معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجۡنَ فَتَيَانِۖ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡرٗاۖ وَقَالَ ٱلۡأٓخَرُ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَحۡمِلُ فَوۡقَ رَأۡسِي خُبۡزٗا تَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِنۡهُۖ نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِيلِهِۦٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (36)

قوله تعالى : { ودخل معه السجن فتيان } ، وهما غلامان كانا للريان بن الوليد بن شروان العمليق ملك مصر الأكبر ، أحدهما : خبازه وصاحب طعامه ، والآخر : ساقيه وصاحب شرابه . غضب الملك عليهما فحبسهما . وكان السبب فيه : أن جماعة من أهل مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله ، فضمنوا لهذين مالا ، ليسما الملك في طعامه وشرابه فأجاباهم ، ثم إن الساقي نكل عنه ، وقبل الخباز الرشوة فسم الطعام ، فلما أحضر الطعام والشراب . قال الساقي : لا تأكل أيها الملك فإن الطعام مسموم ، وقال الخباز لا تشرب فإن الشراب مسموم . فقال الملك للساقي : اشرب فشربه فلم يضره ، وقال للخباز : كل من طعامك ، فأبى فجرب ذلك الطعام على دابة فأكلته فهلكت ، فأمر الملك بحبسهما . وكان يوسف حين دخل السجن جعل ينشر علمه ويقول إني أعبر الأحلام ، فقال أحد الفتيين لصاحبه : هلم فلنجرب هذا العبد العبراني ، فتراءيا له فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا ، قال ابن مسعود ما رأيا شيئا وإنما تحالما ليجربا يوسف . وقال قوم : بل كانا رأيا حقيقة ، فرآهما يوسف وهما مهمومان ، فسألهما عن شأنهما ، فذكرا أنهما صاحبا الملك ، حبسهما ، وقد رأيا رؤيا غمتهما . فقال يوسف : قصا علي ما رأيتما ، فقصا عليه . { قال أحدهما } ، وهو صاحب الشراب ، { إني أراني أعصر خمرا } ، أي : عنبا ، سمي العنب خمرا باسم ما يؤول إليه ، كما يقال : فلان يطبخ الآجر أي يطبخ اللبن للآجر . وقيل : الخمر العنب بلغة عمان ، وذلك أنه قال : إني رأيت كأني في بستان ، فإذا بأصل حبلة عليها ثلاث عناقيد من عنب فجنيتها وكان كأس الملك بيدي فعصرتها فيه ، وسقيت الملك فشربه . { وقال الآخر } ، وهو الخباز : { إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه } ، وذلك أنه قال : إني رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة وسباع الطير تنهش منه . { نبئنا بتأويله } ، أخبرنا بتفسيره وتعبيره وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا . { إنا نراك من المحسنين } ، أي : العالمين بعبارة الرؤيا ، والإحسان بمعنى العلم . وروي أن الضحاك بن مزاحم سئل عن قوله : { إنا نراك من المحسنين } ، ما كان إحسانه ؟ قال : كان إذا مرض إنسان في السجن عاده وقام عليه ، وإذا ضاق عليه المجلس وسع له ، وإذا احتاج إلى شيء جمع له شيئا ، وكان مع هذا يجتهد في العبادة ، ويقوم الليل كله للصلاة . وقيل : إنه لما دخل السجن وجد فيه قوما قد اشتد بلاؤهم وانقطع رجاؤهم وطال حزنهم ، فجعل يسليهم ويقول : أبشروا واصبروا تؤجروا ، فيقولون : بارك الله فيك يا فتى ما أحسن وجهك وخلقك وحديثك ، لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى ؟ قال : أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم ، فقال له عامل السجن : يا فتى والله لو استطعت لخليت سبيلك ، ولكن سأحسن جوارك فتمكن في أي بيوت السجن حيث شئت . وروي أن الفتيين لما رأيا يوسف قالا له : لقد أحببناك حين رأيناك ، فقال لهما يوسف : أنشدكما بالله أن لا تحباني ، فوالله ما أ حبني أحد قط إلا دخل علي من حبه بلاء ، لقد أحبتني عمتي فدخل علي بلاء ، ثم أحببني أبي فألقيت في الجب ، وأحبتني امرأة العزيز فحبست . فلما قصا عليه الرؤيا كره يوسف أن يعبر لهما ما سألاه لما علم في ذلك من المكروه على أحدهما ، فأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره في إظهار المعجزة والدعاء إلى التوحيد .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجۡنَ فَتَيَانِۖ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡرٗاۖ وَقَالَ ٱلۡأٓخَرُ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَحۡمِلُ فَوۡقَ رَأۡسِي خُبۡزٗا تَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِنۡهُۖ نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِيلِهِۦٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (36)

ثم بين - سبحانه - جانبا من أحواله بعد أن دخل السجن فقال : { وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ . . }

والفتيان : تثنية فتى ، وهو من جاوز الحلم ودخل في سن الشباب .

قالوا : وهذان الفتيان كان أحدهما : خبازا للملك وصاحب طعامه وكان الثانى : ساقيا للملك ، وصاحب شرابه .

وقد أدخلهما الملك السجن غضبا عليهما ، لأنهما اتهما بخيانته .

