{ وأنا كنا نقعد منها } من السماء ، { مقاعد للسمع } أي : كنا نستمع ، { فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً } أرصد له ليرمى به . قال ابن قتيبة : إن الرجم كان قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لم يكن مثل ما كان بعد مبعثه في شدة الحراسة ، وكانوا يسترقون السمع في بعض الأحوال ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم منعوا من ذلك أصلاً .
{ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا } أى من السماء { مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ } أى : كنا نقعد منها مقاعد كائنة للسمع ، خالية من الحرس والشهب .
{ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن } بعد نزول القرآن ، الذى هو معجزة للنبى صلى الله عليه وسلم والذى آمنا به وصدقناه .
{ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } أى : فمن يجلس الآن ليسترق السمع من السماء يجد له شهابا معدا ومهيأ للانقضاض عليه فيهلكه .
فالرصد : جمع راصد ، وهو الحافظ للشئ ، وهو وصف لقوله " شهابا " .
والفاء فى قوله : { فَمَن يَسْتَمِعِ الآن } للتفريع على محذوف ، وكلمة " الآن " فى مقابل كلمة " كنا " الدالة على المحذوف .
والتقدير : كنا نقعد منها مقاعد للسمع ، فنستمع أشياء ، وقد انقضى ذلك ، وصرنا من يستمع الآن منا يجد له شهابا رصدا ، ينقض عليه فيحرقه .
والمقصود من هاتين الآيتين : تأكيد إيمانهم بالله - تعالى - ، وبرسوله صلى الله عليه وسلم ، وحض غيرهم على اتباعهم ، وتحذيرهم من التعرض لاستراق السمع .
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهاتين الآيتين : " يخبر الله - تعالى - عن الجن حين بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن ، وكان من حفظه له أن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا ، وحفظت من سائر أرجائها ، وطردت الشياطين عن مقاعدها التى كانت تقعد فيها قبل ذلك ، لئلا يسترقوا شيئا من القرآن ، فيلقوه على ألسنة الكهنة ، فيلتبس الأمر ويختلط ولا يدرى من الصادق ، وهذا من لطف الله بخلقه ، ورحمته بعباده ، وحفظه لكتابه العزيز ، ولهذا قالت الجن : { وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً . وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } أى : من يروم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابا مرصدا ، لا يتخطاه ولا يتعداه ، بل يمحقه ويهلكه " .
وقال بعض العلماء : والصحيح أن الرجم كان موجودا قبل المبعث . فلما بعث صلى الله عليه وسلم كثر وازداد ، كما ملئت السماء بالحرس والشهب .
وليس فى الآية دلالة على أن كل ما يحدث من الشهب إنما هو للرجم ، بل إنهم إذا حاولوا استراق السمع رجموا بالشهب ، وإلا فالشهب الآن وفيما مضى قد تكون ظواهر طبيعية ولأسباب كونية . .
ويمضي الجن في حكاية ما لقوه وما عرفوه من شأن هذه الرسالة في جنبات الكون ، وفي أرجاء الوجود ، وفي أحوال السماء والأرض ، لينفضوا أيديهم من كل محاولة لا تتفق مع إرادة الله بهذه الرسالة ، ومن كل إدعاء بمعرفة الغيب ، ومن كل قدرة على شيء من هذا الأمر :
( وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا . وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا . وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ? ) . .
وهذه الوقائع التي حكاها القرآن عن الجن من قولهم ، توحي بأنهم قبل هذه الرسالة الأخيرة - ربما في الفترة بينها وبين الرسالة التي قبلها وهي رسالة عيسى عليه السلام - كانوا يحاولون الإتصال بالملأ الأعلى ، واستراق شيء مما يدور فيه ، بين الملائكة ، عن شؤون الخلائق في الأرض ، مما يكلفون قضاءه تنفيذا لمشيئة الله وقدره . ثم يوحون بما التقطوه لأوليائهم من الكهان والعرافين ، ليقوم هؤلاء بفتنة الناس وفق خطة إبليس ! على أيدي هؤلاء الكهان والعرافين الذين يستغلون القليل من الحق فيمزجونه بالكثير من الباطل ، ويروجونه بين جماهير الناس في الفترة بين الرسالتين ، وخلو الأرض من رسول . . أما كيفية هذا وصورته فلم يقل لنا عنها شيئا ، ولا ضرورة لتقصيها . إنما هي جملة هذه الحقيقة وفحواها .
