{ الذي أطعمهم من جوع } أي من بعد جوع بحمل الميرة إلى مكة ، { وآمنهم من خوف } بالحرم ، وكونهم من أهل مكة حتى لم يتعرض لهم في رحلتهم . وقال عطاء عن ابن عباس : إنهم كانوا في ضر ومجاعة حتى جمعهم هاشم على الرحلتين ، وكانوا يقسمون ربحهم بين الفقير والغني ، حتى كان فقيرهم كغنيهم . قال الكلبي : وكان أول من حمل السمراء من الشام ورحل إليها الإبل هاشم بن عبد مناف ، وفيه يقول الشاعر :
قل للذي طلب السماحة والندى*** هلا مررت بآل عبد مناف
هلا مررت بهم تريد قراهم*** منعوك من ضر ومن أكفاف
الرائشين وليس يوجد رائش*** والقائلين هلم للأضياف
والخالطين فقيرهم بغنيهم*** حتى يكون فقيرهم كالكافي
والقائمين بكل وعد صادق*** والراحلين برحلة الإيلاف
عمرو العلا هشم الثريد لقومه*** ورجال مكة مسنتون عجاف
سفرين سنهما له ولقومه*** سفر الشتاء ورحلة الأصياف
وقال الضحاك والربيع وسفيان : { وآمنهم من خوف } من خوف الجذام ، فلا يصيبهم ببلدهم الجذام .
{ الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ } أي : الذي وسع لهم الرزق ، ومهد لهم سبيله ، عن طريق الوفود التى تأتي إليهم من مشارق الأرض ومغاربها .
{ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } أي : والذي أوجد لهم الأمن بعد الخوف ، والسعة بعد الضيق ، ببركة هذا البيت الحرام .
وتنكير " جوع " و " خوف " للتعظيم ، أي : أطعمهم بدلا من جوع شديد ، وآمنهم بدلا من خوف عظيم ، كانوا معرضين لهما ، وذلك كله من فضله - سبحانه - عليهم ، ومن رحمته بهم ، حيث أتم عليهم نعمتين بهما تكمل السعادة ، ويجتمع السرور .
ومن الآيات التى تشبه هذه الآية قوله - تعالى - : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ . . . } وقوله - سبحانه - : { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً . . . } وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
استجاب الله دعوة خليله إبراهيم ، وهو يتوجه إليه عقب بناء البيت وتطهيره : ( رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات ) . . فجعل هذا البيت آمنا ، وجعله عتيقا من سلطة المتسلطين وجبروت الجبارين ؛ وجعل من يأوي إليه آمنا والمخافة من حوله في كل مكان . . حتى حين انحرف الناس وأشركوا بربهم وعبدوا معه الأصنام . . لأمر يريده سبحانه بهذا البيت الحرام .
ولما توجه أصحاب الفيل لهدمه كان من أمرهم ما كان ، مما فصلته سورة الفيل . وحفظ الله للبيت أمنه ، وصان حرمته ؛ وكان من حوله كما قال الله فيهم : ( أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ? ) .
وقد كان لحادث الفيل أثر مضاعف في زيادة حرمة البيت عند العرب في جميع أنحاء الجزيرة ، وزيادة مكانة أهله وسدنته من قريش ، مما ساعدهم على أن يسيروا في الأرض آمنين ، حيثما حلوا وجدوا الكرامة والرعاية ، وشجعهم على إنشاء خطين عظيمين من خطوط التجارة - عن طريق القوافل - إلى اليمن في الجنوب ، وإلى الشام في الشمال . وإلى تنظيم رحلتين تجاريتين ضخمتين : إحداهما إلى اليمن في الشتاء ، والثانية إلى الشام في الصيف .
ومع ما كانت عليه حالة الأمن في شعاب الجزيرة من سوء ؛ وعلى ما كان شائعا من غارات السلب والنهب ، فإن حرمة البيت في أنحاء الجزيرة قد كفلت لجيرته الأمن والسلامة في هذه التجارة المغرية ، وجعلت لقريش بصفة خاصة ميزة ظاهرة ؛ وفتحت أمامها أبواب الرزق الواسع المكفول ، في أمان وسلام وطمأنينة . وألفت نفوسهم هاتين الرحلتين الآمنتين الرابحتين ، فصارتا لهم عادة وإلفا !
هذه هي المنة التي يذكرهم الله بها - بعد البعثة - كما ذكرهم منة حادث الفيل في السورة السابقة ، منة إيلافهم رحلتي الشتاء والصيف ، ومنة الرزق الذي أفاضه عليهم بهاتين الرحلتين - وبلادهم قفرة جفرة وهم طاعمون هانئون من فضل الله . ومنة أمنهم الخوف . سواء في عقر دارهم بجوار بيت الله ، أم في أسفارهم وترحالهم في رعاية حرمة البيت التي فرضها الله وحرسها من كل اعتداء .
يذكرهم بهذه المنن ليستحيوا مما هم فيه من عبادة غير الله معه ؛ وهو رب هذا البيت الذي يعيشون في جواره آمنين طاعمين ؛ ويسيرون باسمه مرعيين ويعودون سالمين . .
يقول لهم : من أجل إيلاف قريش : رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي كفل لهم الأمن فجعل نفوسهم تألف الرحلة ، وتنال من ورائها ما تنال ( فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع ) . . وكان الأصل - بحسب حالة أرضهم - أن يجوعوا ، فأطعمهم الله وأشبعهم من هذا الجوع ( وآمنهم من خوف ) . . وكان الأصل - بحسب ما هم فيه من ضعف وبحسب حالة البيئة من حولهم - أن يكونوا في خوف فآمنهم من هذا الخوف !