والجملة الكريمة عطف على كلام محذوف يفهم من السياق ، والتقدير بعد أن بدا للعزيز وحاشيته سجن يوسف .

نفذا ما بدا لهم فسجنوه ، ودخل معه في السجن فتيان من خدم الملك " قال أحدهما " وهو ساقى الملك ليوسف - عليه السلام - :

{ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً } أى : إنى رأيت فيما يرى النائم . إنى عصرا عنبا ليصير خمرا . سماه بما يؤول إليه .

{ وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ } أى : وقال الثانى وهو خباز الملك ، إنى رأيت في المنام أنى أحمل فوق رأسى سلالا بها خبز ، وهذا الخبز تأكل الطير منه وهو فوق رأسى .

والضمير المجرور في قوله : { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } يعود إلى المرئى في المنام أى : أخبرنا بتفسير ما رأيناه في منامنا ، إذ نراك ونعتقدك من القوم الذين يحسنون تأويل الرؤى ، كما أننا نتوسم فيك الخير والصلاح ، لإِحسانك إلى غيرك ، من السجناء الذين أنت واحد منهم .

وقبل أن يبدأ يوسف - عليه السلام - في تأويل رؤياهما ، أخذ يمهد لذلك بأن يعرفهما بنفسه ، وبعقيدته ، ويدعوهما إلى عبادة الله وحده ويقيم لهما الأدلة على ذلك . .

وهذا شأن المصلحين العقلاء المخلصين لعقيدتهم الغيورين على نشرها بين الناس ، إنهم يسوقون لغيرهم من الكلام الحكيم ما يجعل هذا الغير يثق بهم ، ويقبل عليهم ، ويستجيب لهم . .

وهذا ما كان من يوسف - عليه السلام - فقد بدأ في رده عليهما بقوله : { قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا . . } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجۡنَ فَتَيَانِۖ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡرٗاۖ وَقَالَ ٱلۡأٓخَرُ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَحۡمِلُ فَوۡقَ رَأۡسِي خُبۡزٗا تَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِنۡهُۖ نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِيلِهِۦٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (36)

35

( ودخل معه السجن فتيان ) .

سنعرف من بعد أنهما من خدم الملك الخواص . .

ويختصر السياق ما كان من أمر يوسف في السجن ، وما ظهر من صلاحه وإحسانه ، فوجه إليه الأنظار ، وجعله موضع ثقة المساجين ، وفيهم الكثيرون ممن ساقهم سوء الطالع مثله للعمل في القصر أو الحاشية ، فغضب عليهم في نزوة عارضة ، فألقي بهم في السجن . . يختصر السياق هذا كله ليعرض مشهد يوسف في السجن وإلى جواره فتيان أنسا إليه ، فهما يقصان عليه رؤيا رأياها . ويطلبان إليه تعبيرها ، لما يتوسمانه فيه من الطيبة والصلاح وإحسان العبادة والذكر والسلوك :

( قال أحدهما : إني أراني أعصر خمرا ؛ وقال الآخر : إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه . نبئنا بتأويله ، إنا نراك من المحسنين ) .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجۡنَ فَتَيَانِۖ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡرٗاۖ وَقَالَ ٱلۡأٓخَرُ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَحۡمِلُ فَوۡقَ رَأۡسِي خُبۡزٗا تَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِنۡهُۖ نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِيلِهِۦٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (36)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنّيَ أَرَانِيَ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الاَخَرُ إِنّي أَرَانِيَ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } .

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : { ودخل مع يوسف السجن فتيان } ، فدلّ بذلك على متروك قد ترك من الكلام ، وهو : { ثُمّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الاَياتِ لَيَسْجُنُنّهُ حتى حِينٍ } ، فسجنوه ، وأدخلوه السجن ، { ودخل معه فتيان } ، فاستغنى بدليل قوله : { وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيانِ } ، على إدخالهم يوسف السجن من ذكره . وكان الفتيان فيما ذكر : غلامين من غلمان ملك مصر الأكبر : أحدهما : صاحب شرابه ، والآخر : صاحب طعامه . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : فطرح في السجن ، يعني : يوسف ، { ودخل معه السجن فتيان } : غلامان كانا للملك الأكبر : الريان بن الوليد ، كان أحدهما على شرابه ، والآخر على بعض أمره ، في سخطة سخطها عليهما ، اسم أحدهما : مجلث ، والآخر : نبو ، ونبو الذي كان على الشراب .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيانِ } ، قال : كان أحدهما خبازا للملك على طعامه ، وكان الآخر ساقيه على شرابه .

وكان سبب حبس الملك الفتيين ، فيما ذكر ، ما :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : إن الملك غضب على خبازه ، بلغه أنه يريد أن يسمّه ، فحبسه ، وحبس صاحب شرابه ، ظنّ أنه مالأه على ذلك ، فحبسهما جميعا ؛ فذلك قول الله تعالى : { ودخل معه السجن فتيان } .

