الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَأَنَّا كُنَّا نَقۡعُدُ مِنۡهَا مَقَٰعِدَ لِلسَّمۡعِۖ فَمَن يَسۡتَمِعِ ٱلۡأٓنَ يَجِدۡ لَهُۥ شِهَابٗا رَّصَدٗا} (9)

قوله تعالى : " وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا " " منها " أي من السماء ، و " مقاعد " : مواضع يقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء ، يعني أن مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماء حتى يلقوها إلى الكهنة على ما تقدم بيانه ، فحرسها الله تعالى حين بعث رسوله بالشهب المحرقة ، فقالت الجن حينئذ : " فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا " يعني بالشهاب : الكوكب المحرق ، وقد تقدم بيان ذلك . ويقال : لم يكن انقضاض الكواكب إلا بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وهو آية من آياته . واختلف السلف هل كانت الشياطين تقذف قبل المبعث ، أو كان ذلك أمرا حدث لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال الكلبي وقال{[15454]} قوم : لم تكن تحرس السماء في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وسلامه : خمسمائة عام ، وإنما كان من أجل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها ، وحرست بالملائكة والشهب .

قلت : ورواه عطية العوفي عن ابن عباس ، ذكره البيهقي . وقال عبد الله بن عمر : لما كان اليوم الذي نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم الشياطين ، ورموا بالشهب ، وقال عبد الملك بن سابور : لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرست السماء ، ورميت الشياطين بالشهب ، ومنعت عن الدنو من السماء . وقال نافع بن جبير : كانت الشياطين في الفترة تسمع فلا ترمى ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رميت بالشهب . ونحوه عن أبي بن كعب قال : لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمي بها . وقيل : كان ذلك قبل المبعث ، وإنما زادت بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنذارا بحاله ، وهو معنى قوله تعالى : " ملئت " أي زيد في حرسها ، وقال أوس بن حجر وهو جاهلي :

فانْقَضَّ كالدُّرِّي يتبعُه *** نقعٌ يثورُ تخالُه طُنُبَا

وهذا قول الأكثرين . وقد أنكر الجاحظ هذا البيت وقال : كل شعر روي فيه فهو مصنوع ، وأن الرمي لم يكن قبل المبعث . والقول بالرمي أصح ؛ لقوله تعالى : " فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا " . وهذا إخبار عن الجن ، أنه{[15455]} زيد في حرس السماء حتى امتلأت منها ومنهم ؛ ولما روي عن ابن عباس قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم ؛ فقال : [ ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية ] ؟ قالوا : كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ إنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته ، ولكن ربنا سبحانه وتعالى إذا قضى أمرا في السماء سبح حملة العرش ثم سبح أهل كل سماء ، حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ويستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم ويخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه ، فتتخطف الجن فيرمون فما جاؤوا به فهو حق ولكنهم يزيدون فيه ] . وهذا يدل على أن الرجم كان قبل المبعث . وروى الزهري نحوه عن علي بن الحسين عن علي بن أبي طالب عن ابن عباس . وفي آخره قيل للزهري : أكان يرمى في الجاهلية ؟ قال : نعم . قلت : أفرأيت قوله سبحانه : " وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا " قال : غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم . ونحوه قاله القتبي . قال ابن قتيبة : كان ولكن اشتدت الحراسة بعد المبعث ، وكانوا من قبل يسترقون ويرمون في بعض الأحوال ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعت من ذلك أصلا . وقد تقدم بيان هذا في سورة " الصافات " {[15456]} عند قوله : " ويقذفون من كل جانب . دحورا ولهم عذاب واصب " [ الصافات : 8 - 9 ] قال الحافظ : فلو قال قائل : كيف تتعرض الجن لإحراق نفسها بسبب استماع خبر ، بعد أن صار ذلك معلوما لهم ؟ فالجواب : أن الله تعالى ينسيهم ذلك حتى تعظم المحنة ، كما ينسي إبليس في كل وقت أنه لا يسلم ، وأن الله تعالى قال له : " وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين " [ الحجر : 35 ] ولولا هذا لما تحقق التكليف . والرصد : قيل من الملائكة ، أي ورصدا من الملائكة .

والرصد : الحافظ للشيء والجمع أرصاد ، وفي غير هذا الموضع يجوز أن يكون جمعا كالحرس ، والواحد : راصد . وقيل : الرصد هو الشهاب ، أي شهابا قد أرصد له ، ليرجم به ؛ فهو فعل بمعنى مفعول كالخبط والنفض .


[15454]:الفعل (قال) زائد في ط. والصواب إسقاطه، كما في أ، ح، و.
[15455]:في ط: "وقد زيد". وفي أ، وح: "لقد زيد".
[15456]:راجع جـ 15 ص 65.