وهذا النفر من الجن يقول : إن استراق السمع لم يعد ممكنا ، وإنهم حين حاولوه الآن - وهو ما يعبرون عنه بلمس السماء - وجدوا الطريق إليه محروسا بحرس شديد ، يرجمهم بالشهب ، فتنقض عليهم وتقتل من توجه إليه منهم . ويعلنون أنهم لا يدرون شيئا عن الغيب المقدر للبشر : ( وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ) . . فهذا الغيب موكول لعلم الله لا يعلمه سواه . فأما نحن فلا نعلم ماذا قدر الله لعباده في الأرض : قدر أن ينزل بهم الشر . فهم متروكون للضلال ، أم قدر لهم الرشد - وهو الهداية - وقد جعلوها مقابلة للشر . فهي الخير ، وعاقبتها هي الخير .
وإذا كان المصدر الذي يزعم الكهان أنهم يستقون منه معلوماتهم عن الغيب ، يقرر أنه هو لا يدري عن ذلك شيئا ، فقد انقطع كل قول ، وبطل كل زعم ، وانتهى أمر الكهانة والعرافة . وتمحض الغيب لله ، لا يجترئ أحد على القول بمعرفته ، ولا على التنبؤ به . وأعلن القرآن تحرير العقل البشري من كل وهم وكل زعم من هذا القبيل ! وأعلن رشد البشرية منذ ذلك اليوم وتحررها من الخرافات والأساطير !
أما أين يقف ذلك الحرس ? ومن هو ? وكيف يرجم الشياطين بالشهب ? فهذا كله مما لم يقل لنا عنه القرآن ولا الأثر شيئا ، وليس لنا مصدر سواهما نستقي منه عن هذا الغيب شيئا ؛ ولو علم الله أن في تفصيله خيرا لنا لفعل . وإذ لم يفعل فمحاولتنا نحن في هذا الاتجاه عبث ؛ لا يضيف إلى حياتنا ولا إلى معرفتنا المثمرة شيئا !
ولا مجال كذلك للاعتراض أو الجدل حول الشهب ، وأنها تسير وفق نظام كوني ، قبل البعثة وبعدها ووفق ناموس يحاول علماء الفلك تفسيره ، بنظريات تخطئ وتصيب . وحتى على فرض صحة هذه النظريات فإن هذا لا يدخل في موضوعنا ، ولا يمنع أن ترجم الشياطين بهذه الشهب عند انطلاقها . وأن تنطلق هذه الشهب رجوما وغير رجوم وفق مشيئة الله الذي يجري عليها القانون !
فأما الذين يرون في هذا كله مجرد تمثيل وتصوير لحفظ الله للذكر من الالتباس بأي باطل ؛ وأنه لا يجوز أن يؤخذ على ظاهره . . فسبب هذا عندهم أنهم يجيئون إلى القرآن بتصورات مقررة سابقة في أذهانهم ، أخذوها من مصادر أخرى غير القرآن . ثم يحاولون أن يفسروا القرآن وفق تلك التصورات السابقة المقررة في أذهانهم من قبل . . ومن ثم يرون الملائكة تمثيلا لقوة الخير والطاعة . والشياطين تمثيلا لقوة الشر والمعصية . والرجوم تمثيلا للحفظ والصيانة . . . الخ لأن في مقرراتهم السابقة - قبل أن يواجهوا القرآن - أن هذه المسميات : الملائكة والشياطين أو الجن ، لا يمكن أن يكون لها وجود مجسم على هذا النحو ، وأن تكون لها هذه التحركات الحسية ، والتأثيرات الواقعية ! ! !
من أين جاءوا بهذا ? من أين جاءوا بهذه المقررات التي يحاكمون إليها نصوص القرآن والحديث ?