وقوله : { قالَ أحَدُهُما إنّي أرَانِي أعْصِرُ خَمْرا } ، ذكر أن يوسف صلوات الله وسلامه عليه لما أدخل السجن ، قال لمن فيه من المحبّسين ، وسألوه عن عمله : إني أعبر الرؤيا ، فقال أحد الفتيين اللذين أدخلا معه السجن لصاحبه : تعال فلنجرّبه . كما :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : لما دخل يوسف السجن قال : أنا أعبر الأحلام . فقال أحد الفتيين لصاحبه : هلمّ نجرّب هذا العبد العبرانيّ نتراءى له ، فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا . فقال الخباز : { إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه } ، { وقال الاَخر : إني أراني أعصر خمرا } .

حدثنا ابن وكيع وابن حميد ، قالا : حدثنا جرير ، عن عمارة بن القعقاع ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، قال : ما رأى صاحبا يوسف شيئا ، وإنما كانا تحالُما ليجرّبا علمه .

وقال قوم : إنما سأله الفتيان عن رؤيا كانا رأياها على صحة وحقيقة ، وعلى تصديق منهما ليوسف لعلمه بتعبيرها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما رأى الفتيان يوسف ، قالا : والله يا فتى لقد أحببناك حين رأيناك .

قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أن يوسف قال لهم حين قالا له ذلك : أنشدكما الله أن لا تحباني ، فوالله ما أحبني أحد قطّ إلا دخل عليّ من حبه بلاء ، لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ من حبها بلاء ، ثم لقد أحبني أبي فدخل عليّ بحبه بلاء ، ثم لقد أحبتني زوجة صاحبي هذا فدخل عليّ بحبها إياي بلاء ، فلا تحباني بارك الله فيكما . قال : فأبيا إلا حبه وإلفه حيث كان ، وجعلا يعجبهما ما يريان من فهمه وعقله ، وقد كانا رأيا حين أدخلا السجن رؤيا ، فرأى «مجلث » أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه ، ورأى «نبو » أنه يعصر خمرا ، فاستفتياه فيها ، وقالا له : { نَبّئْنا بتأْوِيلِهِ إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ } ، إن فعلت .

وعنى بقوله : { أعْصِرُ خَمْرا } ، أي : إني أرى في نومي أني أعصر عنبا . وكذلك ذلك في قراءة ابن مسعود فيما ذكر عنه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي سلمة الصائغ ، عن إبراهيم بن بشير الأنصاريّ ، عن محمد بن الحنفية قال في قراءة ابن مسعود : { إنّي أَرَانِي أعْصِرُ عِنَبا } .

وذكر أن ذلك من لغة أهل عُمان ، وأنهم يسمون العنب خمرا .

ذكر من قال ذلك :

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { إنّي أرَاني أعْصِرُ خَمْرا } ، يقول : أعصر عنبا ، وهو بلغة أهل عُمان ، يسمون العنب خمرا .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك : { إنّي أرَاني أعْصِرُ خَمْرا } ، قال : عنبا ، أرض كذا وكذا يدعون العنب خمرا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { إنّي أرَاني أعْصِرُ خَمْرا } ، قال : عنبا .

حُدثت عن المسيب بن شريك ، عن أبي حمزة ، عن عكرمة ، قال : أتاه ، فقال : رأيت فيما يرى النائم أني غرست حَبَلَةً من عنب ، فنبتت ، فخرج فيه عناقيد ، فعصرتهن ، ثم سقيتهنّ الملك ، فقال : تمكث في السجن ثلاثة أيام ، ثم تخرج ، فتسقيه خمرا .

وقوله : { وَقالَ الآخَرُ إني أرَانِي أحْمِلُ فَوْقَ رأسِي خُبْزا تَأْكُلُ الطّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنا بتأْوِيلهِ } ، يقول تعالى ذكره : وقال الآخر من الفتيين : إني أراني في منامي أحمل فوق رأسي خبزا ، يقول : أحمل على رأسي ، فوضعت «فوق » مكان «على » ، { تَأْكُلُ الطّيْرُ مِنْهُ } ، يعني : من الخبز .

وقوله : { نَبّئْنا بتَأْوِيلِهِ } ، يقول : أخبرنا بما يؤول إليه ما أخبرناك أنا رأيناه في منامنا ويرجع إليه . كما :

حدثني الحارث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا يزيد ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { نَبّئْنا بتَأْوِيلِهِ } ، قال : به . قال الحارث ، قال أبو عبيد ، يعني : مجاهد : أن تأويل الشيء : هو الشيء . قال : ومنه تأويل الرؤيا ، إنما هو الشيء الذي تئول إليه .

وقوله : { إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ } ، اختلف أهل التأويل في معنى الإحسان الذي وصف به الفتيان يوسف :

فقال بعضهم : هو أنه كان يعود مريضهم ، ويعزي حزينهم ، وإذا احتاج منهم إنسان جمَع له .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : حدثنا خلف بن خليفة ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم ، قال : كنت جالسا معه ببلخ ، فسئل عن قوله : { نَبّئْنا بَتأْوِيلِهِ إنّا نَرَاكَ مِن المُحْسِنِينَ } ، قال : قيل له : ما كان إحسان يوسف ؟ قال : كان إذا مرض إنسان قام عليه ، وإذا احتاج جمع له ، وإذا ضاق أوسع له .

