فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَأَنَّا كُنَّا نَقۡعُدُ مِنۡهَا مَقَٰعِدَ لِلسَّمۡعِۖ فَمَن يَسۡتَمِعِ ٱلۡأٓنَ يَجِدۡ لَهُۥ شِهَابٗا رَّصَدٗا} (9)

{ وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع } أي وإنا كنا معشر الجن قبل هذا نقعد من السماء مواضع نقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء ؛ وللسمع متعلق بنقعد أي لأجل السمع أو بمضمر هو صفة لمقاعد أي مقاعد كائنة للسمع ، والمقاعد جمع مقعد اسم مكان وذلك أن مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليسمعوا من الملائكة أخبار السماء فيلقونها إلى الكهنة ، فحرسها الله سبحانه ببعثة رسوله صلى الله عليه وسلم بالشهب المحرقة .

عن ابن عباس قال : " كانت الشياطين لهم مقاعد في السماء يسمعون فيها الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا فأما الكلمة فتكون حقا . وأما ما زادوا فيكون باطلا فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم ، فذكروا ذلك لإبليس ، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك فقال لهم ما هذا إلا من أمر قد حدث في الأرض ، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي بين جبلين بمكة ، فأتوه فأخبروه فقال هذا الحدث الذي حدث في الأرض " أخرجه أحمد والترمذي وصححه النسائي وغيرهم .

{ فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا } أي أرصد له ليرمي به أو لأجله لمنعه من الاستماع ، قوله { الآن } هو ظرف للحال واستعير هنا للاستقبال لأنهم لا يردون به وقت قولهم فقط ، وانتصاب رصدا على أنه صفة لشهابا أو مفعول له وهو مفرد ، ويجوز أن يكون اسم جمع كالحرس .

وقد اختلف أهل العلم هل كانت الشياطين ترمى بالشهب وتقذف قبل المبعث أم لا ؟ فقال قوم لم يكن ذلك وحكى الواحدي عن معمر قال قلت للزهري ؟ أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية ؟ قال نعم قلت أفرأيت قوله { وأنا كنا نقعد منها } الآية ؟ قال غلظ وشدد أمرها حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم ، قال ابن قتيبة : إن الرجم قد كان قبل مبعثه ولكنه لم يكن مثله في شدة الحراسة بعد مبعثه ، وكانوا يسترقون السمع في بعض الأحوال ، فلما بعث منعوا من ذلك أصلا .

وقال عبد الملك بن سابور : ولم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام : فلما بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرست السماء ورميت الشياطين بالشهب ، ومنعت من الدنو إلى السماء ، وقال نافع بن جبير : كانت الشياطين في الفترة تسمع فلا ترمى ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله رميت بالشهب ، قال الزمخشري : والصحيح أنه كان قبل البعث ، فلما بعث صلى الله عليه وسلم كثر الرجم وازداد زيادة ظاهرة حتى تنبه لها الإنس والجن ومنع الاستراق أصلا ؛ وقد تقدم البحث عن هذا .