السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَأَنَّا كُنَّا نَقۡعُدُ مِنۡهَا مَقَٰعِدَ لِلسَّمۡعِۖ فَمَن يَسۡتَمِعِ ٱلۡأٓنَ يَجِدۡ لَهُۥ شِهَابٗا رَّصَدٗا} (9)

{ وأنا كنا } أي : فيما مضى { نقعد منها } أي : السماء { مقاعد } أي : كثيرة قد علمناها لا حرس فيها صالحة { للسمع } أي : أن نسمع منها بعض ما تتكلم به الملائكة مما أمروا بتدبيره ، وقد جاء في الخبر أنّ صفة قعودهم هو أن يكون الواحد منهم فوق الآخر حتى يصلوا إلى السماء ، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان فيزيدُونَّ معها الكذب . { فمن يستمع الآن } أي : في هذا الوقت وفيما يستقبل لا أنهم أرادوا وقت قولهم فقط { يجد له } أي : لأجله { شهاباً } أي : شعلة من نار ساطعة تحرقه { رصداً } أي : أرصد به ليرمى به .

تنبيه : اختلفوا هل كانت الشياطين تقذف قبل البعث أو ذلك أمر حدث بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم فقال قوم : لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام خمسمائة عام ، وإنما كان من أجل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعث منعوا من السماوات كلها وحرست بالملائكة والشهب ، وقال عبد الله بن عمر : لما كان اليوم الذي نبئ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت الشياطين ورموا بالشهب ، قال الزمخشري : والصحيح أنه كان قبل البعث وقد جاء شعره في أهل الجاهلية ، قال بشر بن أبي حازم :

والعير يرهقها الغبار وجحشها *** ينقض خلفها انقضاض الكوكب

ولكنّ الشياطين كانت تسترق السمع في بعض الأحوال ، فلما بعث صلى الله عليه وسلم كثر الرجم وازداد زيادة ظاهرة حتى تنبه لها الإنس والجنّ ومنع الاستراق أصلاً .

وعن معمر قلت للزهري : أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية ؟ قال : نعم . قلت : أرأيت قوله تعالى : { وأنا كنا نقعد منها مقاعد } ؟ قال : غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم وروى الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس قال : «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار ، فقال : «ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية » ؟ فقالوا : كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم . فقال صلى الله عليه وسلم «إنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته ، ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمراً في السماء سبح حملة العرش ثم سبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ، فتسأل أهل السماء حملة العرش : ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم وتخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى أهل هذه السماء » . وهذا يدل على أنّ هذه الشهب كانت موجودة قال ابن عادل : وهذا قول الأكثرين .

فإن قيل : كيف تتعرّض الجنّ لاحتراق أنفسها بسبب سماع خبر بعد أن صار ذلك معلوماً لهم ؟ أجيب : بأنَّ الله تعالى ينسيهم ذلك حتى تعظم المحنة . قال القرطبي : والرصد قيل من الملائكة أي ورصداً من الملائكة ، والرصد الحافظ للشيء والجمع أرصاد ، وقيل : الرصد هو الشهاب ، أي : شهاب قد أرصد له ليرجم به فهو فعل بمعنى مفعول .