قوله : { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ } ، المقاعد : جمع «مقعد » اسم مكان ، والضمير في «منها » ، أي : من السماء ، والمقاعد مواضع يقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء ، وذلك أنَّ مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماءِ فيلقوها إلى الكهنة فحرسها الله - تعالى - حين بعث رسوله بالشهب المحرقةِ ، فقالت الجن حينئذ : { فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } يعني بالشهاب الكواكب المحرقة .
قوله «الآن » . هو ظرفٌ حالي ، واستعير هنا للاستقبال ، كقوله الشاعر : [ الوافر ]
4899 - . . . *** سأسْعَى الآنَ إذ بَلغَتْ إنَاهَا{[58130]}
فاقترن بحرف التنفيس ، وقد تقدم هذا في البقرة عند قوله : «فالآن باشروهن »{[58131]} .
و «رصداً » إما مفعول له ، وإما صفة له «شهاباً » أي «ذا رصد » وجعل الزمخشري : «الرصد » اسم جمع ك «حرس » ، فقال : والرصد : اسم جمع للراصد ك «حرس » على معنى : ذوي شهاب راصدين بالرجم وهم الملائكة ويجوز أن يكون صفة ل «شهاب » بمعنى الراصد ، أو كقوله : [ الوافر ]
4900 - . . . *** . . . ومِعَى جَياعَا{[58132]}
فصل في بيان متى كان قذف الشياطين
اختلفوا : هل كانت الشياطينُ تقذف قبل البعث أو كان ذلك أمراً حدث لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ؟
فقال قوم : لم تحرس السماء في زمن الفترة فيما بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - خمسمائة عامٍ ، وإنَّما كان من أجل بعثة النبي فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السماوات كلِّها وحرست بالملائكة والشهب ، قاله الكلبيُّ ، ورواه عطية عن ابن عباس ، ذكره البيهقي .
وقال عبد الله بن عمرو : لما كان اليوم الذي نُبِّىءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم منعتِ الشياطينُ ورموا بالشُّهبِ{[58133]} .
وقال عبد الملك بن سابور : لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ، ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حُرستِ السماءُ ورميتِ الشياطينُ بالشهب ، ومنعت من الدنو من السماء .
قال نافع بن جبيرٍ : كانت الشياطين في الفترة تستمع فلا ترى ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رميت بالشهب ، ونحوه عن أبي بن كعبٍ قال : لم يرم بنجم ، منذ رفع عيسى - عليه الصلاة والسلام - حتى نُبِّىءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُمِيَ بها{[58134]} .
وقيل : كان ذلك قبل البعثِ ، وإنِّما زادت بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنذاراً بحاله .
وهو معنى قوله : «قَدْ مُلِئَتْ » ، أي : زيد في حرسها .
وقال أوس بن حجر - وهو جاهلي - : [ الكامل ]
4901 - فانْقَضَّ كالدُّرِّيِّ يَتْبَعُهُ***نَقعٌ يَثُورُ تَخالهُ طُنُبَا{[58135]}
قال الجاحظُ : «هذا البيت مصنوع ، لأنَّ الرمي لم يكن قبل البعث » .
والقول بالرمي أصح لهذه الآية ، لأنها تخبر عن الجن ، أنَّها أخبرت بالزيادة في الحرس وأنها امتلأت من الحرس ، والشهب .
وقال بشر بن أبي خازم : [ الكامل ]
4902 - والعِيرُ يَرْهَقُها الغُبَارُ وجَحْشُهَا***يَنقَضُّ خَلفَهُمَا انقِضَاضَ الكَوْكَبِ{[58136]}
وروى الزهريُّ عن علي بن الحسين عن ابن عباس - رضي الله عنهم - قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَا كُنتُمْ تقُولونَ في مِثْلِ هذا فِي الجَاهليَةِ » ؟ .
قالوا : كُنَّا نقُولُ : يَمُوتُ عَظِيمٌ ابنُ عظيمِ ، أو يولد عظيم [ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنها لا ترمى لموتِ أحدٍ ولا لحياته ، ولكنَّ رَبَّنَا - تبارك وتعالى - إذَا قَضَى أمْراً فِي السَّماءِ ، سبَّح حملةُ العَرْشِ ، ثُمَّ سَبَّحَ أهْلُ كُلِّ سماءٍ ، حتَّى يَنتهِي التَّسبيحُ إلى هذه السَّماءِ ، ويَسْتَخْبِر أهْلُ السَّماءِ : ماذا قال ربُّكمْ ، فيُخْبَرُون ، ويُخبر أهْلُ كُلِّ سماءٍ ، حتَّى يَنْتَهِي الخَبَرُ إلى هذه السَّماءِ فتَخْطفُهُ الجنُّ ، فيروونه كما جاءُوا به فهو حقٌّ ولكنَّهم يزيدُون فيه »{[58137]} ]{[58138]} .
وهذا يدلُّ على أن هذه الشهب كانت موجودة قبل البعث ، وهو قول الأكثرين .
قال الجاحظ : فلو قال قائلٌ : كيف تتعرض الجنُّ لإحراق نفسها بسماع خبرٍ بعد أن صار ذلك معلوماً عندهم ؟ .
فالجوابُ : أنَّ الله تعالى ينسيهم ذلك ، حتى تعظم المحنة كما ينسى إبليس في كل وقت أنه لا يسلم ، وأن الله - تعالى - قال له : { وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين }[ الحجر : 35 ] ، ولولا هذا لما تحقق التكليف .
قال القرطبيُّ{[58139]} : «والرَّصدُ » ، قيل : من الملائكة ، أي : ورصداً من الملائكة ، وقيل : الرَّصَد هو الشهب ، والرصد : الحافظ للشيء ، والجمع أرصاد ، وفي غير هذا الموضع يجوز أن يكون جمعاً كالحرس ، والواحد : راصد .
وقيل : الرَّصَد هو الشهاب ، أي : شهاب قد أرصد له ليرجم به فهو «فعل » بمعنى «مفعول » ك «الخَبَط والنفض » .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.