إن الطريق الأمثل في فهم القرآن وتفسيره ، وفي التصور الإسلامي وتكوينه . . أن ينفض الإنسان من ذهنه كل تصور سابق ، وأن يواجه القرآن بغير مقررات تصورية أو عقلية أو شعورية سابقة ، وأن يبني مقرراته كلها حسبما يصور القرآن والحديث حقائق هذا الوجود . ومن ثم لا يحاكم القرآن والحديث لغير القرآن . ولا ينفي شيئا يثبته القرآن ولا يؤوله ! ولا يثبت شيئا ينفيه القرآن أو يبطله . وما عدا المثبت والمنفي في القرآن ، فله أن يقول فيه ما يهديه إليه عقله وتجربته . .
نقول هذا بطبيعة الحال للمؤمنين بالقرآن . . . وهم مع ذلك يؤلون نصوصه هذه لتوائم مقررات سابقة فيعقولهم ، وتصورات سابقة في أذهانهم لما ينبغي أن تكون عليه حقائق الوجود . .
فأما الذين لا يؤمنون بهذا القرآن ، ويعتسفون نفي هذه التصورات لمجرد أن العلم لم يصل إلى شيء منها ، فهم مضحكون حقا ! فالعلم لا يعلم أسرار الموجودات الظاهرة بين يديه ، والتي يستخدمها في تجاربه . وهذا لا ينفي وجودها طبعا ! فضلا على أن العلماء الحقيقيين أخذت كثرة منهم تؤمن بالمجهول على طريق المتدينين ، أو على الأقل لا ينكرون ما لا يعلمون ! لأنهم بالتجربة وجدوا أنفسهم - عن طريقة العلم ذاته - أمام مجاهيل فيما بين أيديهم مما كانوا يحسبون أنهم فرغوا من الإحاطة بعلمه ! فتواضعوا تواضعا علميا نبيلا ليست عليه سمة الادعاء ، ولا طابع التطاول على المجهول ، كما يتطاول مدعو العلم ومدعو التفكير العلمي ، ممن ينكرون حقائق الديانات ، وحقائق المجهول !
إن الكون من حولنا حافل بالأسرار ، عامر بالأرواح ، حاشد بالقوى . وهذه السورة من القرآن - كغيرها - تمنحنا جوانب من الحقائق في هذا الوجود ، تعين على بناء تصور حقيقي صحيح للوجود وما فيه من قوى وأرواح وحيوات تعج من حولنا ، وتتفاعل مع حياتنا وذواتنا . وهذا التصور هو الذي يميز المسلم ويقف به وسطا بين الوهم والخرافة ، وبين الادعاء والتطاول . ومصدره هو القرآن والسنة . وإليهما يحاكم المسلم كل تصور آخر وكل قول وكل تفسير . .
وإن هنالك مجالا للعقل البشري معينا في ارتياد آفاق المجهول : والإسلام يدفعه إلى هذا دفعا . . ولكن وراء هذا المجال المعين ما لا قدرة لهذا العقل على ارتياده ، لأنه لا حاجة به إلى ارتياده . وما لا حاجة له به في خلافة الأرض فلا مجال له إليه ، ولا حكمة في إعانته عليه . لأنه ليس من شأنه ، ولا داخلا في حدود اختصاصه . والقدر الضروري له منه ليعلم مركزه في الكون بالقياس إلى ما حوله ومن حوله ، قد تكفل الله سبحانه ببيانه له ، لأنه أكبر من طاقته . وبالقدر الذي يدخل في طاقته . ومنه هذا الغيب الخاص بالملائكة والشياطين والروح والمنشأ والمصير . .
فأما الذين اهتدوا بهدى الله ، فقد وقفوا في هذه الأمور عند القدر الذي كشفه الله لهم في كتبه وعلى لسان رسله . وأفادوا منه الشعور بعظمة الخالق ، وحكمته في الخلق ، والشعور بموقف الإنسان في الأرض من هذه العوالم والأرواح . وشغلوا طاقاتهم العقلية في الكشف والعلم المهيأ للعقل في حدود هذه الأرض وما حولها من أجرام بالقدر الممكن لهم . واستغلوا ما علموه في العمل والإنتاج وعمران هذه الأرض والقيام بالخلافة فيها ، على هدى من الله ، متجهين إليه ، مرتفعين إلى حيث يدعوهم للارتفاع .
