التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۭ} (4)

1

ختام السورة:

تعليق على قريش والبيت

والرحلات التجارية

واختصاص قريش بالذكر إما لأنهم أول من وجهت إليهم الدعوة ، أو لأنهم كانوا قدوة العرب بسبب جوارهم وسدانتهم للكعبة التي كانت تسمى بيت الله ، وكانت محجا للعرب أجمع ، والتي كان لهم بسببها المركز المحترم بين العرب ، أو لأن زعماء قريش وأثرياءهم كانوا يقفون متمردين في وجه الدعوة ، ويحولون دون استجابة الناس إليها ، وينالون بالأذى من قدروا عليه من المستجيبين إليها ، ومن الجائز أن يكون كل هذا مما قصد إليه بهذا الاختصاص الذي فيه شيء من التنديد ، كأنما يقال لهم : إن عليكم بدلا من أن تفعلوا ذلك أن تكونوا أولى الناس بالاستجابة إلى دعوة الله شكرا على نعمته ، واعترافا بفضله .

ولقد كانت قريش تدرك خطورة مركزها ، وتدرك أنها مدينة به وبما تتمتع به من خيرات وبركات وأمن ورغد رزق للكعبة ، على ما يمكن أن تدل عليه آية سورة المائدة هذه : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدى والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم97 } وآية سورة القصص هذه : { وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون57 } وآية سورة العنكبوت هذه : { أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون67 } وآيات سورة الحج هذه : { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم25 وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك به شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود26 وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق27 ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير28 } . ولقد ظل معظم العرب من بدو وحضر منقبضين عن الدعوة إلى السنة الهجرية الثامنة ، فلما يسّر الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم فتح مكة ودخل أهلها في الإسلام أخذ الناس يدخلون في دين الله أفواجا على ما جاء في سورة النصر : { إذا جاء نصر الله والفتح1 ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا2 فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا3 } حيث يبدو من هذا أثر الموقف الذي وقفته قريش بزعامة سادتها وكبرائها وأغنيائها في سيرة الدعوة الإسلامية الذي يدل على ما كان لها من خطورة في المجتمع العربي ، وعلى هدف هذه السورة التي اختصتهم بالهتاف ، وذكرتهم بأفضال الله عليهم ، ونبهتهم إلى وجوب مقابلة ذلك بالشكر ، والاستجابة لدعوته .

ولقد تعددت الأقوال في معنى قريش واشتقاقها ، فهناك قول بأن هذا الاسم مقتبس من اسم دابة بحرية قوية تظهر في سواحل البحر الأحمر الحجازية وهي القرش . وهناك قول بأنه من التقرش بمعنى التجمع ، أو التقرش بمعنى التجارة ، وهناك قول بأن هذا الاسم أطلق على بطون قريش قبل قصي الجد الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم الذي اجتمعت هذه البطون تحت لوائه ، والإجماع منعقد على أن هذه القبيلة تمت إلى عدنان أولا ومضر ثانيا من الأجداد الأولين . وقد كان من المتداول قبل البعثة النبوية أن عدنان من أنسال إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام الذي أسكنه أبوه في وادي مكة ، وتزوج من جرهم إحدى قبائل العرب فيه . وإسكان إبراهيم لابنه إسماعيل في وادي مكة مشار إليه في القرآن في آية سورة إبراهيم هذه : { ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون37 } .