حدثنا إسحاق ، عن أبي إسرائيل ، قال : حدثنا خلف بن خليفة ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك ، قال : سأل رجل الضحاك عن قوله : { إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ } ، ما كان إحسانه ؟ قال : كان إذا مرض إنسان في السجن قام عليه ، وإذا احتاج جمع له ، وإذا ضاق عليه المكان أوسع له .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، عن قتادة ، قوله : { إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ } ، قال : بلغنا أن إحسانه أنه كان يداوي مريضهم ، ويعزّي حزينهم ، ويجتهد لربه . وقال : لما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوما قد انقطع رجاؤهم واشتدّ بلاؤهم ، فطال حزنهم ، فجعل يقول : أبشروا واصبروا تؤجروا ، إن لهذا أجرا ، إن لهذا ثوابا ، فقالوا : يا فتى ، بارك الله فيك ما أحسن وجهك وأحسن خلقك ! لقد بورك لنا في جوارك ، ما نحبّ أنا كنا في غير هذا منذ حبسنا لما تخبرنا من الأجر والكفّارة والطهارة ، فمن أنت يا فتى ؟ قال : أنا يوسف ابن صفيّ الله يعقوب ابن ذبيح الله إسحاق بن إبراهيم خليل الله . وكانت عليه محبة ، وقال له عامل السجن : يا فتى ، والله لو استطعت لخليت سبيلك ، ولكن سأحسن جوارك وأحسن إسارك ، فكن في أيّ بيوت السجن شئت .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن خلف الأشجعي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك في : { إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ } ، قال : كان يوسع للرجل في مجلسه ، ويتعاهد المرضى .

وقال آخرون : معناه : { إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ } ، إذ نبأتنا بتأويل رؤيانا هذه .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : استفتياه في رؤياهما ، وقالا له : { نَبَئّنْا بتَأْوِيلِهِ إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ } ، إن فعلت .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب القول الذي ذكرناه عن الضحاك وقتادة .

فإن قال قائل : وما وجه الكلام إن كان الأمر إذن كما قلت ، وقد علمت أن مسألتهما يوسف أن ينبئهما بتأويل رؤياهما ليست من الخبر عن صفته بأنه يعود المريض ويقوم عليه ويحسن إلى من احتاج في شيء ، وإنما يقال للرجل : نبئنا بتأويل هذا فإنك عالم ، وهذا من المواضع التي تحسن بالوصف بالعلم لا بغيره ؟

قيل : إن وجه ذلك أنهما قالا له : نبئنا بتأويل رؤيانا محسنا إلينا في إخبارك إيانا بذلك ، كما نراك تحسن في سائر أفعالك ، { إنا نراك من المحسنين } .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجۡنَ فَتَيَانِۖ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡرٗاۖ وَقَالَ ٱلۡأٓخَرُ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَحۡمِلُ فَوۡقَ رَأۡسِي خُبۡزٗا تَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِنۡهُۖ نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِيلِهِۦٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (36)

{ ودخل معه السجن فَتيان } أي أدخل يوسف السجن واتفق أنه أدخل حينئذ آخران من عبيد الملك شرابيه وخبازه للاتهام بأنهما يريدان أن يسماه . { قال أحدهما } يعني الشرابي . { إني أراني } أي في المنام وهي حكاية حال ماضية . { أعصر خمرا } أي عنبا وسماه خمرا باعتبار ما يؤول إليه . { وقال الآخر } أي الخباز . { إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه } تنهش منه . { نبّئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين } من الذين يحسنون تأويل الرؤيا ، أو من العالمي وإنما قالا ذلك لأنهما رأياه في السجن يذكر الناس ويعبر رؤياهم ، أو من المحسنين إلى أهل السجن فأحسن إلينا بتأويل ما رأينا إن كنت تعرفه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجۡنَ فَتَيَانِۖ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡرٗاۖ وَقَالَ ٱلۡأٓخَرُ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَحۡمِلُ فَوۡقَ رَأۡسِي خُبۡزٗا تَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِنۡهُۖ نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِيلِهِۦٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (36)

وقوله تعالى : { ودخل معه السجن } الآية ، المعنى : فسجنوه فدخل معه السجن غلامان سجنا أيضاً ، وهذه «مع » تحتمل أن تكون باقتران وقت الدخول ، وأن لا تكون بل دخلوا أفذاذاً{[6680]} ، وروي أنهما كانا للملك الأعظم - الوليد بن الريان - أحدهما : خبازه ، والآخر : ساقيه .

