكلفات كيف قدر على تلك السياسات ، ولا شك أن هذا من أعظم الكرامات .

وأما عثمان رضي الله عنه فروى أنس قال : سرت في الطريق فرفعت عيني إلى امرأة ثم دخلت على عثمان فقال : ما لي أراكم تدخلون علي وآثار الزنا ظاهرة عليكم ؟ فقلت : أجاء الوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا ولكن فراسة صادقة . الثاني : أنه لما طعن بالسيف فأول قطرة من دمه سقطت وقعت على المصحف على قوله تعالى : { فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } الثالث : أن جهجاها الغفاري انتزع العصا من يد عثمان وكسرها على ركبته فوقعت الأكلة في ركبته . وأما علي كرم الله وجهه فيروي أن واحدا من محبيه سرق وكان عبدا أسود فأتى به إلى علي فقال له : أسرقت ؟ قال نعم . فقطع يده فانصرف من عند علي عليه السلام فلقيه سلمان الفارسي وابن الكرا ، فقال ابن الكرا : من قطع يدك فقال أمير المؤمنين ويعسوب المسلمين وختن الرسول وزوج البتول فقال قطع يدك وتمدحه ؟ فقال : ولم لا أمدحه وقد قطع يدي بحق وخلصني من النار ! فسمع سلمان ذلك فأخبر به عليا فدعا الأسود ووضع يده على ساعده وغطاه بمنديل ودعا بدعوات فسمعنا صوتا من السماء ارفع الرداء عن اليد فرفعناه فإذا اليد قد برأت بإذن الله تعالى وجميل صنعه . أما سائر الصحابة فأحوالهم في هذا الباب كثيرة فنذكر منها شيئا قليلا . الأول : روى محمد بن المنكدر عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها فركبت لوحا من ألواحها فطرحني اللوح في خيسة فيها أسد فخرج الأسد إلي يريدني فقلت : يا أبا الحرث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم ودلني على الطريق ثم همهم فظننت أنه يودعني ورجع . الثاني : روى ثابت عن أنس أن أسيد بن حضير ورجلا آخر من الأنصار تحدثا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة لهما حتى ذهب من الليل زمان ثم خرجا من عنده وكانت الليلة شديدة الظلمة وفي يد كل واحد منهما عصا فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها فلما انفرق بينهما الطريق أضاءت للآخر عصاه فمشى في ضوئها حتى بلغ منزله . الثالث : قالوا لخالد بن الوليد إن في عسكرك من يشرب الخمر فركب فرسه ليلة فطاف بالعسكر فلقي رجلا على فرس ومعه زق خمر ، فقال ما هذا ؟ قال : خل ، فقال خالد : اللهم اجعله خلا . فذهب الرجل إلى أصحابه فقال : أتيتكم بخمر ما شربت العرب مثلها ! فلما فتحوا فإذا هو خل فقالوا : والله ما جئتنا إلا بخل ؟ فقال هذا والله دعاء خالد بن الوليد . الرابع : الواقعة المشهورة وهي أن خالدا بن الوليد أكل كفا من السم على اسم الله وما ضره . الخامس : روي أن ابن عمر كان في بعض أسفاره فلقي جماعة وقفوا على الطريق من خوف السبع فطرد السبع من طريقهم ثم قال : إنما يسلط على ابن آدم ما يخافه ولو أنه لم يخف غير الله لما سلط عليه شيء . السادس : روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي في غزاة فحال بينهم وبين المطلوب قطعة من البحر فدعا باسم الله الأعظم ومشوا على الماء . وفي كتب الصوفية من هذا الباب روايات متجاوزة عن الحد والحصر فمن أرادها طالعها . وأما الدلائل العقلية القطعية على جواز الكرامات فمن وجوه :