ولقد ذكر في الإصحاح السادس عشر من سفر التكوين المتداول اليوم -وهو أول أسفار العهد القديم- أن إبراهيم عليه السلام صرف إسماعيل مع أمه تلبية لطلب سارة زوجته التي غارت منهما ، وأن هاجر تاهت مع ابنها في برية بئر سبع ، ونفد الماء منها ، وخشيت أن يموت الصبي من العطش ، وبكت ورفعت صوتها ، فأرسل الله إليها ملاكا طمأنها ووعدها بأنه سيجعله أمة كبيرة ، وكشف لها عن بئر ماء . وأن الله كان مع الغلام وأمامه مع أمه في برية فاران ، واتخذت له أمه امرأة من أرض مصر . وباستثناء الخبر الأخير ، فإن نفس القصة مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن جملة ذلك أن البئر الذي كشفه لها الملاك هو بئر زمزم ، أو ماء زمزم . وعلماء المسلمين بناء على ذلك يفسرون فاران بوادي مكة . ويوردون بعض الأدلة على صحة تفسيرهم . والنص القرآني يؤيد ذلك . وسفر التكوين وسائر الأسفار المتداولة الأخرى قد كتبت بعد موسى عليه السلام بمدة طويلة ، وطرأ عليها تحريفات وتشويهات متنوعة على ما سوف نشرحه في مناسبات أخرى . والواجب على المسلم أن يؤمن بما جاء في القرآن . وليس هناك أي دليل تاريخي يقيني أو أي دليل عقلي صحيح يناقضه{[1]} . ونرجح إلى هذا أنه كان في أيدي اليهود أسفار ذكرت ما هو متطابق مع القرآن الكريم وضاعت كما ضاع كثير غيرها على ما سوف نشرحه كذلك في مناسبة آتية .

ومهما يكن من أمر فإن اسم قريش كان يطلق على القبيلة المسماة به قبل البعثة بمدة غير قصيرة على ما تؤيده الروايات ، وعلى ما يلمح في سورة قريش التي نحن في صددها .

ولقد كانت قريش قبل البعثة مؤلفة من عدة بطون ، وكان في مكة من رؤساء بطون قريش البارزة حكومة ، أو شبه حكومة ، أو حكومة شيوخ ، لكل بطن أو عشيرة مركز معين فيها ينتقل في زعماء العشيرة أو البطن جيلا بعد جيل ، ومن هذه المراكز ما هو ديني مثل سدانة الكعبة وحجابتها وسقاية الحج ورفادته [ ضيافته وقراه ] ، ومنها ما هو سياسي مثل اللواء وقيادة الجيش والسفارة ، ومنها ما هو اجتماعي مثل الأنساب والأشناق -أي تأمين الديات التي تطلب من بطون القبيلة- ، وكان بين أصحاب المراكز تضامن وتساند ، وكان لهم دار ندوة قرب الكعبة يجتمعون فيها للمداولة في مختلف شؤون القبيلة ، وقد كان هذا مع كونهم أهل حرم الله وسدنته وسقايته وعمارته ، مما جعل لهذه القبيلة خطورة واحتراما بين سائر العرب ، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من أحد بطون قريش البارزة ، وهو بطن هاشم . وكان عمه العباس صاحب مركز هذا البطن ، وكان يتولى سقاية الحج ، أي أمر توفير المياه للحجاج في موسم الحج{[2]} .

والمتبادر أن تعبير " البيت " والإشارة القريبة إليه ، وتذكير قريش بما كان من أفضال الله عليهم ، متصل بتلك الخطورة وإدراكها ، والتعبير يلهم أن قريشا كانوا يعتقدون أن الكعبة بيت الله ، والآيات التي أوردناها تلهم أن العرب كانوا يشاركون قريشا في هذه العقيدة . ويحجون الكعبة ، وهي المرادف القرآني للبيت على ما جاء في الآية [ 97 ] من سورة المائدة . ويحترمون حرمها وقدسيتها وأمنها على أساس هذه العقيدة . وكانت الحرمة والقدسية شاملة لجميع منطقة مكة على ما تفيده الآيات العديدة التي منها آية سورة النمل هذه : { إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين91 } ، ومنها آيات سورة [ القصص ، 57 ] و[ سورة العنكبوت ، 67 ] التي أوردناها آنفا . وعلى هذا ، فإن الكعبة وحجها كان نوعا ما مظهرا لوحدة عربية دينية قبل البعثة . وقد اقتضت حكمة الله عز وجل أن يبقى تقليد الحج وحرمة الحرم المكي ومعظم طقوسه بعد تنقيتها من شوائب الشرك في الإسلام بسبب ذلك على ما هو المتبادر . والله أعلم .