و «الفتى » الشاب ، وقد تقع اللفظة على المملوك وعلى الخادم الحر ، ويحتمل أن يتصف هذان بجميع ذلك ، واللفظة من ذوات الياء ، وقولهم : الفتوة شاذ . وروي أن الملك اتهمهما بأن الخابز منهما أراد سمه ، ووافقه على ذلك الساقي ، فسجنهما ، قاله السدي ، فلما دخل يوسف السجن استمال الناس فيه بحسن حديثه وفضله ونبله ، وكان يسلي حزينهم ويعود مريضهم ويسأل لفقيرهم ويندبهم إلى الخير ، فأحبه الفتيان ولزماه ، وأحبه صاحب السجن والقيم عليه ، وقال له : كن في أي البيوت شئت فقال له يوسف : لا تحبني يرحمك الله ، فلقد أدخلت علي المحبة مضرات : أحبتني عمتي فامتحنت لمحبتها ، وأحبني أبي فامتحنت لمحبته لي ، وأحبتني امرأة العزيز فامتحنت لمحبتها بما ترى ، وكان يوسف عليه السلام قد قال لأهل السجن : إني أعبر الرؤيا وأجيد ، فروي عن ابن مسعود أن الفتيين استعملا هاتين المنامتين ليجرباه ؛ وروى عم مجاهد أنهما رأيا ذلك حقيقة ، فأرادا سؤاله ، فقال أحدهما واسمه بنو ، فيما روي{[6681]} ، إني رأيت حبلة{[6682]} من كرم لها ثلاثة أغصان حسان ، فيها عناقيد عنب حسان ، فكنت أعصرها وأسقي الملك ؛ وقال الآخر ، واسمه مجلث ، كنت أرى أني أخرج من مطبخة الملك وعلى رأسي ثلاث سلال فيها خبز ، والطير تأكل من أعلاه .

وقوله { أعصر خمراً } قيل : إنه سمى العنب خمراً بالمآل ، وقيل : هي لغة أزد عمان ، يسمون العنب خمراً ، وقال الأصمعي : حدثني المعتمر ، قال : لقيت أعرابياً يحمل عنباً في وعاء فقلت : ما تحمل ؟ قال : خمراً ، أراد العنب .

وفي قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود «إني أراني أعصر عنباً »{[6683]} .

قال القاضي أبو محمد : ويجوز أن يكون وصف الخمر بأنها معصورة ، إذ العصر لها ومن أجلها وقوله { خبزاً } يروى أنه رأى ثريداً فوق رأسه ، وفي مصحف ابن مسعود «فوق رأسي ثريداً تأكل الطير منه » .

وقوله { إنا نراك من المحسنين } قال الجمهور : يريدان في العلم ، وقال الضحاك وقتادة : المعنى : { من المحسنين } في جريه مع أهل السجن وإجماله معهم ، وقيل : إنه أراد إخباره أنهما يريان له إحساناً عليهما ويداً إذا تأول لهما ما رأياه ، ونحا إليه ابن إسحاق .


[6680]:أي: أفرادا، وهو جمع فذ.
[6681]:في تفسير الطبري أثبتت "نبو" بتقديم النون على الباء، وفي تفسير القرطبي "نبوه" بزيادة هاء.
[6682]:الحبلة بفتح الحاء والباء، وربما جاءت الباء ساكنة: القضيب من الكرم، والجمع حبل، وفي "النهاية": أم العنب، وفي الحديث: (لا تقولوا: العنب الكرم، ولكن قولوا: العنب الحبلة).
[6683]:قال أبو الفتح ابن جني: "هذه القراءة هي مراد قراءة الجماعة: {إني أراني أعصر خمرا}، وذلك أن المعصور حينئذ هو العنب، فسماه خمرا لما يصير إليه من بعد حكاية لحاله المستأنفة، كقول الشاعرـ يريد أبا المهوش الأسدي، أو يزيد بن عمر بن الصعق ـ : إذا ما مات ميت من تميـــــــــم فسرك أن يعيش فجىء بزاد يريد: إذا مات حي فصار ميتا كان كذا، أو فليكن كذا.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجۡنَ فَتَيَانِۖ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡرٗاۖ وَقَالَ ٱلۡأٓخَرُ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَحۡمِلُ فَوۡقَ رَأۡسِي خُبۡزٗا تَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِنۡهُۖ نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِيلِهِۦٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (36)

اتفق جميع القراء على كسر سين { السّجن } هنا بمعنى البيت الذي يسجن فيه ، لأنّ الدخول لا يناسب أن يتعلق إلا بالمكان لا بالمصدر .

وهذان الفتيان هما ساقي المَلك وخبّازُه غضب عليهما الملك فأمر بسجنهما . قيل : اتهما بتسميم الملك في الشراب والطعام .

وجملة { قال أحدهما } ابتداء محاورة ، كما دل عليه فعل القول . وكان تعبير الرؤيا من فنون علمائهم فلذلك أيّد الله به يوسف عليه السّلام بينهم .

وهذان الفتيان توسّما من يوسف عليه السّلام كمال العقل والفهم فظنّا أنه يحسن تعبير الرؤيا ولم يكونا علِما منه ذلك من قبل ، وقد صادفا الصواب ، ولذلك قالا : { إنا نراك من المحسنين } ، أي المحسنين التعبير ، أو المحسنين الفهم .

والإحسان : الإتقان ، يقال : هو لا يحسن القراءة ، أي لا يتقنها . ومن عادة المساجين حكاية المرائي التي يرونها ، لفقدانهم الأخبار التي هي وسائل المحادثة والمحاورة ، ولأنهم يتفاءلون بما عسى أن يبشرهم بالخلاص في المستقبل . وكان علم تعبير الرؤيا من العلوم التي يشتغل بها كهنة المصريين ، كما دل عليه قوله تعالى حكاية عن ملك مصر { أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون } [ سورة يوسف : 43 ] كما سيأتي .

