ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات برفع الحرج عن الذين تخلفوا لأعذار حقيقته فقال : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ . . } .
أى : ليس على هؤلاء إثم فى التخلف عن الجهاد ، لما بهم من الأعذار والعاهات المرخصة لهم فى التخلف عنه .
{ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } فيما أَمَراَ به أو نَهَيا عنه ، { يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَمَن يَتَوَلَّ } عن طاعتهما { يُعَذِّبْهُ } الله - تعالى - { عَذَاباً أَلِيماً } لا يقادر قدره .
ولما كان المفهوم من ذلك الابتلاء فرض الخروج على الجميع ، فقد بين الله أصحاب الأعذار الحقيقية الذين يحق لهم التخلف عن الجهاد ، بلا حرج ولا عقاب :
ليس على الأعمى حرج ، ولا على الأعرج حرج ، ولا على المريض حرج . ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ، ومن يتول يعذبه عذابا أليما . .
فالأعمى والأعرج معهما عذر دائم هو العجز المستمر عن تكاليف الخروج والجهاد . والمريض معه عذر موقوت بمرضه حتى يبرأ .
والأمر في حقيقته هو أمر الطاعة والعصيان . هو حالة نفسية لا أوضاع شكلية . فمن يطع الله ورسوله فالجنة جزاؤه . ومن يتول فالعذاب الأليم ينتظره . ولمن شاء أن يوازن بين مشقات الجهاد وجزائه ، وبين راحة القعود وما وراءه . . ثم يختار !
القول في تأويل قوله تعالى : { لّيْسَ عَلَى الأعْمَىَ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَن يَتَوَلّ يُعَذّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً } .
يقول تعالى ذكره : ليس على الأعمى منكم أيها الناس ضيق ، ولا على الأعرج ضيق ، ولا على المريض ضيق أن يتخلفوا عن الجهاد مع المؤمنين ، وشهود الحرب معهم إذا هم لقوا عدوّهم ، للعلل التي بهم ، والأسباب التي تمنعهم من شهودها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة لَيْسَ على الأعْمَى حَرَجٌ وَلا على الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا على المَرِيضِ حَرَجٌ قال : هذا كله في الجهاد .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ثُمّ عذر الله أهل العذر من الناس ، فقال : لَيْسَ على الأعْمَى حَرَجٌ وَلا على الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا على المَرِيضِ حَرَجٌ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لَيْسَ على الأعْمَى حَرَجٌ وَلا على الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا على المَرِيضِ حَرَجٌ قال : في الجهاد في سبيل الله .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لَيْسَ على الأعْمَى حَرَجٌ . . . الآية ، يعني في القتال .
وقوله : وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ يقول تعالى ذكره : ومن يُطعِ الله ورسوله فيجيب إلى حرب أعداء الله من أهل الشرك ، وإلى القتال مع المؤمنين ابتغاء وجه الله إذا دعي إلى ذلك ، يُدخله الله يوم القيامة جنّات تجري من تحتها الأنهار وَمَنْ يَتَوَلّ يقول : ومن يعص الله ورسوله ، فيتخلّف عن قتال أهل الشرك بالله إذا دعي إليه ، ولم يستجب لدعاء الله ورسوله يعذّبه عذابا موجعا ، وذلك عذاب جهنم يوم القيامة . )
{ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } لما أوعد على التخلف نفي الحرج عن هؤلاء المعذورين استثناء لهم عن الوعيد . { ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار } فصل الوعد وأجمل الوعيد مبالغة في الوعد لسبق رحمته ، ثم جبر ذلك بالتكرير على سبيل التعميم فقال : { ومن يتول يعذبه عذابا أليما } إذ الترهيب ها هنا أنفع من الترغيب ، وقرأ نافع وابن عامر " ندخله " و " نعذبه " بالنون .
لما بالغ عز وجل في عتب هؤلاء المتخلفين من القبائل المجاورة للمدينة لجهينة ومزينة وغفار وأسلم وأشجع ، عقب ذلك بأن عذر أهل الأعذار من العرج والعمى والمرض جملة ورفع الحرج عنهم والضيق والمأثم ، وهذا حكم هؤلاء المعاذير في كل جهاد إلى يوم القيامة ، إلا أن يحزب حازب في حضرة ما ، فالفرض متوجه بحسب الوسع ، ومع ارتفاع الحرج فجائز لهم الغزو وأجرهم فيه مضاعف ، لأن الأعرج أحرى الناس بالصبر وأن لا يفر ، وقد غزا ابن أم مكتوم ، وكان يمسك الراية في بعض حروب القادسية ، وقد خرج النسائي هذا المعنى وذكر ابن أم مكتوم رضي الله عنه{[10418]} .