والكعبة غرفة مثمنة الأضلاع تقوم في وسط الحرم المكي . ولها باب مرتفع عن الأرض بنحو متر ، ثم يرتفع البناء إلى نحو خمسة أمتار ، ويقوم السقف على ستة أسطوانات مرمرية . ويبلغ مسطحها الداخلي نحو ثلاثين مترا ، والبناء الحاضر هو بناء إسلامي ، وقد تجدد ورمم في الإسلام أكثر من مرة . وهو مكان بناء قديم وعلى صورته التي كان عليها قبل البعثة . وهذه الصورة ليست هي القديمة الأولى ، وإنما كانت تجديدا لها أيضا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته ، حيث تروي روايات السيرة أن البناء القديم تصدع فهدمه القرشيون وجددوه ، ومما روته هذه الروايات أن زعماء قريش اختلفوا على من يضع الحجر الأسود في ركنه المعتاد ، وهو حجر صواني لامع بقدر بلاطة عادية كانوا يقدسونه ويستلمونه أو يقبلونه عند الطواف حول الكعبة ، فحكموا النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر ؛ لأنه كان مشهورا عندهم بالأمانة ورجحان العقل ، فوضعه في رداء ، وطلب من الزعماء أن يحملوا الرداء ويرفعوه جميعا ، حتى إذا بلغ مستوى مكانه وضعه فيه بيده الشريفة{[3]} .

وروايات المفسرين متعددة في أصل هذا الحجر ؛ حيث يذكر بعضها أن الحجر من زمن إبراهيم ، وبعضها أنه هدية من السماء . وليس هذا واردا في كتب الأحاديث الصحيحة . والاحتمال الأقوى أن يكون قطعة من نيزك سقط من السماء على أرض مكة ، فاعتبروه هدية سماوية وقدسوه ووضعوه في ركن بيت عبادتهم المقدس . وقد هدم البناء من قبل عبد الله بن الزبير لما أعلن خلافته في سنة 62ه ووسعه ، وأدخل فيه المقام المسمى بحجر إبراهيم ، وجعل له بابين ؛ لأن هناك حديثا رواه البخاري عن عائشة قالت : ( قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألم تري أن قومك بنوا الكعبة واقتصروا عن قواعد إبراهيم . فقلت : يا رسول الله ، ألا تردها على قواعد إبراهيم ؟ قال : لولا حدثان قومك بالكفر . فقال ابن عمر : لئن كانت عائشة سمعت هذا من النبي صلى الله عليه وسلم ما أراه ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم " {[4]} . وفي الجزء الأول من طبقات ابن سعد ورد هذا النص مع زيادة جاء فيه : " فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه ، فهلم أريك ما تركوا منه ، فأراها قريبا من سبع أذرع في الحجر ، قالت عائشة : وقال رسول الله : " ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض شرقا وغربا " {[5]} .

ثم تصدع في زمن ابن الزبير نتيجة لضرب مكة بالمجانيق من قبل الحجاج قائد عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي الذي قاد حملة لإرغام ابن الزبير ؛ حيث كان يعتبر خارجا متمردا على الدولة . فلما تمت الغلبة له على ابن الزبير هدم الكعبة وأعاد بناءها إلى الصورة التي كانت عليها قبيل البعثة ، ثم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتصدع البناء ورمم وجدد بعد ذلك ، وكان يعاد إلى هذه الصورة التي هو عليها الآن .

وهناك أحاديث أخرى وردت في الكتب الخمسة في صدد الكعبة غير التي أوردناها فيها بعض الصور التي كانت ، وتأييد لما ذكرناه استنادا إلى الروايات . منها حديث رواه البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة ، فأمر بها فأخرجت ، فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قاتلهم الله ، أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط " ، فدخل البيت فكبر في نواحيه ){[6]} .

وحديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال : ( دخل رسول الله البيت هو وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة ، فأغلقوا عليهم ، فلما فتحوا كنت أول من ولج ، فلقيت بلالا فسألته : هل صلى فيه رسول الله ؟ قال : نعم ، بين العمودين اليمانيين ، وفي رواية : جعل عمودا عن يساره ، وعمودين عن يمينه ، وثلاثة أعمدة وراءه ، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ، ثم صلى ){[7]} . وحديث رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي عن عائشة قالت : ( كنت أحب أن أدخل البيت وأصلي فيه ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأدخلني في الحجر ، فقال : " صلي في الحجر إن أردت دخول البيت ، فإنما هو قطعة من البيت ، فإن قومك اقتصروا حين بنوا الكعب فأخرجوه من البيت " {[8]} . وحديث رواه الخمسة عنها قالت : ( سألت رسول الله عن الجدار : أمن البيت هو ؟ قال : " نعم " . قلت : فلم لم يدخلوه في البيت ؟ قال : " إن قومك قصرت بهم النفقة " . قلت : فما شأن بابه مرتفعا ؟ قال : " فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا ، ويمنعوا من شاؤوا . ولولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدر في البيت ، وأن ألزق بابه بالأرض " . وفي رواية : " لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض ، وجعلت لها بابين : بابا شرقيا وبابا غربيا . باب يدخلون منه ، وباب يخرجون منه ، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر ، فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة " ){[9]} .

أما بناء الكعبة [ البيت ] وقدسيتها وجعل حرمها آمنا لا يقع فيه قتال ، ولا يسفك فيه دم ، وحجها ، فالقرآن يقرر أن ذلك يرجع إلى عهد إبراهيم عليه السلام الذي يخمن وجوده في القرن الثالث والثلاثين أو الرابع والثلاثين قبل الهجرة النبوية . والقرن التاسع عشر أو العشرين قبل الميلاد المسيحي على ما تفيد آيات سورة الحج [ 25-28 ] التي أوردناها قبل وآيات سورة البقرة هذه : { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود125 وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير126 وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم127 ربنا واجعل مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم128 ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم129 } . وآيات سورة آل عمران هذه : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين96 فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين97 } .

والمرجح أن العرب كانوا يعتقدون ذلك قبل البعثة ويتناقلونه جيلا عن جيل ، ويشيرون إلى علامات موجودة في حرم الكعبة تدل عليه . وهي ما عبر عنه في آيات البقرة وآل عمران بجملة { مقام إبراهيم } وجملة { آيات بينات مقام إبراهيم } ؛ حيث كانوا يرون أثرا في حجرا كبير لقدم إنسانية ، ويتداولون أنه الحجر الذي كان يقف عليه إبراهيم فيما كان يرفع قواعد البيت مع إسماعيل على ما ذكرته آيات البقرة ، وانطبع عليه أثر قدمه فسموه مقام إبراهيم ، وقد أقر القرآن التسمية ، وأمر المسلمين باتخاذه مصلى .

ولقد أشار ديودور الصقلي من أهل القرن الأول قبل الميلاد إلى الكعبة في سياق كلام عن الأنباط حيث قال : ( ووراء أرض الأنباط بلاد فيها هيكل يحترمه العرب كافة احتراما كبيرا ){[10]} وحيث يدل هذا على تقدم وجود الكعبة على زمنه بمدة طويلة ، وعلى ما كان لها من احترام شامل .

والقرآن يقرر أنه { أول بيت وضع للناس } آل عمران [ 96 ] . والمؤولون{[11]} يؤولون الجملة بأنها أول بيت قام في الأرض لعبادة الله . ويروي المفسرون{[12]} في سياق ذلك روايات كثيرة عن هذه الأولية . منها أن الله قد خلق الكعبة قبل الأرض بألفي سنة ؛ إذ كان عرشه على الماء ، ودحيت الأرض من تحته . وأن الله بعث الملائكة فبنتها على مثال بيت لعبادتهم في السماء اسمه البيت المعمور . وأنها كانت موجودة قبل آدم ، أو أن آدم هو أول من بناها بأمر الله على مثال ذلك البيت وطاف بها . وأنها رفعت زمن الطوفان إلى السماء ، أو هدمت به ، فأمر الله إبراهيم وإسماعيل بإعادة بنائها في مكانها الذي كشف الله لهما عنه ، وعلى مثالها الأول . وهناك من قال : إن هذه الأولية تعني كون الكعبة أول مكان جعل للناس قبلة ومحجا وأمانا لمن يدخله ، أو أول بيت وضعت فيه البركة . وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة ، وإن كان القولان الأخيران هما -على ما يتبادر- الأكثر ورودا ووجاهة .