الحجة الأولى : أن العبد ولي الله قال الله تعالى : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } والرب ولي العبد قال تعالى : { الله ولي الذين آمنوا } وقال : { وهو يتولى الصالحين } وقال : { إنما وليكم الله ورسوله } وقال : { أنت مولانا } وقال : { ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا } فثبت أن الرب ولي العبد وأن العبد ولي الرب وأيضا الرب حبيب العبد والعبد حبيب الرب قال تعالى : { يحبهم ويحبونه } وقال : { والذين آمنوا أشد حبا لله } وقال : { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } وإذا ثبت هذا فنقول : العبد إذا بلغ في الطاعة إلى حيث يفعل كل ما أمره الله وكل ما فيه رضاه وترك كل ما نهى الله وزجر عنه فكيف يبعد أن يفعل الرب الرحيم الكريم مرة واحدة ما يريده العبد بل هو أولى لأن العبد مع لؤمه وعجزه لما فعل كل ما يريده الله ويأمره به فلأن يفعل الرب الرحيم مرة واحدة ما أراده العبد كان أولى ولهذا قال تعالى : { أوفوا بعهدي أوف بعهدكم } .

الحجة الثانية : لو امتنع إظهار الكرامة لكان ذلك إما لأجل أن الله ليس أهلا لأن يفعل مثل هذا الفعل أو لأجل أن المؤمن ليس أهلا لأن يعطيه الله هذه العطية ، والأول : قدح في قدرة الله وهو كفر ، والثاني : باطل فإن معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه ومحبة الله وطاعاته والمواظبة على ذكر تقديسه وتمجيده وتهليله أشرف من إعطاء رغيف واحد في مفازة أو تسخير حية أو أسد فلما أعطى المعرفة والمحبة والذكر والشكر من غير سؤال فلأن يعطيه رغيفا في مفازة فأي بعد فيه ؟

الحجة الثالثة : قال النبي صلى الله عليه وسلم حكاية عن رب العزة : « ما تقرب عبد إلي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا وقلبا ويدا ورجلا بي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يمشي »

وهذا الخبر يدل على أنه لم يبق في سمعهم نصيب لغير الله ولا في بصرهم ولا في سائر أعضائهم إذ لو بقي هناك نصيب لغير الله لما قال أنا سمعه وبصره . إذا ثبت هذا فنقول : لا شك أن هذا المقام أشرف من تسخير الحية والسبع وإعطاء الرغيف وعنقود من العنب أو شربة من الماء فلما أوصل الله برحمته عبده إلى هذه الدرجات العالية فأي بعد في أن يعطيه رغيفا واحدا أو شربة ماء في مفازة .

الحجة الرابعة : قال عليه السلام حاكيا عن رب العزة : « من آذى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة » فجعل إيذاء الولي قائما مقام إيذائه وهذا قريب من قوله تعالى : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } وقال : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا } وقال : { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة } فجعل بيعة محمد صلى الله عليه وسلم بيعة مع الله ورضاء محمد صلى الله عليه وسلم رضاء الله وإيذاء محمد صلى الله عليه وسلم إيذاء الله فلا جرم كانت درجة محمد صلى الله عليه وسلم أعلى الدرجات إلى أبلغ الغايات فكذا ههنا لما قال : « من آذى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة » دل ذلك على أنه تعالى جعل إيذاء الولي قائما مقام إيذاء نفسه ويتأكد هذا بالخبر المشهور أنه تعالى يقول : « يوم القيامة مرضت فلم تعدني ، استسقيتك فما سقيتني ، استطعمتك فما أطعمتني فيقول يا رب كيف أفعل هذا وأنت رب العالمين ! فيقول إن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدت ذلك عندي » وكذا في السقي والإطعام فدلت هذه الأخبار على أن أولياء الله يبلغون إلى هذه الدرجات فأي بعد في أن يعطيه الله كسرة خبز أو شربة ماء أو يسخر له كلبا أو وردا .