والعصر : الضغط باليد أو بحَجر أو نحوه على شيء فيه رطوبة لإخراج ما فيه من المائع زيتتٍ أو ماءٍ . والعصير : ما يستخرج من المعصور سمي باسم محله ، أي معصور من كذا .

والخبز : اسم لقطعة من دقيق البر أو الشعير أو نحوهما يعجن بالماء ويوضع قرب النار حتى ينضج ليؤكل ، ويسمى رغيفاً أيضاً .

والضمير في بتأويله } للمذكور ، أو للمرئي باعتبار الجنس .

وجملة { إنّا نراك } تعليل لانتفاء المستفاد من { نبّئنا } .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجۡنَ فَتَيَانِۖ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡرٗاۖ وَقَالَ ٱلۡأٓخَرُ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَحۡمِلُ فَوۡقَ رَأۡسِي خُبۡزٗا تَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِنۡهُۖ نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِيلِهِۦٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (36)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: ودخل مع يوسف السجن فتيان، فدلّ بذلك على متروك قد ترك من الكلام، وهو: {ثُمّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الآياتِ لَيَسْجُنُنّهُ حتى حِينٍ}، فسجنوه، وأدخلوه السجن، ودخل معه فتيان، فاستغنى بدليل قوله: {وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيانِ}، على إدخالهم يوسف السجن من ذكره. وكان الفتيان فيما ذكر: غلامين من غلمان ملك مصر الأكبر: أحدهما: صاحب شرابه، والآخر: صاحب طعامه... وقوله: {قالَ أحَدُهُما إنّي أرَانِي أعْصِرُ خَمْرا}...

وعنى بقوله: {أعْصِرُ خَمْرا}، أي: إني أرى في نومي أني أعصر عنبا... وقوله: {وَقالَ الآخَرُ إني أرَانِي أحْمِلُ فَوْقَ رأسِي خُبْزا تَأْكُلُ الطّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنا بتأْوِيلهِ}، يقول تعالى ذكره: وقال الآخر من الفتيين: إني أراني في منامي أحمل فوق رأسي خبزا، يقول: أحمل على رأسي، فوضعت «فوق» مكان «على»، {تَأْكُلُ الطّيْرُ مِنْهُ}، يعني: من الخبز.

وقوله: {نَبّئْنا بتَأْوِيلِهِ}، يقول: أخبرنا بما يؤول إليه ما أخبرناك أنا رأيناه في منامنا ويرجع إليه...

وقوله: {إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ}، اختلف أهل التأويل في معنى الإحسان الذي وصف به الفتيان يوسف؛

فقال بعضهم: هو أنه كان يعود مريضهم، ويعزي حزينهم، وإذا احتاج منهم إنسان جمَع له... سأل رجل الضحاك عن قوله: {إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ}، ما كان إحسانه؟ قال: كان إذا مرض إنسان في السجن قام عليه، وإذا احتاج جمع له، وإذا ضاق عليه المكان أوسع له... عن قتادة، قوله: {إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ}، قال: بلغنا أن إحسانه أنه كان يداوي مريضهم، ويعزّي حزينهم، ويجتهد لربه...

وقال آخرون: معناه: {إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ} إذا نبأتنا بتأويل رؤيانا هذه... وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب القول الذي ذكرناه عن الضحاك وقتادة.

فإن قال قائل: وما وجه الكلام إن كان الأمر إذن كما قلت، وقد علمت أن مسألتهما يوسف أن ينبئهما بتأويل رؤياهما ليست من الخبر عن صفته بأنه يعود المريض ويقوم عليه ويحسن إلى من احتاج في شيء، وإنما يقال للرجل: نبئنا بتأويل هذا فإنك عالم، وهذا من المواضع التي تحسن بالوصف بالعلم لا بغيره؟

قيل: إن وجه ذلك أنهما قالا له: نبئنا بتأويل رؤيانا محسنا إلينا في إخبارك إيانا بذلك، كما نراك تحسن في سائر أفعالك، {إنا نراك من المحسنين}.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{إني أراني أعصر خمراً} أي عنباً. وفي تسميته خمراً وجهان:

أحدهما: لأن عصيره يصير خمراً فعبر عنه بما يؤول إليه...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

{إنَّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ}: الشهادة بالإحسان ذريعةٌ، بها يَتَوسُّلُ إلى استجلاب إحسانه.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{مَّعَ} يدل على معنى الصحبة واستحداثها، تقول: خرجت مع الأمير، تريد مصاحباً له، فيجب أن يكون دخولهما السجن مصاحبين له {فَتَيَانَ} عبدان للملك: خبازه وشرابيه... أدخلا ساعة أدخل يوسف عليه السلام. {إِنّي أَرَانِي} يعني في المنام، وهي حكاية حال ماضية...

{مّنَ المحسنين} من الذين يحسنون عبارة الرؤيا، أي: يجيدونها، رأياه يقصّ عليه بعض أهل السجن رؤياه فيؤوّلها له، فقالا له ذلك. أو من العلماء، لأنهما سمعاه يذكر للناس ما علما به أنه عالم. أو من المحسنين إلى أهل السجن. فأحسن إلينا بأن تفرّج عنا الغمة بتأويل ما رأينا إن كانت لك يد في تأويل الرؤيا...