وهناك حديث رواه الشيخان والنسائي عن أبي ذر قال : ( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض ؟ قال : " المسجد الحرام " ، قلت : ثم أي ؟ قال : " المسجد الأقصى " ، قلت : كم بينهما ؟ قال : " أربعون عاما . ثم الأرض لك مسجد ، فحيثما أدركتك الصلاة فصل " ){[13]} . والمسجد الأقصى تسمية إسلامية ، والمراد بها لغة المسجد البعيد جدا . والمتفق عليه أن المقصد منها مسجد بيت المقدس ، وقد قام على أنقاض معبد اليهود القديم الذي دمره الرومان في القرن الأول بعد الميلاد . {[14]} ولم يكن مسجد قائم في مكانه حينما نزل القرآن ، فتكون التسمية على اعتبار ما كان قبل وبعد . والمعروف المتداول أن الذي أنشأ ذلك المعبد هو سليمان بن داود عليهما السلام{[15]} الذي عاش على وجه التخمين القريب في القرن العاشر قبل الميلاد ، أي بعد الزمن الذي يخمن أن إبراهيم عاش فيه بألف عام . وهذا يثير إشكالا بالنسبة للحديث كما هو المتبادر . ويزداد هذا الإشكال بحديث رواه النسائي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن سليمان بن داود عليهما السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله عز وجل خلالا ثلاثة : حكما يصادف حكمه فأوتيه ، وملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه ، وسأل الله تعالى حين فرغ من بنائه ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه " {[16]} . حيث ينطوي في الحديث خبر نبوي بأن الذي بنى المسجد هو سليمان عليه السلام ؛ لأن الفقرة الثالثة قوية الدلالة على أن المراد بها هو المسجد .

ولقد حاول ابن القيم في كتابه زاد المعاد أن يحل الإشكال فقال : إن المستشكلين لا يعرفون أن سليمان ليس هو الباني الأول للمسجد ، وإنما هو مجدد له ، وأن الباني الأول هو يعقوب حفيد إبراهيم عليهما السلام ، وتكون المسافة بين الجد وحفيده صحيحة كما في الحديث{[17]} . ولم يذكر ابن القيم من أين استقى هذا ، والراجح أنه قرأ سفر التكوين المتداول اليوم . وفي الإصحاح [ 33 ] من هذا السفر خبر بناء يعقوب مذبحا للرب ، وأنه دعاه باسم القدير إله إسرائيل في قطعة حقل اشتراها عند شليم مدينة أهل شليم ، وشليم هذه كانت عاصمة ملك اسمه : ملكيصادق على ما جاء في الإصحاح [ 14 ] من السفر المذكور ، وشراح الأسفار يراوحون الظن في شليم بين أن تكون مدينة أورشليم التي عرفت باسم بيت المقدس ، أو مدينة يقوم مكانها اليوم قرية اسمها سالم قريبة من نابلس . والظاهر أن ابن القيم رجح الظن الأول ، واعتبر يعقوب هو المنشئ الأول لمسجد بيت المقدس الذي سمي في القرآن والحديث المسجد الأقصى .

وعلى كل حال فإن من واجب المسلم الإيمان بكل ما يثبت صدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا يشمل حديث أبي ذر إذا كان صادرا يقينا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس فيه ما يمنع ذلك . وليس هناك من دليل تاريخي يقيني وعقلي صحيح ينفي ما جاء فيه . وفيه تساوق مع كلام الله الذي يقرر السبق والأولوية للبيت . ومن الحكمة التي قد تلمح فيه بالإضافة إلى ذلك توكيد فضل البيت الذي صار حجه واستقباله في الصلاة من أركان دين المسلمين وصلاتهم على كل بيت آخر من بيوت الله تعالى . ولقد روى الشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في سواه ، إلا المسجد الحرام " {[18]} . وفي رواية ابن ماجه : " وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه " {[19]} . مما فيه توكيد لذلك الفضل الذي تلمح حكمة توكيده في الحديث الأول ، والله تعالى أعلم .

وهناك أحاديث وروايات وشروح أخرى متصلة بظروف وكيفية بناء الكعبة لأول مرة من قبل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وبمناسك الحج جاءت في سياق آيات أخرى في سور أخرى ، فرأينا أن نؤجلها إلى مناسباتها .