الحجة الخامسة : أنا نشاهد في العرف أن من خصه الملك بالخدمة الخاصة وأذن له في الدخول عليه في مجلس الأنس فقد يخصه أيضا بأن يقدره على ما لا يقدر عليه غيره ، بل العقل السليم يشهد بأنه متى حصل ذلك القرب فإنه يتبعه هذه المناصب فجعل القرب أصلا والمنصب تبعا وأعظم الملوك هو رب العالمين فإذا شرف عبدا بأنه أوصله إلى عتبات خدمته ودرجات كرامته وأوقفه على أسرار معرفته ورفع حجب البعد بينه وبين نفسه وأجلسه على بساط قربه فأي بعد في أن يظهر بعض تلك الكرامات في هذا العالم مع أن كل هذا العالم بالنسبة إلى ذرة من تلك السعادات الروحانية والمعارف الربانية كالعدم المحض .

الحجة السادسة : لا شك أن المتولي للأفعال هو الروح لا البدن ولا شك أن معرفة الله تعالى للروح كالروح للبدن على ما قررناه في تفسير قوله تعالى :

{ ينزل الملائكة بالروح من أمره } وقال عليه السلام : « أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني » ولهذا المعنى نرى أن كل من كان أكثر علما بأحوال عالم الغيب كان أقوى قلبا وأقل ضعفا ولهذا قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة ربانية . وذلك لأن عليا كرم الله وجهه في ذلك الوقت انقطع نظره عن عالم الأجساد وأشرقت الملائكة بأنوار عالم الكبرياء فتقوى روحه وتشبه بجواهر الأرواح الملكية وتلألأت فيه أضواء عالم القدس والعظمة فلا جرم حصل له من القدرة ما قدر بها على ما لم يقدر عليه غيره وكذلك العبد إذا واظب على الطاعات بلغ إلى المقام الذي يقول الله كنت له سمعا وبصرا فإذا صار نور جلال الله سمعا له سمع القريب والبعيد وإذا صار ذلك النور بصرا له رأى القريب والبعيد وإذا صار ذلك النور يدا له قدر على التصرف في الصعب والسهل والبعيد والقريب .

الحجة السابعة : وهي مبنية على القوانين العقلية الحكمية ، وهي أنا قد بينا أن جوهر الروح ليس من جنس الأجسام الكائنة الفاسدة المتعرضة للتفرق والتمزق ، بل هو من جنس جواهر الملائكة وسكان عالم السماوات ونوع المقدسين المطهرين إلا أنه لما تعلق بهذا البدن واستغرق في تدبيره صار في ذلك الاستغراق إلى حيث نسي الوطن الأول والمسكن المتقدم وصار بالكلية متشبها بهذا الجسم الفاسد فضعفت قوته وذهبت مكنته ولم يقدر على شيء من الأفعال ، أما إذا استأنست بمعرفة الله ومحبته وقل انغماسها في تدبير هذا البدن ، وأشرقت عليها أنوار الأرواح السماوية العرشية المقدسة ، وفاضت عليها من تلك الأنوار قويت على التصرف في أجسام هذا العالم مثل قوة الأرواح الفلكية على هذه الأعمال ، وذلك هو الكرامات ، وفيه دقيقة أخرى وهي أن مذهبنا أن الأرواح البشرية مختلفة بالماهية ففيها القوية والضعيفة ، وفيها النورانية والكدرة ، وفيها الحرة والنذلة والأرواح الفلكية أيضا كذلك ، ألا ترى إلى جبريل كيف قال الله في وصفه : { إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين } وقال في قوم آخرين من الملائكة : { وكم من ملك في السماوات لا تغنى شفاعتهم شيئا } فكذا ههنا فإذا اتفق في نفس من النفوس كونها قوية ، القوة القدسية العنصرية مشرقة الجوهر علوية الطبيعة ، ثم انضاف إليها أنواع الرياضات التي تزيل عن وجهها غبرة عالم الكون والفساد أشرقت وتلألأت وقويت على التصرف في هيولي عالم الكون والفساد بإعانة نور معرفة الحضرة الصمدية وتقوية أضواء حضرة الجلال والعزة .