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

... يمكن أن يكون حبسهما مع حبس يوسف أو بعده أو قبله، غير أنهما دخلا معه البيت الذي كان فيه...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما ذكر السجن، وكان سبباً ظاهراً في الإهانة، شرع سبحانه يقص من أمره فيه ما حاصله أنه جعله سبب الكرامة، كل ذلك بياناً للغلبة على الأمر والاتصاف بصفات القهر، مع ما في ذلك من بيان تحقق ما تقدم به الوعد الوفي ليوسف عليه الصلاة والسلام وغير ذلك من الحكم، فقال تعالى: {ودخل} أي فسجنوه كما بدا لهم ودخل {معه السجن فتيان}: خباز الملك وساقيه، ورفع إليه أن الخباز أراد أن يسمه، وظن أن الساقي مالأه على ذلك، و "مع "تدل على الصحبة واستحداثها، فهي تدل على دخول الثلاثة السجن في آن واحد -قاله أبو حيان، فلما دخلوا السجن كان يوسف عليه الصلاة والسلام يحسن إلى أهله فيسلي حزينهم، ويعود مريضهم، ويسأل لفقيرهم، ويهديهم إلى الخير، ويذكرهم بالله، فمالت إليه القلوب وكلفت به النفوس لحسن حديثه ولطيف تأتيه وما حباه الله به من الفضل والنبل وحسن الخَلق والخُلق... فكأنه قيل: أيّ شيء اتفق لهما بعد الدخول معه؟ فقيل: {قال أحدهمآ} ليوسف عليه الصلاة والسلام... {إني أراني} حكى الحال الماضية في المنام {أعصر} والعصر: الاعتماد على ما فيه مائية ليحتلب منه {خمراً} أي عنباً يؤول إلى الخمر {وقال الآخر} مؤكداً لمثل ما مضى {إني أراني أحمل} والحمل: رفع الشيء بعماد نقله {فوق رأسي خبزاً} أي طعاماً مهيأ للأكل بالخبز، وهو عمل الدقيق المعجون بالبسط واللزق في حامٍ بالنار حتى يصلح للأكل {تأكل الطير منه}... فكأنه قيل: فماذا تريدان من الإخبار بهذا؟ فقالا: {نبئنا} أي أخبرنا إخباراً عظيماً {بتأويله} أي ما يرجع أمره ويصير إليه، فكأنه قيل: وما يدريكما أني أعرف تأويله؟ فقالا: {إنا نراك} على حالٍ علمنا بها علماً هو كالرؤية أنك {من المحسنين} أي العريقين في وصف الإحسان لكل أمر تعانيه، فلذلك لاح لنا أنك تحسن التأويل قياساً.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{ودخل معه السجن فتيان} هذا عطف على مفهوم ما قبله أي فسجنوه ودخل معه السجن بتقدير الله الخفي الذي يعبر عنه جاهلوه بالمصادفة والاتفاق: فتيان مملوكان تبين فيما بعد أنهما من فتيان ملك مصر. روي عن ابن عباس أن أحدهما خازن طعامه والآخر ساقيه، فماذا كان من شأنه معهما؟ {قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا} أي رأيت في المنام رؤيا واضحة جلية كأني أراها في اليقظة الآن، وقراءة ابن مسعود وأبي في الشواذ "أعصر عنبا "تفسير لا قرآن، وما كل العنب يعصر لأجل التخمير فما نقل من أن عرب غسان وعمان يسمون العنب خمرا فمحمول على هذا النوع المخصوص منه لكثرة مائه وسرعة اختماره، دون ما يؤكل في الغالب تفكها لكثرة حجمه واكتناز شحمه وقلة مائه، ولكل منها أصناف.

{وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه} الطير جمع واحده طائر، وتأنيثه أكثر من تذكيره، وجمع الجمع طيور وأطيار.

{نبئنا بتأويله} أي قال له كل واحد منهما نبئني بتأويل ما رأيت، أي بتفسيره الذي يؤول إليه في الخارج إذا كان حقا لا من أضغاث الأحلام...

{إنا نراك من المحسنين} عللوا سؤالهم إياه عن أمر يهمهم ويعنيهم دونه، برؤيتهم إياه من المحسنين بمقتضى غريزتهم الذين يريدون الخير والنفع للناس وإن لم يكن لهم فيه منفعة خاصة ولا هوى، وقيل من المحسنين لتأويل الرؤى، وما قالا هذا القول إلا بعد أن رأيا من سعة علمه وحسن سيرته مع أهل السجن وما وجه إليه وجوههما، وعلق به أملهما. وهذا من إيجاز القرآن الخاص به.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(ودخل معه السجن فتيان). سنعرف من بعد أنهما من خدم الملك الخواص.. ويختصر السياق ما كان من أمر يوسف في السجن، وما ظهر من صلاحه وإحسانه، فوجه إليه الأنظار، وجعله موضع ثقة المساجين، وفيهم الكثيرون ممن ساقهم سوء الطالع مثله للعمل في القصر أو الحاشية، فغضب عليهم في نزوة عارضة، فألقي بهم في السجن.. يختصر السياق هذا كله ليعرض مشهد يوسف في السجن وإلى جواره فتيان أنسا إليه، فهما يقصان عليه رؤيا رأياها. ويطلبان إليه تعبيرها، لما يتوسمانه فيه من الطيبة والصلاح وإحسان العبادة والذكر والسلوك...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