وجملة { وآمنهم من خوف } تعني ما كان يتمتع به أهل مكة من أمن بسبب وجود بيت الله في مدينتهم . وهو ما ذكر في آيات [ القصص ، 67 ] و[ النمل ، 91 ] و[ البقرة ، 125-129 ] و[ آل عمران ، 97 ] التي قرر بعضها أن هذا الأمن كان من لدن إبراهيم عليه السلام حين أنشأ الكعبة ؛ حيث دعا الله بأن يجعل البلد آمنا . وقد جاء هذا الدعاء أيضا في آية سورة إبراهيم هذه : { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام35 } . ولقد كان من مظاهر هذا الأمن أن كل إنسان يكون فيه آمنا على دمه وماله من غيره مهما كان بينه وبين هذا الغير من عداء وإحن وثارات ، وسواء أكان من أهل مكة أم غريبا عنها . وكان لمكة -أو لما كان يسمى الحرم- حدود معينة تشمل جميع منطقة مكة إلى مسافة أميال من جميع جوانبها . ولقد كان زعماء مكة يدركون في قرارة أنفسهم أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حق وهدى ، ولكنهم كانوا يخافون أن تنسف هذا التقليد الذي كانوا يتمتعون في ظله بالأمن والرفاه فيما تنسفه من عادات جاهلية ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ما حكته عنه آية [ القصص ، 57 ] : { وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا } وقد طمأنتهم الآية على ذلك إذ قالت : { أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون } [ القصص ، 57 ] ؛ لأن حكمة الله اقتضت أن تبقى معظم تقاليد الحج -ومن جملته أمن مكة- بسبب وجود بيت الله فيها على ما ذكرناه قبل قليل . ولقد أشارت آية في سورة العنكبوت إلى نفس المعنى الذي أشارت إليه هذه الجملة من آية القصص وهي : { أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون67 } .

ولقد وقعت بعض الأحداث التي اعتدي فيها على بعض الناس في حرم مكة ، أي أخل بها في تقليد أمن الحرم ، فنشبت بسبب ذلك وبسبيل تأديب المخلين حروب عرفت بحروب الفجار ، أو أيام الفجار ، وسميت بهذا الاسم ؛ لأنها وقعت في منطقة حرم مكة ، وفي الأشهر الحرم ، وقد شهد أحد الأيام رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أعمامه ، وكان ينبل عليهم ، أي يرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها ، على ما رواه ابن هشام عن أبي عبيدة النحوي ، عن أبي عمرو بن العلاء{[20]} . وقد روى ابن هشام رواية أخرى في حادث متصل بأمن مكة شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جاء فيها أن بني هشام وبني عبد المطلب وبني أسد بن عبد العزى وبني زهرة بن كلاب وبني تميم بن مرة اجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان ، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه ، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته ، وسموا حلفهم هذا حلف الفضول . وكان النبي صلى الله عليه وسلم ممن شهد هذا الحدث . وقد روى ابن هشام هذه الرواية عن زيادة بن عبد الله البكائي ، عن محمد بن إسحاق . وأورد في سياقها حديثا عن محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري يقول : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت " ){[21]} .

وهناك أحاديث نبوية عديدة صحيحة في حرمة بيت الله ومكة -التي هو فيها- ، من ذلك ما جاء في حديث رواه مسلم وأبو داود عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا " {[22]} . وحديث رواه الخمسة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله عز وجل حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين . ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي ، ألا وإنها أحلت لي ساعة من النهار ، ألا وإنها ساعتي هذه حرام . لا يخبط شوكها ، ولا يعضد شجرها ، وزاد في رواية ولا ينفر صيدها ، ولا يلتقط ساقطتها إلا منشد " {[23]} . وحديث رواه الشيخان عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة " . {[24]} وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي شريح العدوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ، ولا يعضد بها شجرة . فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، وليبلغ الشاهد الغائب " {[25]} .

