ثم وصف نفسه الأقدس بما هو ثمرة الرحلتين ، ومظهر لزيادة شرف البيت ، فقال تعالى : { الذي أطعمهم } أي قريشاً بحمل الميرة إلى مكة بالرحلتين ، آمنين من أن يهاجوا ، وبإهلاك الذين أرادوا إخراب البيت الذي به نظامهم ، إطعاماً مبتدئاً { من جوع * } أي عظيم فيه غيرهم من العرب ، أو كانوا هم فيه قبل ذلك ؛ لأن بلدهم مهيأ لذلك ؛ لأنه ليس بذي زرع ، فهم عرضة للفقر الذي ينشأ عنه الجوع ، فكفاهم ذلك وحده ، ولم يشركه أحد في كفايتهم ، فليس من الشكر إشراكهم في عبادته ، ولا من البر بأبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي دعا لهم بالرزق ، ونهى أشد النهي عن عبادة الأصنام ، ولم يقل : أشبعهم ؛ لأنه ليس كلهم كان يشبع ، ولأن من كان يشبع منهم طالب لأكثر مما هو عنده
" ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب " .
ولما ذكر السبب في إقامة الظاهر ، ذكر السبب في إقامة العيش بنعمة الباطن فقال : { وآمنهم } أي تخصيصاً لهم { من خوف * } أي شديد جداً من أصحاب الفيل ، ومما ينال من حولهم من التخطف بالقتل والنهب والغارات وبالأمن من الجذام بدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ومن الطاعون والدجال بتأمين النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن ذلك تسبب الاتحاف بما خصهم به من الإيلاف ، فعلم أن آخرها علة لأولها ، ويجوز أن يكون إلفهم للبلد وقع أولاً ، فحماه الله لهم مما ذكر ، فيكون ذلك مسبباً عن الإلف ، فيكون أولها علة لآخرها ، فقد التقى الطرفان ، والتأم البحران المغترفان .
وكما التقى آخر كل سورة مع أولها ، فكذلك التقى آخر القرآن العظيم بأوله بالنسبة إلى تسع سور هذه أولها إذا عددت من الآخر إليها ، فإن حاصلها المن على قريش بالإعانة على المتجر إيلافاً لهم بالرحلة فيه ، والضرب في الأرض بسببه ، واختصاصهم بالأمر بعبادة الذي منّ عليهم بالبيت الحرام ، وجلب لهم به الأرزاق والأمان ، ومن أعظم مقاصد التوبة - المناظرة لهذه بكونها التاسعة من الأول - البراءة من كل مارق ، وأن فعل ذلك يكون سبباً للألفة بعد ما ظن أنه سبب الفرقة ، وذكر مناقب البيت ، ومن يصلح لخدمته ، والفوز بأمانه ونعمته ، والبشارة بالغنى على وجه أعظم من تحصيله بالمتجر ، وأبهى وأبهر ، وأوفى وأوفر ، وأزهى وأزهر ، وأجل وأفخر ، بقوله تعالى : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم } الآيات ، [ التوبة : 17 ] وقوله تعالى : { وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله }[ التوبة : 28 ] فعلم بهذا علماً جلياً أنه شرع سبحانه في رد المقطع على المطلع من سورة قريش الذين أكرمهم الله بإنزال القرآن بلسانهم ، وأرسل به النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ، كما أكرمهم ببناء البيت في شأنهم ، وتعظيمه لغناهم وأمانهم ، ومن أعظم المناسبات في ذلك كون أول السورة التي أخذ فيها في رد المقطع على المطلع شديد المشابهة للسورة المناظرة لها ، حتى إن في كل منهما مع التي قبلها كالسورة الواحدة ، فإن براءة مع الأنفال كذلك ، حتى قال عثمان رضي الله تعالى عنه : إن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ولم يبين أمرها ، فلم يتحرر له أنها مستقلة عنها ، ولذلك لم يكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ، وكانت هذه التي من الآخر مقطوعاً بأنها مستقلة مع ما ورد من كونها مع التي قبلها سورة واحدة في مصحف أبيّ رضي الله تعالى عنه ، وقراءة عمر رضي الله عنه لهما على وجه يشعر بذلك كما مضى إشارة إلى أن الآخر يكون أوضح من الأول ، ومن أغرب ذلك أن السورتين اللتين قبل سورتي المناظرة بين أمريهما طباق ، فالأولى في الآخر -وهي الفيل- أكرم الله فيها قريشاً بإهلاك أهل الإنجيل ، والأولى في الأول -وهي الأنفال- أكرمهم الله فيها بنصر أهل القرآن عليهم بإهلاك جبابرتهم ، فكان ذلك سبباً لكسر شوكتهم وسقوط نخوتهم المفضي إلى سعادتهم ، وعلم أن البراءة وغيرها إنما عمل لإكرامهم ؛ لأنهم المقصودون بالذات وبالقصد الأول بالإرسال ، والناس لهم تبع ، كما أن جميع الرسل تبع للرسول الفاتح الخاتم الذي شرفوا بإرساله إليهم صلى الله عليه وسلم ، وكان عدد التسع مشيراً إلى أن قريشاً أهل لأن يتصلوا بعروج الأسرار في الملكوت إلى الفلك التاسع ، وهو العرش الذي هو مقلوب الشرع ، فهم يصعدون بأسرار الشرع - التي من أعظمها الصلاة - من الأسفل إلى الأعلى من الطرفين معاً ، كما أنه يتنزل عليهم بالبركات من الجانبين ، وإذا ضممت التسع الأولى إلى الأخرى كانت ثمان عشرة ، فكانت مشيرة إلى ركعات الصلوات مضموماً إليها الوتر ، وإلى ظهور الدين ظهوراً كاملاً على غالب أقطار الأرض ، كما كان في سنة ثمان وعشرين ، وهي الثامنة عشرة من موت النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك في أثناء خلافة عثمان رضي الله عنه ، فإنه كان فيها قد تمزق ملك كسرى وضعف جداً ، وكذا ملك الروم مع ما كان من زوال أمر القبط بالكلية ، ومن بديع الإشارات أيضاً أنك إذا نظرت إلى نزول براءة وجدته سنة تسع من الهجرة في غزوة تبوك وعقب الرجوع منها ، فكان كونها تاسعة ونزولها في السنة التاسعة مشيراً إلى كون الدين يظهر على كل مخالف بعد تسع سنين ، وهي السنة الثامنة من موت النبي صلى الله عليه وسلم في وسط خلافة الفاروق حين ظهر المسلمون على الفرس والروم ، فقتلوا رجالهم ، وانتثلوا أموالهم ، كما كان قد ظهر عند نزولها على عباد الأوثان من العرب ، ومن الغريب أن قصة الفيل كانت سنة مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، فهي قبل النبوة بأربعين سنة بعدد كلمات السورتين : الفيل وقريش ، فإن الفيل ثلاث وعشرون ، وقريش سبع عشرة ، وذلك - والله أعلم - إشارة إلى أن ابتداء الأمن - بإهلاكهم والإشباع بنهب ما كان معهم من أموالهم ومتاعهم - كان لمولده صلى الله عليه وسلم ، وتشريف الوجود بوجوده ، ويكون ذلك ظاهراً كما كان السبب - الذي هو وجوده صلى الله عليه وسلم - ظاهراً ، وإلى أن وسطه يكون بنبوته صلى الله عليه وسلم ، ويكون ذلك باطناً ، كما أن السبب - وهو الوحي باطن ، ثم كان أمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم في السنة الثامنة الموازية لعدد كلمات البسملتين على يد النجاشي ملك الحبشة الذين كان الأمن أولاً بإهلاكهم ، وإذا ضممت إليها أحد عشر ضميراً - سبعة في الفيل وأربعة في قريش - كانت تسعاً وخمسين توازيها إذا حسبت من المولد سنة ست من الهجرة ، وفيها كانت عمرة الحديبية وهي الفتح السببي الخفي ، وإلى ذلك أشار صلى الله عليه وسلم بقوله في بروك ناقته الشريفة حين بركت فقالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم : خلأت القصوى - أي حرنت : " ما خلأت ، ولكن حبسها حابس الفيل " ، وفيها نزلت سورة الفتح ، فكان سبب الأمن العظيم والغنى ، وعقبها في سنتها كان البعث إلى ملوك الأمصار ، وفتح خيبر وانبساط ذكر الإسلام في جميع الأقطار ، وكذا كان عقبها قبل عمرة القضية إسلام عمرو بن العاص على يد النجاشي لما سأله أن يعطيه عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه ليقتله ، وذلك حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي رضي الله عنهما يدعوه إلى الإسلام ، فأنكر النجاشي ذلك على ابن العاص ، وشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة ، وأمره بأن يؤمن به ، ففعل فكان ملك الحبشة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ناجياً هادياً ، وإلى النبي صلى الله عليه وسلم داعياً ، عكس ما كان لملك الحبشة بمولده صلى الله عليه وسلم من أنه كان هالكاً ، وإلى الجحيم هاوياً ، وإن حسبت من سنة بنيان الكعبة في الخامسة والعشرين من مولده صلى الله عليه وسلم كانت السنة التاسعة والخمسون هي الحادية والثلاثون بعد الهجرة ، وهي سنة استئصال ملك الفرس بقتل آخر ملوكهم يزدجرد ، والفرس هم الذين أزالوا الحبشة عن بلاد اليمن ، وطهروا منهم أرض العرب ، ولعل قسمة السورتين إلى ثلاث وعشرين وسبع عشرة إشارة إلى أن هذا المولد الشريف الذي حرست الكعبة بمولده صلى الله عليه وسلم ، وحصل الأمن والعز ببركته ، تبنى الكعبة وتجدد بعد بضع وعشرين سنة من مولده ، قالوا : كان بنيانها وسنه خمس وعشرون سنة ، فلعله كان في آخر الرابعة والعشرين ، ولعل قصة الفيل كانت وله نحو سنة من حين الولادة ، وبه حين البنيان ألف الله بين قريش بعد أن كانوا تنافروا أشد المنافرة ، وتعاقدوا على الحرب في أمر الحجر الأسود من يضعه في موضعه ، حتى أصلح الله بينهم به صلى الله عليه وسلم ، فوضعه بيده الشريفة في ثوب ، وأمرهم ، فأمسكت جميع القبائل بأطرافه ، ثم رفعوه حتى وازوا به موضعه ، فأخذه هو صلى الله عليه وسلم فوضعه في مكانه ، فكان الشرف له خاصة في الإصلاح والبنيان ، وتشير مع ذلك إلى أنه يبقى في النبوة ثلاثاً وعشرين سنة ، ثم يتوفاه الله سبحانه وتعالى بعد أن جعل الله كيد جميع الكفرة في تضليل من عباد الأوثان والفرس والروم وغيرهم بما فتح الله عليه من جزيرة العرب التي ألف الله بها بين كلمتهم ، حتى انسابوا على غيرهم ، فما وافقهم أحد ناوشوه القتال وساوموه النضال والنزال ، ولعل الإشارة بكون قريش سبع عشرة كلمة إلى أنه صلى الله عليه وسلم بعد سبع عشرة سنة من بنيان البيت يبعثه الله سبحانه وتعالى لأمر قريش بالعبادة التي أجلّها الصلاة التي أعظمها الفرائض التي هي سبع عشرة ركعة شكراً لنعمة من آمنهم من خوف وأطعمهم من جوع بأعظم العبادة ، وإلى أن ابتداء ألفة قريش بالقوة القريبة من الفعل بعد الشتات العظيم الظاهر ، وجعل كيد الكفار في تضليل يكون في السنة السابعة عشرة من النبوة ، وذلك سنة أربع من الهجرة ، فإن فيها كان إجلاء بني النضير من اليهود من المدينة الشريفة ، وإخلاف قريش الموعد في بدر الموعد ، وهناً منهم عن لقاء جيش النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت بعد بيسير غزوة الأحزاب ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصرافهم : " الآن نغزوهم ولا يغزونا " ، يعني أن نخوة الشيطان منهم وحمية الجاهلية أخذت في الاضمحلال لانتهاء قوتهم في الباطل الذي كان سبب عزهم الظاهري الذي هو الذل في الباطن ، وكان ذلك ابتداء عزهم في الباطن الذي هو ذلهم لأهل الإسلام في الظاهر ، وفي أثر الأحزاب كانت غزوة بني قريظة ، فإذا ضممت إلى الكلمات الضمائر الأربعة كانت إحدى وعشرين توازيها سنة ثمان من الهجرة ، وهي سنة الفتح الأعظم الذي وقعت به الألفة العظمى بين قريش وأمنهم وغناهم الذي وعدهم الله به في السورة المناظرة لها - وهي براءة - باتئلاف جميع العرب ، وانبعاثهم لاجتماع كلمتهم إلى جهاد الفرس والروم والقبط وأخذهم لبلادهم ، وانتثالهم لكنوزهم ، وتحكمهم في نسائهم وأولادهم ، فسبحان من هذا كلامه ، وتعالى شأنه وعز مرامه .