السجن ساحة للدعوة: ودخل يوسف السجن بروحيّة الإنسان المؤمن الذي لا يعتبر السجن مشكلةً ومأساةً، بل يرى فيه موقع الانتصار على النوازع الجسدية، وعلى الضغوط الخارجية التي تتحدى فيه إرادة الإيمان، وقوّة الالتزام. وفي هذا الجوّ كان يفكر بأنّ عليه إلاّ يتجمّد في مشاعر الوحشة والفراغ لينتهي إلى حالة كئيبة من الضياع الروحي، بل أن يستثمر فرص الحركة التي تتيحها الساحة له. وفكّر أنه ليس الوحيد الذي يدخل السجن، فهناك من دخلوا قبله، وهناك من سيدخلون بعده، وفيهم الكافرون والضالون، وحدّد دوره بأن يستفيد من الأجواء الهادئة التي يعيشها السجين، والمشاعر البائسة التي يخضع لها، والآمال الطيبة التي يرجوها في يقظته ونومه، والحالات النفسية الصعبة التي يحتاج فيها إلى من يساعده في مواجهتها مما يفسح المجال للهدوء في فكره، والحياد في موقفه، الأمر الذي يسهل على يوسف دخول قناعاته وتغييرها على أساس الحق والصواب، وذلك هو شأن المؤمن الداعية الذي يعيش همّ الدعوة إلى الله، وهداية الناس إلى طريق الحق، فلا يترك فرصةً إلا ويستفيد منها في حركته نحو الهدف الكبير، فهو في التفاتةٍ دائمةٍ لما حوله، ولمن حوله، وترقّب مستمر للأجواء الملائمة التي تفتح له قلوب الناس وعقولهم على الحق. {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ} فتعرّف إليهما، وتعرّفا إليه، ونشأت بين الثلاثة صحبةٌ وإلفةٌ، لما تفرضه طبيعة الوجود في السجن من حاجة إلى من يستريح إليه السجين ويرتاح للحديث معه، ليخفّف من وحشته، وهكذا بدأ الحديث في شؤونٍ كثيرةٍ متنوّعة، وكان هذان الشخصان قد شاهدا في منامهما، حلمين غريبين أثارا في نفسيهما القلق والحيرة، لأنهما لم يستطيعا فهم السرّ الذي يكمن خلفهما فأحبّا أن يحدّثا يوسف عنهما، فلعلهما يجدان لديه التفسير الواضح الذي يكشف لهما هذا الغموض، فقد لاحظا امتلاكه لفكرٍ هادئ، وعقلٍ متحركٍ، وشخصيةٍ حكيمةٍ، وهذا ما جعلهما يمنحانه الثقة الكبيرة. إحسانه جذبهما إليه {قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} ولم أستطع معرفة المضمون الواقعي لذلك في ما يحيط بحركة الحياة من حولي، {وَقَالَ الآخر إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} فما معنى الخبز؟ وما سرّ حمله على الرأس؟ وماذا يمثل أكل الطير منه من رمز؟ فهل هو رمز للنعمة أو للعطاء، أو هو رمزٌ للنقمة والفناء؟ {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} لأن للأحلام تأثيراً في الكشف عن حركة الإنسان في المستقبل، بما توحيه من تشاؤم أو تفاؤل يعرّف الإنسان كيف يحدد اتجاه موقفه، {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} الذين يحبون أن يعطوا من مواقع ما يعرفون، فلا يبخلون بالمعرفة على من يحتاج إليها، لأن ذلك هو معنى الإحسان الذي ينطلق من حسّ الخير في الإنسان، تجاه من حوله. وقد جاء في بعض الكلمات التفسيرية عن الإمام جعفر الصادق في ما روي عنه في قوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} قال: «كان يقوم على المريض، ويلتمس المحتاج، ويوسّع على المحبوس». وربما كانت هذه الأمور وما يدخل في جوّها الأخلاقي، هي التي جعلتهما ينجذبان إليه، وينفتحان عليه هذا الانفتاح الروحي الذي يعيش فيه الإنسان جوع المعرفة إلى فكر العارفين. توسل التأويل لهداية الفَتَيان ولم يكن ليوسف شأنٌ بالجانب الذاتي لما سألاه عنه، ولم يكن في صدد الإيحاء بإمكاناته العلمية في تأويل الأحلام، أو في غيره من الأمور، بل كان يتوسّل هدايتهما إلى الصراط المستقيم من خلال ذلك ككل داعيةٍ إلى الله، يتحسس ضرورة استخدام كل طاقاته في سبيل الدعوة والهداية، وتحريك علاقاته بالناس، في هذا الاتجاه. وهذا ما أراد يوسف أن يثيره أمامهما عما وهبه الله من إمكانات علميّة، تمكنه من استيحاء الأحلام ومعرفة ما تحمله من أسرار المستقبل وخفاياه، أو في استلهام الإشراق الروحي الذي أودعه الله في قلبه، واستكشاف آفاق المستقبل في حياة الناس...