ورحلتا الشتاء والصيف هما رحلتان تجاريتان كان القرشيون يقومون بهما : واحدة إلى اليمن جنوبا في الشتاء ، وأخرى إلى الشام شمالا في الصيف . وكانوا يصلون إلى بلاد الصومال والحبشة في رحلة الجنوب ، وإلى فلسطين ومصر -وربما إلى بلاد العراق وفارس- في رحلة الشمال ، على ما ذكرته الروايات العربية{[26]} ، وأشارت إلى شيء منه آيات سورة الصافات هذه في معرض ذكر مساكن قوم لوط التي كانت في تخوم فلسطين : { وإن لوطا لمن المرسلين133 إذ نجيناه وأهله أجمعين134 إلا عجوزا في الغابرين135 ثم دمرنا الآخرين136 وإنكم لتمرون عليهم مصبحين137 وبالليل أفلا تعقلون138 } وكانت هذه الرحلات وسائل عظيمة لتنمية ثروة القرشيين ، واكتسابهم المهارة التجارية ، واقتباسهم كثيرا من معارف العالم المتحضر الذي كان يحيط بالجزيرة ، ووسائل حضارته ومعيشته . وكانت مواسم الحج والأسواق التي كانت تقام فيها مجالا واسعا لأعمالهم التجارية أيضا ، فضلا عما كان يعقد في هذه المواسم والأسواق من مجالس قضائية وندوات شعرية وخطابية يشهدها وفود من مختلف أنحاء جزيرة العرب وأطرافها التي كان ينتشر فيها العرب ، ويقوم لهم فيها ممالك ، ونعني بلاد الشام حيث كان فيها مملكة الغساسنة ، وبلاد العراق حيث كان فيها مملكة المناذرة أو اللخميين . وكل هذا مما جعل كذلك لقريش خطورتهم واحترامهم ، ومما ساعدهم على الاستنارة والتفوق الاجتماعي والاقتصادي والثقافي .

فالدعوة المحمدية انبثقت في هذا الوسط الذي كانت له زعامة موطدة ، وخطورة مفروضة ، وحرمات محترمة ، ومصالح متنوعة ، في الحجاز بنوع خاص ، وفي خارجها بنوع عام . وقد توهم الزعماء في هذه الدعوة تهديدا لزعامتهم وخطورتهم ومصالحهم وحرماتهم ، فكان منهم المواقف المناوئة التي حكت فصول القرآن عنها الشيء الكثير ، فاقتضت حكمة التنزيل توجيه الهتاف في هذه السورة إلى قريش وزعمائهم في الجملة للكف عنها ، وشكر الله على نعمه وأفضاله التي يسرها لهم ، والاستجابة لدعوته وعبادته بدلا منها .


[1]:التاج جـ 5 ص 382.
[2]:كتب السيد رشيد رضا في تفسيره في صدد هذه النقطة وفي سياق آية مماثلة للآية هنا وهي الآية [128] من سورة الأنعام أكثر من خمس وعشرين صفحة استعرض فيها أقوال من يقول بالتأييد ومن يقول بخلافه وأورد حججهم النقلية والعقلية وانتهى إلى إناطة الأمر إلى حكمة الله ورحمته وعدله.
[3]:التاج جـ 5 ص 173 و 174.
[4]:التاج جـ 5 ص 173 و 174.
[5]:انظر تفسير الآيات في كشاف الزمخشري
[6]:تفسير الخازن
[7]:التاج ج 2 ص 300 والمقصود أن الحمو هو غير المحرم من أقارب الزوج.
[8]:التاج ج 2 ص 301
[9]:التاج ج 2 ص 301
[10]:المصدر نفسه ص 300
[11]:المصدر نفسه ص 287
[12]:التاج ج 2 ص 287
[13]:المصدر نفس ص 286
[14]:التاج ج 2 ص 271 و 272 ونكتفي بهذا الحديث ليرجع من شاء إلى كتب الحديث فيجد عشرات الأحاديث التي تستند ما قلناه.
[15]:المصدر نفسه.
[16]:التاج 1/107
[17]:انظر المصدر نفسه
[18]:المصدر نفسه
[19]:المصدر نفسه
[20]:المصدر نفسه
[21]:التاج ج 5 ص 29 ـ 30
[22]:المصدر نفسه
[23]:المصدر نفسه
[24]:المصدر نفسه ص 38
[25]:المصدر نفسه
[26]:التاج ج 1 ص 51