ولنقبض ههنا عنان البيان فإن وراءها أسرارا دقيقة وأحوالا عميقة من لم يصل إليها لم يصدق بها ، ونسأل الله الإعانة على إدراك الخيرات ، واحتج المنكرون للكرامات بوجوه . الشبهة الأولى : وهي التي عليها يعولون وبها يضلون أن ظهور الخارق للعادة جعله الله دليلا على النبوة فلو حصل لغير نبي لبطلت هذه الدلالة لأن حصول الدليل مع عدم المدلول يقدح في كونه دليلا ، وذلك باطل . والشبهة الثانية : تمسكوا بقوله عليه السلام حكاية عن الله سبحانه : " لن يتقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم " قالوا : هذا يدل على أن التقرب إلى الله بأداء الفرائض أعظم من التقرب إليه بأداء النوافل ، ثم إن المتقرب إليه بأداء الفرائض لا يحصل له شيء من الكرامات فالمتقرب إليه بأداء النوافل أولى أن لا يحصل له ذلك . الشبهة الثالثة : تمسكوا بقوله تعالى : { وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس } والقول بأن الولي ينتقل من بلد إلى بلد بعيد- لا على الوجه- طعن في هذه الآية ، وأيضا أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يصل من مكة إلى المدينة إلا في أيام كثيرة مع التعب الشديد فكيف يعقل أن يقال أن الولي ينتقل من بلد نفسه إلى الحج في يوم واحد . الشبهة الرابعة : قالوا : هذا الولي الذي تظهر عليه الكرامات إذا ادعى على إنسان درهما فهل نطالبه بالبينة أم لا ؟ فإن طالبناه بالبينة كان عبثا لأن ظهور الكرامات عليه يدل على أنه لا يكذب ، ومع قيام الدليل القاطع كيف يطلب الدليل الظني ، وإن لم نطالبه بها فقد تركنا قوله عليه السلام : " البينة على المدعي " فهذا يدل على أن القول بالكرامة باطل . الشبهة الخامسة : إذا جاز ظهور الكرامة على بعض الأولياء جاز ظهورها على الباقين ، فإذا كثرت الكرامات حتى خرقت العادة جرت وفقا للعادة وذلك يقدح في المعجزة والكرامة . «والجواب » عن الشبهة الأولى : أن الناس اختلفوا في أنه هل يجوز للولي دعوى الولاية ؟ فقال قوم من المحققين : إن ذلك لا يجوز ، فعلى هذا القول يكون الفرق بين المعجزات والكرامات أن المعجزة تكون مسبوقة بدعوى النبوة والكرامة لا تكون مسبوقة بدعوى الولاية ، والسبب في هذا الفرق أن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا إلى الخلق ليصيروا دعاة للخلق من الكفر إلى الإيمان ومن المعصية إلى الطاعة فلو لم تظهر دعوى النبوة لم يؤمنوا به وإذا لم يؤمنوا به بقوا على الكفر وإذا ادعوا النبوة وأظهروا المعجزة آمن القوم بهم فإقدام الأنبياء على دعوى النبوة ليس الغرض منه تعظيم النفس بل المقصود منه إظهار الشفقة على الخلق حتى ينتقلوا من الكفر إلى الإيمان ، أما ثبوت الولاية للولي فليس الجهل بها كفرا ولا معرفتها إيمانا فكان دعوى الولاية طلبا لشهوة النفس ، فعلمنا أن النبي يجب عليه إظهار دعوى النبوة والولي لا يجوز له دعوى الولاية فظهر الفرق ؛ أما الذين قالوا : يجوز للولي دعوى الولاية فقد ذكروا الفرق بين المعجزة والكرامة من وجوه : الأول : أن ظهور الفعل الخارق للعادة يدل على كون ذلك الإنسان مبرءا عن المعصية ، ثم إن اقترن هذا الفعل بادعاء النبوة دل على كونه صادقا في دعوى النبوة ، وإن اقترن بادعاء الولاية دل على كونه صادقا في دعوى الولاية ، وبهذا الطريق لا يكون ظهور الكرامة على الأولياء طعنا في معجزات الأنبياء عليهم السلام .

الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعي المعجزة ويقطع بها ، والولي إذا ادعى الكرامة لا يقطع بها لأن المعجزة يجب ظهورها ، أما الكرامة ( ف ) لا يجب ظهورها . الثالث : أنه يجب نفي المعارضة عن المعجزة ولا يجب نفيها عن الكرامة . الرابع : أنا لا نجوز ظهور الكرامة على الولي عند ادعاء الولاية إلا إذا أقر عند تلك الدعوى بكونه على دين ذلك النبي ومتى كان الأمر كذلك صارت تلك الكرامة معجزة لذلك النبي ومؤكدة لرسالته وبهذا التقدير لا يكون ظهور الكرامة طاعنا في نبوة النبي بل يصير مقويا لها . «والجواب » عن الشبهة الثانية : أن التقرب بالفرائض وحدها أكمل من التقرب بالنوافل ؛ أما الولي فإنما يكون وليا إذا كان آتيا بالفرائض والنوافل ، ولا شك أنه يكون حاله أتم من حال من اقتصر على الفرائض فظهر الفرق . «والجواب » على الشبهة الثالثة : أن قوله تعالى : { وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس } محمول على المعهود المتعارف ، وكرامات الأولياء أحوال نادرة فتصير كالمستثناة عن ذلك العموم . وهذا هو «الجواب » عن الشبهة الرابعة وهي التمسك بقوله عليه السلام البينة على المدعي . «والجواب » عن الشبهة الخامسة أن المطيعين فيهم قلة كما قال تعالى : { وقليل من عبادي الشكور } وكما قال إبليس : { ولا تجد أكثرهم شاكرين } وإذا حصلت القلة فيهم لم يكن ما يظهر عليهم من الكرامات في الأوقات النادرة قادحا في كونها على خلاف العادة .

المسألة السابعة : في الفرق بين الكرامات والاستدراج ، اعلم أن من أراد شيئا فأعطاه الله مراده لم يدل ذلك على كون ذلك العبد وجيها عند الله تعالى سواء كانت العطية على وفق العادة أو لم تكن على وفق العادة بل قد يكون ذلك إكراما للعبد وقد يكون استدراجا له ولهذا الاستدراج أسماء كثيرة من القرآن ، أحدها : الاستدراج قال الله تعالى : { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } ومعنى الاستدراج أن يعطيه الله كل ما يريده في الدنيا ليزداد غيه وضلاله وجهله وعناده فيزداد كل يوم بعدا من الله وتحقيقه أنه ثبت في العلوم العقلية أن تكرر الأفعال سبب لحصول الملكة الراسخة فإذا مال قلب العبد إلى الدنيا ثم أعطاه الله مراده فحينئذ يصل الطالب إلى المطلوب وذلك يوجب حصول اللذة وحصول اللذة يزيد في الميل وحصول الميل يوجب مزيد السعي ولا يزال يتأدى كل واحد منهما إلى الآخر وتتقوى كل واحدة من هاتين الحالتين درجة فدرجة ومعلوم أن الاشتغال بهذه اللذات العاجلة مانع عن مقامات المكاشفات ودرجات المعارف فلا جرم يزداد بعده عن الله درجة فدرجة إلى أن يتكامل فهذا هو الاستدراج .