وأما الذين لم يهتدوا بهدى الله فانقسموا فرقتين كبيرتين :
فرقة ظلت تجاهد بعقولها المحدودة لإدراك غير المحدود من ذاته تعالى ، والمعرفة الحقيقية المغيبة عن غير طريق الكتب المنزلة . وكان منهم فلاسفة حاولوا تفسير هذا الوجود وارتباطاته ، فظلوا يتعثرون كالأطفال الذين يصعدون جبلا شاهقا لا غاية لقمته ، أو يحاولون حل لغز الوجود وهم لم يتقنوا بعد أبجدية الهجاء ! وكانت لهم تصورات مضحكة - وهم كبار فلاسفة - مضحكة حقا حين يقرنها الإنسان إلى التصور الواضح المستقيم الجميل الذي ينشئه القرآن . مضحكة بعثراتها . ومضحكة بمفارقاتها . ومضحكة بتخلخلها . ومضحكة بقزامتهابالقياس إلى عظمة الوجود الذي يفسرونه بها . . لا أستثني من هذا فلاسفة الإغريق الكبار ، ولا فلاسفة المسلمين الذين قلدوهم في منهج التفكير . ولا فلاسفة العصر الحديث ! وذلك حين يقاس تصورهم إلى التصور الإسلامي للوجود .
فهذه فرقة . فأما الفرقة الأخرى ، فقد يئست من جدوى هذا الاتجاه في المعرفة . فعدلت عنه إلى حصر نفسها وجهدها في العلم التجريبي والتطبيقي . ضاربة صفحا عن المجهول ، الذي ليس إليه من سبيل وغير مهتدية فيه بهدى الله . لأنها لا تستطيع أن تدرك الله ! وهذه الفرقة كانت في أوج غلوائها خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر . ولكنها أخذت منذ مطلع هذا القرن تفيق من الغرور العلمي الجامح ، على هروب المادة من بين أيديها وتحولها إلى إشعاع " مجهول الكنه " ويكاد يكون مجهول القانون !
وبقي الإسلام ثابتا على صخرة اليقين . يمنح البشر من المجهول القدر الذي لهم فيه خير . ويوفر طاقتهم العقلية للعمل في خلافة الأرض . ويهيء لعقولهم المجال الذي تعمل فيه في أمن . ويهديهم للتي هي أقوم في المجهول وغير المجهول !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الاَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رّصَداً * وَأَنّا لاَ نَدْرِيَ أَشَرّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبّهُمْ رَشَداً } .
يقول عزّ وجلّ : وإنا كنا معشر الجنّ نقعد من السماء مقاعد لنسمع ما يحدث ، وما يكون فيها ، فَمَنْ يَسْتَمِع الاَنَ فيها منا يَجدْ لَهُ شِهابا رَصَدا يعني : شهاب نار قد رصد له به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله وأنّا لَمَسْنا السّماءَ . . . إلى قوله : فَمَنْ يَسْتَمِعِ الاَنَ يَجدْ لَهُ شِهابا رَصَدا كانت الجنّ تسمع سمع السماء فلما بعث الله نبيه ، حُرست السماء ، ومُنعوا ذلك ، فتفقّدت الجنّ ذلك من أنفسها .
وذُكر لنا أن أشراف الجنّ كانوا بنصيبين ، فطلبوا ذلك ، وضربوا له حتى سقطوا على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بأصحابه عامدا إلى عكاظ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وأنّا لَمَسْنا السّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَسا وشُهُبا . . . حتى بلغ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الاَنَ يَجدْ لَهُ شِهابا رَصَدا فلما وجدوا ذلك رجعوا إلى إبليس ، فقالوا : منع منا السمع ، فقال لهم : إن السماء لم تُحرس قطّ إلا على أحد أمرين : إما لعذاب يريد الله أن ينزله على أهل الأرض بغتة ، وإما نبيّ مرشد مصلح قال : فذلك قول الله : وأنّا لا نَدْرِي أشَرّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْض أمْ أرَاد بِهِمْ رَبّهُمْ رَشَدا .