وقرأ الجمهور من القراء : «يدخله » بالياء . وقرأ ابن عامر ونافع وأبو جعفر والأعرج والحسن وشيبة وقتادة : «ندخله » بالنون ، وكذلك «نعذبه » و : «يعذبه » .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ليس على الأعمى منكم أيها الناس ضيق، ولا على الأعرج ضيق، ولا على المريض ضيق أن يتخلفوا عن الجهاد مع المؤمنين، وشهود الحرب معهم إذا هم لقوا عدوّهم، للعلل التي بهم، والأسباب التي تمنعهم من شهودها. وقوله:"وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ "يقول تعالى ذكره: ومن يُطعِ الله ورسوله فيجيب إلى حرب أعداء الله من أهل الشرك، وإلى القتال مع المؤمنين ابتغاء وجه الله إذا دعي إلى ذلك، يُدخله الله يوم القيامة جنّات تجري من تحتها الأنهار.
"وَمَنْ يَتَوَلّ" يقول: ومن يعص الله ورسوله، فيتخلّف عن قتال أهل الشرك بالله إذا دعي إليه، ولم يستجب لدعاء الله ورسوله يعذّبه عذابا موجعا، وذلك عذاب جهنم يوم القيامة.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"ليس على الاعمى حرج..." الآية، فالأعمى: هو من لا يبصر بجارحة العين. والأعرج: الذي برجله آفة تمنعه من المشي، مأخوذ من رفعها عند محاولة المشي بغيرها، ومنه العروج: الصعود إلى السماء. والمريض: من به علة تمنعه من الحركة من اضطراب في البدن حتى يضعف وتحصل فيه آلام.
بيَّن الله تعالى أنه ليس على وجه هؤلاء الذين بهم هذه الآفات من ضيق ولا حرج في ترك الحصول مع المؤمنين والحضور معهم في الجهاد.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لما بالغ عز وجل في عتب هؤلاء المتخلفين من القبائل المجاورة للمدينة لجهينة ومزينة وغفار وأسلم وأشجع، عقب ذلك بأن عذر أهل الأعذار من العرج والعمى والمرض جملة ورفع الحرج عنهم والضيق والمأثم، وهذا حكم هؤلاء المعاذير في كل جهاد إلى يوم القيامة، إلا أن يحزب حازب في حضرة ما، فالفرض متوجه بحسب الوسع، ومع ارتفاع الحرج فجائز لهم الغزو وأجرهم فيه مضاعف، لأن الأعرج أحرى الناس بالصبر وأن لا يفر، وقد غزا ابن أم مكتوم، وكان يمسك الراية في بعض حروب القادسية، وقد خرج النسائي هذا المعنى وذكر ابن أم مكتوم رضي الله عنه.
بيّن من يجوز له التخلف وترك الجهاد وما بسببه يجوز ترك الجهاد وهو ما يمنع من الكر والفر وبين ذلك ببيان ثلاثة أصناف:
(الأول) {الأعمى} فإنه لا يمكنه الإقدام على العدو والطلب، ولا يمكنه الاحتراز والهرب، والأعرج كذلك والمريض كذلك، وفي معنى الأعرج الأقطع والمقعد، بل ذلك أولى بأن يعذر، ومن به عرج لا يمنعه من الكر والفر لا يعذر، وكذلك المرض القليل الذي لا يمنع من الكر والفر.
. المسألة الرابعة: قدم الأعمى على الأعرج، لأن عذر الأعمى يستمر ولو حضر القتال، والأعرج إن حضر راكبا أو بطريق آخر يقدر على القتال بالرمي وغيره...
{ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما}، اعلم أن طاعة كل واحد منهما طاعة الآخر فجمع بينهما بيانا لطاعة الله، فإن الله تعالى لو قال: ومن يطع الله، كان لبعض الناس أن يقول: نحن لا نرى الله ولا نسمع كلامه، فمن أين نعلم أمره حتى نطيعه؟ فقال طاعته في طاعة رسوله وكلامه يسمع من رسوله. ثم قال: {ومن يتول} أي بقلبه.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ثم ذكر الأعذار في ترك الجهاد، فمنها لازم كالعمى والعرج المستمر، وعارض كالمرض الذي يطرأ أياما ثم يزول، فهو في حال مرضه ملحق بذوي الأعذار اللازمة حتى يبرأ.