وثانيها : المكر قال تعالى : { فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } وقال : { ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون } . وثالثها : الكيد قال تعالى : { يخادعون الله وهو خادعهم } وقال : { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم } . ورابعها : الإملاء قال تعالى : { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرا لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما } . وخامسها : الإهلاك قال تعالى : { حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم } وقال في فرعون : { واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون * فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم } فظهر بهذه الآيات أن الإيصال إلى المرادات لا يدل على كمال الدرجات والفوز بالخيرات بقي علينا أن نذكر الفرق بين الكرامات وبين الاستدراجات . فنقول : إن صاحب الكرامة لا يستأنس بتلك الكرامة بل عند ظهور الكرامة يصير خوفه من الله تعالى أشد وحذره من قهر الله أقوى فإنه يخاف أن يكون ذلك من باب الاستدراج ، وأما صاحب الاستدراج فإنه يستأنس بذلك الذي يظهر عليه ويظن أنه إنما وجد تلك الكرامة لأنه كان مستحقا لها وحينئذ يستحقر غيره ويتكبر عليه ويحصل له أمن من مكر الله وعقابه ولا يخاف سوء العاقبة فإذا ظهر شيء من هذه الأحوال على صاحب الكرامة دل ذلك على أنها كانت استدراجا لا كرامة . فلهذا المعنى قال المحققون : أكثر ما اتفق من الانقطاع عن حضرة الله إنما وقع في مقام الكرامات فلا جرم ترى المحققين يخافون من الكرامات كما يخافون من أنواع البلاء . والذي يدل على أن الاستئناس بالكرامة قاطع عن الطريق وجوه :

الحجة الأولى : أن هذا الغرور إنما يحصل إذا اعتقد الرجل أنه مستحق لهذه الكرامة لأن بتقدير أن لا يكون مستحقا لها امتنع حصول الفرح بها بل يجب أن يكون فرحه بكرم المولى وفضله أكبر من فرحه بنفسه فثبت أن الفرح بالكرامة أكثر من فرحه بنفسه وثبت أن الفرح بالكرامة لا يحصل إلا إذا اعتقد أنه أهل ومستحق لها وهذا عين الجهل لأن الملائكة قالوا :

{ لا علم لنا إلا ما علمتنا } وقال تعالى : { وما قدروا الله حق قدره } وأيضا قد ثبت بالبرهان اليقيني أنه لا حق لأحد من الخلق على الحق فكيف يحصل ظن الاستحقاق .

الحجة الثانية : أن الكرامات أشياء مغايرة للحق سبحانه فالفرح بالكرامة فرح بغير الحق والفرح بغير الحق حجاب عن الحق والمحجوب عن الحق كيف يليق به الفرح والسرور .

الحجة الثالثة : أن من اعتقد في نفسه أنه صار مستحقا للكرامة بسبب عمله حصل لعمله وقع عظيم في قلبه ومن كان لعمله وقع عنده كان جاهلا ولو عرف ربه لعلم أن كل طاعات الخلق في جنب جلال الله تقصير وكل شكرهم في جنب آلائه ونعمائه قصور وكل معارفهم وعلومهم فهي في مقابلة عزته حيرة وجهل . رأيت في بعض الكتب أنه قرأ المقرئ في مجلس الأستاذ أبي علي الدقاق قوله تعالى : { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } فقال علامة أن الحق رفع عملك أن لا يبقى ( ذكره ) عندك فإن بقي عملك في نظرك فهو مدفوع وإن لم يبق معك فهو مرفوع مقبول .

الحجة الرابعة : أن صاحب الكرامة إنما وجد الكرامة لإظهار الذل والتواضع في حضرة الله فإذا ترفع وتجبر وتكبر بسبب تلك الكرامات فقد بطل ما به وصل إلى الكرامات فهذا طريق ثبوته يؤديه إلى عدمه فكان مردودا ولهذا المعنى لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم مناقب نفسه وفضائلها كان يقول في آخر كل واحد منها ولا فخر يعني لا أفتخر بهذه الكرامات وإنما أفتخر بالمكرم والمعطي .

الحجة الخامسة : أن ظاهر الكرامات في حق إبليس وفي حق بلعام كان عظيما ثم قيل لإبليس وكان من الكافرين وقيل لبلعام فمثله كمثل الكلب وقيل لعلماء بني إسرائيل : { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا } وقيل أيضا في حقهم : { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } فبين أن وقوعهم في الظلمات والضلالات كان بسبب فرحهم بما أوتوا من العلم والزهد .