وهو تذكير يستجيش الحياء في النفوس . ويثير الخجل في القلوب . وما كانت قريش تجهل قيمة البيت وأثر حرمته في حياتها . وما كانت في ساعة الشدة والكربة تلجأ إلا إلى رب هذا البيت وحده . وها هو ذا عبد المطلب لا يواجه أبرهة بجيش ولا قوة . إنما يواجهه برب هذا البيت الذي يتولى حماية بيته ! لم يواجهه بصنم ولا وثن ، ولم يقل له . . إن الآلهة ستحمي بيتها . إنما قال له : " أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه " . . ولكن انحراف الجاهلية لا يقف عند منطق ، ولا يثوب إلى حق ، ولا يرجع إلى معقول .
وقوله : { الّذِي أطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ } يقول : الذي أطعم قريشا من جوع ، كما :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { الّذِي أطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ } يعني : قريشا أهل مكة ، بدعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم حيث قال : { وَارْزُقهُمْ مِنَ الثّمَرَاتِ } .
اختلف أهل التأويل في معنى قوله : { وآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } فقال بعضهم : معنى ذلك : أنه آمنهم مما يَخاف منه مَنْ لم يكن من أهل الحرم ، من الغارات والحروب والقتال ، والأمور التي كانت العرب يخاف بعضها من بعض . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس { وآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } حيث قال إبراهيم عليه السلام : { رَبّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنا } .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { وآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } قال : آمنهم من كلّ عدوّ في حرمهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { لإيلافِ قُرَيْشٍ إيلافِهِم } قال : كان أهل مكة تجارا ، يتعاورون ذلك شتاء وصيفا ، آمنين في العرب ، وكانت العرب يغير بعضها على بعض ، لا يقدرون على ذلك ، ولا يستطيعونه من الخوف ، حتى إن كان الرجل منهم ليُصاب في حيّ من أحياء العرب ، وإذا قيل حِرْمِيّ خُلّي عنه وعن ماله ، تعظيما لذلك فيما أعطاهم الله من الأمن .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة { وآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } قال : كانوا يقولون : نحن من حرم الله ، فلا يعرض لهم أحد في الجاهلية ، يأمنون بذلك ، وكان غيرهم من قبائل العرب إذا خرج أُغير عليه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } قال : كانت العرب يغير بعضها على بعض ، ويَسْبِي بعضها بعضا ، فأمنوا من ذلك لمكان الحرم ، وقرأ : { أوَ لَمْ نُمَكّنْ لَهُمْ حَرَما آمِنا يُجْبَى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَيْءٍ } .
وقال آخرون : عُنِي بذلك : وآمنهم من الجُذَام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، قال : قال الضحاك : { وآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } قال : من خوفهم من الجُذام .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان { وآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } قال : من الجذام وغيره .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : قال وكيع : سمعت أطعمهم من جوع ، قال : الجوع { وآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } الخوف : الجذام .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عامر بن إبراهيم الأَصبهانيّ ، قال : حدثنا خطاب بن جعفر بن أبي المُغيرة ، قال : ثني أبي ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس { وآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } قال : الخوف : الجذام .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أنه { آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } والعدوّ مخوف منه ، والجذام مخوف منه ، ولم يخصُصِ الله الخبر عن أنه آمنهم من العدوّ دون الجذام ، ولا من الجذام دون العدوّ ؛ بل عمّ الخبر بذلك ، فالصواب أن يُعَمّ كما عمّ جلّ ثناؤه ، فيقال : آمنهم من المعنيين كليهما .
ثم أمرهم بالعبادة بعد ، وأعلمهم أن الله تعالى هو الذي { أطعمهم } { وآمنهم } لا سفرهم ، المعنى : فليعبدوا الذي أطعمهم بدعوة إبراهيم حيث قال : { وارزقهم من الثمرات }{[1]} ، وآمنهم بدعوته حيث قال : { رب اجعل هذا البلد آمناً }{[2]} [ إبراهيم : 35 ] ولا يشتغلوا بالأسفار التي إنما هي طلب كسب وعرض دنيا ، وقال النقاش : كانت لهم أربع رحل ، وهذا قول مردود . وقال عكرمة : معنى الآية كما ألفوا هاتين الرحلتين لدنياهم { فليعبدوا رب هذا البيت } لآخرتهم ، وقال قتادة : إنما عددت عليهم الرحلتان ؛ لأنهم كانوا يأمنون الناس في سفرتهم ، والناس بغير بعضهم على بعض ، ولا يمكن قبيلاً من العرب أن يرحل آمناً ، كما تفعل قريش ، فالمعنى فليعبدوا الذي خصهم بهذه الحال فأطعمهم وآمنهم ، وقوله تعالى : { من جوع } معناه أن أهل مكة قاطنون بواد غير ذي زرع عرضة للجوع والجدب لولا لطف الله تعالى ، وأن جعلها بدعوة إبراهيم تجبى إليها ثمرات كل شيء ، وقوله تعالى : { من خوف } أي جعلهم لحرمة البيت مفضلين عند العرب يأمنون والناس خائفون ، ولولا فضل الله تعالى في ذلك لكانوا بمدارج المخاوف ، وقال ابن عباس والضحاك : { من خوف } معناه من الجذام فلا ترى بمكة مجذوماً .