ثم قال تعالى مرغبا في الجهاد وطاعة الله ورسوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ} أي: ينكل عن الجهاد، ويقبل على المعاش {يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} في الدنيا بالمذلة، وفي الآخرة بالنار...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ليس على الأعمى} أي في تخلفه عن الدعاء إلى الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم أو مع غيره من أئمة الدعاء {حرج} أي ميل بثقل الإثم لأجل أن عماه موهن لسعيه وجميع بطشه، ولأجل تأكيد المعنى تسكيناً لما ثار من روع المؤمن كرر النافي والحرج في كل جملة مستقلة تأكيداً لهذا الأمر فقال: {ولا على الأعرج} وإن كان نقصه أدنى من نقص العمى {حرج} وجعل كل جملة مستقلة تأكيداً لهذا الحكم. ولما ذكر هذين الأثرين الخاصين المزيد ضررهما في العاقة عن كمال الجهاد، عم بقوله: {ولا على المريض} أي بأيّ مرض {حرج} فلم يخرج أهل هذه الأعذار الذين لم يمنعهم إلا إعذارهم عن أهل الحديبية...
{ومن يطع الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال المفيض من آثار صفاته على من يشاء ولو كان ضعيفاً، المانع منها من يشاء وإن كان قوياً {ورسوله} من المعذورين وغيرهم فيما ندبا إليه من أي طاعة كانت إجابته {يدخله} أي الله الملك الأعظم جزاء له- {جنات تجري} ونبه على قرب منال الماء بإثبات الجار في قوله: {من تحتها الأنهار} أي ففي أي موضع أردت أجريت نهراً {ومن يتول} أي كائناً من كان من المخاطبين الآن وغيرهم، عن طاعة من الطاعات التي أمرا بها من أي طاعة كانت {يعذبه} أي على توليه في الدارين أو إحداهما {عذاباً أليماً} وقراءة أهل المدينة والشام {ندخله ونعذبه} بالنون أظهر في إرادة العظمة لأجل تعظيم النعمة والنقمة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولما كان المفهوم من ذلك الابتلاء فرض الخروج على الجميع، فقد بين الله أصحاب الأعذار الحقيقية الذين يحق لهم التخلف عن الجهاد، بلا حرج ولا عقاب:
ليس على الأعمى حرج، ولا على الأعرج حرج، ولا على المريض حرج. ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار، ومن يتول يعذبه عذابا أليما..
فالأعمى والأعرج معهما عذر دائم هو العجز المستمر عن تكاليف الخروج والجهاد. والمريض معه عذر موقوت بمرضه حتى يبرأ.
والأمر في حقيقته هو أمر الطاعة والعصيان. هو حالة نفسية لا أوضاع شكلية. فمن يطع الله ورسوله فالجنة جزاؤه. ومن يتول فالعذاب الأليم ينتظره. ولمن شاء أن يوازن بين مشقات الجهاد وجزائه، وبين راحة القعود وما وراءه.. ثم يختار!
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج). وليس الجهاد وحده مشروطاً بالقدرة، فجميع التكاليف الإلهيّة هي سلسلة من الشرائط العامة ومن ضمنها الطاقة والقدرة، وكثيراً ما أشارت الآيات القرآنية إلى هذا المعنى وفي الآية (286) من سورة البقرة نقرأ تعبيراً كلياً عن هذا الأصل وهو: (لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها). وهذا الشرط ثابت بالأدلة النقلية والعقليّة!. وبالطبع فإن هذه الجماعة وإن كانت معذورة من الاشتراك في ميادين الجهاد، إلاّ أنّ عليها أن تساهم بمقدار ما تستطيع لتقوية قوى الإسلام وتقدّم الأهداف الإلهية كما نقرأ ذلك في الآية (91) من سورة التوبة: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله). أي أنّهم إذا لم يستطيعوا أن يؤدّوا عملاً بأيديهم، فلا ينبغي أن يألوا جهداً فيما يقدرون عليه ولا يعتذروا بألسنتهم عنه، وهذا التعبير الطريف يدلّ على أنّه لا ينبغي الإغماض عن القدرات أبداً، وبتعبير آخر أنّهم إذا لم يستطيعوا أن يشاركوا في الجبهة فعلى الأقل عليهم أن يُحكموا المواضع الخلفية للجبهة! ولعلّ الجملة الأخيرة في الآية محل البحث تشير أيضاً إلى هذا المعنى فتقول: (ومن يطع الله ورسوله يُدخله جنّات تجري من تحتها الأنهار ومن يتولّ يعذّبه عذاباً أليماً). وهذا الاحتمال وارد أيضاً، وهو أنّ بعض الأفراد في المواقع الاستثنائية يعتذرون عن المساهمة ويسيئون فهم النص، فالقرآن هنا يحذّرهم أنّهم إذا لم يكونوا معذورين واقعاً فإنّ الله أعدّ لهم عذاباً أليماً. ومن نافلة القول أنّ كون المريض والأعمى والأعرج معذورين خاص بالجهاد، أمّا في الدفاع عن حمى الإسلام والبلد الإسلامي والنفس فيجب أن يدافع كلٌّ بما وسعه، ولا استثناء في هذا المجال!