الحجة السادسة : أن الكرامة غير المكرم وكل ما هو غير المكرم فهو ذليل وكل من تعزز بالذليل فهو ذليل ، ولهذا المعنى قال الخليل صلوات الله عليه : أما إليك فلا ، فالاستغناء بالفقير فقر والتقوى بالعاجز عجز والاستكمال بالناقص نقصان والفرح بالمحدث بله والإقبال بالكلية على الحق خلاص ، فثبت أن الفقير إذا ابتهج بالكرامة سقط عن درجته . أما إذا كان لا يشاهد في الكرامات إلا المكرم ولا في الإعزاز إلا المعز ولا في الخلق إلا الخالق فهناك يحق الوصول .

الحجة السابعة : أن الافتخار بالنفس وبصفاتها من صفات إبليس وفرعون ، قال إبليس :{ أنا خير منه } وقال فرعون : { أليس لي ملك مصر } وكل من ادعى الإلهية أو النبوة بالكذب فليس له غرض إلا تزيين النفس وتقوية الحرص والعجب ولهذا قال عليه السلام : " ثلاث مهلكات ، وختمها بقوله : وإعجاب المرء بنفسه "

الحجة الثامنة : أنه تعالى قال : { فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين } { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } فلما أعطاه الله العطية الكبرى أمره بالاشتغال بخدمة المعطى لا بالفرح بالعطية .

الحجة التاسعة : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خيره الله بين أن يكون ملكا نبيا وبين أن يكون عبدا نبيا ترك الملك ، ولا شك أن وجدان الملك الذي يعم المشرق والمغرب من الكرامات بل من المعجزات ثم إنه صلى الله عليه وسلم ترك ذلك الملك واختار العبودية لأنه إذا كان عبدا كان افتخاره بمولاه وإذا كان ملكا كان افتخاره بعبيده ، فلما اختار العبودية لا جرم جعل السنة التي في التحيات التي رواها ابن مسعود «وأشهد أن محمدا عبده ورسوله » وقيل في المعراج : { سبحان الذي أسرى بعبده } .

الحجة العاشرة : أن محب المولى غير ، ومحب ما للمولى غير ، فمن أحب المولى لم يفرح بغير المولى ولم يستأنس بغير المولى ، فالاستئناس بغير المولى والفرح بغيره يدل على أنه ما كان محبا للمولى بل كان محبا لنصيب نفسه ونصيب النفس إنما يطلب للنفس فهذا الشخص ما أحب إلا نفسه . وما كان المولى محبوبا له بل جعل المولى وسيلة إلى تحصيل ذلك المطلوب . والصنم الأكبر هو النفس كما قال تعالى : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } فهذا الإنسان عابد للصنم الأكبر حتى أن المحققين قالوا لا مضرة في عبادة شيء من الأصنام مثل المضرة الحاصلة في عبادة النفس ولا خوف من عبادة الأصنام كالخوف من الفرح بالكرامات .

الحجة الحادية عشرة : قوله تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه } وهذا يدل على أن من لم يتق الله ولم يتوكل عليه لم يحصل له شيء من هذه الأفعال والأحوال .

المسألة الثامنة : في أن الولي هل يعرف كونه وليا ، قال الأستاذ أبو بكر بن فورك لا يجوز وقال الأستاذ أبو علي الدقاق وتلميذه أبو القاسم القشيري يجوز ، وحجة المانعين وجوه :

الحجة الأولى : لو عرف الرجل كونه وليا لحصل له الأمن بدليل قوله تعالى : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } لكن حصول الأمن غير جائز ويدل عليه وجوه : أحدها : قوله مالي : { فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } واليأس أيضا غير جائز لقوله تعالى : { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } ولقوله تعالى : { ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون } والمعنى فيه أن الأمن لا يحصل إلا عند اعتقاد العجز ، واليأس لا يحصل إلا عند اعتقاد البخل واعتقاد العجز والبخل في حق الله كفر ، فلا جرم كان حصول الأمن والقنوط كفرا . الثاني : أن الطاعات وإن كثرت إلا أن قهر الحق أعظم ومع كون القهر غالبا لا يحصل الأمن . الثالث : أن الأمن يقتضي زوال العبودية وترك الخدمة والعبودية يوجب العداوة والأمن يقتضي ترك الخوف . الرابع : أنه تعالى وصف المخلصين بقوله : { ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين } قيل رغبا في ثوابنا ، ورهبا من عقابنا . وقيل : رغبا في فضلنا ، ورهبا من عدلنا . وقيل رغبا في وصالنا ، ورهبا من فراقنا . والأحسن أن يقال رغبا فينا ، ورهبا منا .

الحجة الثانية : على أن الولي لا يعرف كونه وليا ، أن الولي إنما يصير وليا لأجل أن الحق يحبه لا لأجل أنه يحب الحق ، وكذلك القول في العدو ، ثم إن محبة الحق وعداوته سران لا يطلع عليهما أحد فطاعات العباد ومعاصيهم لا تؤثر في محبة الحق وعداوته لأن الطاعات والمعاصي محدثة ، وصفات الحق قديمة غير متناهية ، والمحدث المتناهي لا يصير غالبا للقديم غير المتناهي . وعلى هذا التقدير فربما كان العبد في الحال في عين المعصية إلا أن نصيبه من الأزل عين المحبة . وربما كان العبد في الحال في عين الطاعة ولكن نصيبه من الأزل عين العداوة وتمام التحقيق أن محبته وعداوته صفة ، وصفة الحق غير معللة ، ومن كانت محبته لا لعلة ، فإنه يمتنع أن يصير عدوا بعلة المعصية ، ومن كانت عداوته لا لعلة يمتنع أن يصير محبا لعلة الطاعة ، ولما كانت محبة الحق وعداوته سرين لا يطلع عليهما لا جرم قال عيسى عليه السلام : { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب }

الحجة الثالثة : على أن الولي لا يعرف كونه وليا ؛ أن الحكم بكونه وليا وبكونه من أهل الثواب والجنة يتوقف على الخاتمة ، والدليل عليه قوله تعالى : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } ولم يقل من عمل حسنة فله عشر أمثالها ، وهذا يدل على أن استحقاق الثواب مستفاد من الخاتمة لا من أول العمل ؛ والذي يؤكد ذلك أنه لو مضى عمره في الكفر ثم أسلم في آخر الأمر كان من أهل الثواب وبالضد ، وهذا دليل على أن العبرة بالخاتمة لا بأول العمل ، ولهذا قال تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } فثبت أن العبرة في الولاية والعداوة وكونه من أهل الثواب أو من أهل العقاب بالخاتمة ، فظهر أن الخاتمة غير معلومة لأحد ، فوجب القطع بأن الولي لا يعلم كونه وليا ، أما الذين قالوا إن الولي قد يعرف كونه وليا فقد احتجوا على صحة قولهم بأن الولاية لها ركنان . أحدهما : كونه في الظاهر منقادا للشريعة . الثاني : كونه في الباطن مستغرقا في نور الحقيقة ، فإذا حصل الأمران وعرف الإنسان حصولهما عرف لا محالة كونه وليا ، أما الانقياد في الظاهر للشريعة فظاهر ، وأما استغراق الباطن في نور الحقيقة فهو أن يكون فرحه بطاعة الله واستئناسه بذكر الله ، وأن لا يكون له استقرار مع شيء سوى الله . والجواب : أن تداخل الأغلاط في هذا الباب كثيرة غامضة والقضاء عسر ، والتجربة خطر ، والجزم غرور . ودون الوصول إلى عالم الربوبية أستار ، تارة من النيران ، وأخرى من الأنوار ، والله العالم بحقائق الأسرار ، ولنرجع إلى التفسير .