قوله تعالى : { قل من كان عدواً لجبريل } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن حبراً من أحبار اليهود يقال له عبد الله بن صوريا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أي ملك يأتيك من السماء قال جبريل . قال : ذلك عدونا من الملائكة ، ولو كان ميكائيل لآمنا بك ، إن جبريل ينزل بالعذاب والقتال والشدة وإنه عادانا مراراً وكان من أشد ذلك علينا ، أن الله تعالى أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخرب على يد رجل يقال له بختنصر ، وأخبرنا بالحين الذي يخرب فيه ، فلما كان وقته بعثنا رجلاً من أقوياء بني إسرائيل في طلبه ليقتله فانطلق حتى لقيه ببابل غلاماً مسكيناً فأخذه ليقتله فدفع عنه جبريل ، وكبر بختنصر وقوي ، وغزانا وخرب بيت المقدس فلهذا نتخذه عدواً ، فأنزل الله هذه الآية .
وقال مقاتل : قالت اليهود : إن جبريل عدونا لأنه أمر بجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا ، وقال قتادة وعكرمة والسدي : كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أرض بأعلى المدينة وممرها على مدارس اليهود فكان إذا أتى أرضه يأتيهم ويسمع منهم فقالوا له : ما في أصحاب محمد أحب إلينا منك ، إنهم يمرون علينا فيؤذوننا وأنت لا تؤذينا وإنا لنطمع فيك فقال عمر : والله ما آتيكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني ، وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأرى آثاره في كتابكم فقالوا : من صاحب محمد الذي يأتيه من الملائكة قال : جبريل فقالوا : ذلك عدونا يطلع محمداً على سرنا وهو صاحب كل عذاب وخسف وسنة وشدة ، وإن ميكائيل إذا جاء جاء بالخصب والسلم ، فقال لهم عمر : تعرفون جبريل وتنكرون محمداً قالوا : نعم . قال : فأخبروني عن منزلة جبريل ، وميكائيل ، من الله عز وجل ؟ قالوا : جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره ، وميكائيل عدو لجبريل ، قال عمر : فإني أشهد أن من كان عدواً لجبريل فهو عدو لميكائيل ، ومن كان عدواً لميكائيل فإنه عدو لجبريل ، ومن كان عدواً لهما كان الله عدوا له . ثم رجع عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات . فقال : لقد وافقك ربك يا عمر فقال عمر : لقد رأيتني بعد ذلك ، في دين الله أصلب من الحجر . قال الله تعالى : ( قل من كان عدواً لجبريل ) .
قوله تعالى : { فإنه } . يعني : جبريل .
قوله تعالى : { نزله } . يعنى : القرآن ، كناية عن غير مذكور .
قوله تعالى : { على قلبك } . يا محمد .
قوله تعالى : { بإذن الله } . بأمر الله .
قوله تعالى : { مصدقاً } . موافقاً .
ثم ساق القرآن بعد ذلك لوناً عجيباً من ألوان ضلال اليهود وهو مجاهرتهم بالعداوة لأمين الوحي جبريل - عليه السلام - فقال - تعالى - :
{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ . . . }
هاتان الآيتان تكشفان عن رذيلة غريبة حقاً من رذائل اليهود وهي عداوتهم لملك من ملائكة الله ، لا يأكل مما يأكلون ، ولا يشرب مما يشربون وإنما هو من الملائكة المقربين ، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وإذا فليس هناك مقتض لعداوته ، فلماذا هذا التصريح منهم ببغضه وكراهيته ؟
لقد سمعوا أن جبريل - عليه السلام - ينزل بالوحي من عند الله على محمد صلى الله عليه وسلم وهم يحسدونه على النبوة ، فلج بهم الحقد والغيظ إلى أن أعلنوا عن عدائهم لجبريل - أيضاً - وهذه حماقة وجهالة منهم ، لأن جبريل - عليه السلام - نزل بالخير لهم في دينهم وفي دنياهم . ولكن الحقد والحسد إذا استوليا على النفوس جعلالها لا تفرق بين الخير والشر .
ومعنى الآيتين الكريمتين ، قل - يا محمد - لهؤلاء اليهود الذين أعلنوا عداءهم لجبريل أنه لا وجه لعداوته لأنه لم ينزل بالقرآن من تلقاء نفسه وإنما نزل على قلبك بأمر الله ليكون مؤيداً لما نزل قبله من الكتب السماوية وليكون هداية إلى طريق السعادة وبشارة للمؤمنين بالجنة ، وقل لهم كذلك من كان معادياً لله أو لملك من ملائكته أو لرسول من رسله ، فقد كفر وباء بغضب من الله ، ومن غضب الله عليه ، فجزاؤه الخزي وسوء المصير .
قال الإِمام ابن جرير : ( أجمع أهل العلم بالتأويل جميعاً ، على أن هذه نزلت جواباً ليهود من بني إسرائيل ، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم ، وميكائيل ولي لهم ) .
وروى البخاري في صحيحه - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : " سمع عبد الله بن سلام بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف - أي يجني ثمارها - فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ، فيم أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال : أخبرني بهن جبريل آنفاً . قال : جبريل ؟ قال : نعم قال ذكل عدو اليهود من الملائكة - فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ . . . } الآية ثم قال : أما أول أشراط الساعة ، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ! وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت ، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ، وإذا سببق ماء المرأة نزعت فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله . يا رسول الله : إن اليهود قوم بهت ، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني ، فجاءت اليهود فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أي رجل فيكم عبد الله ؟ قالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا : قال " أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام ؟ فقالوا : أعاذه الله من ذلك ؟ فخرج عبد الله فقال : " أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فقالوا : شرنا وابن شرنا ، وانتقصوه ، قال : فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله " .
وأخرج الإِمام أحمد عن ابن عباس : " أن اليهود بعد أن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة أجابهم عنها ، قالوا صدقت فحدثنا من وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك . قال : وليى جبريل ، لم يبعث الله نبياً قط إلا وهو وليه ، قالوا : فعندما نفارقك ، ولو كان وليك سواه من الملائكة لتابعناك وصدقناك ، قال : فما يمنعكم أن تصدقوه ؟ قالوا : إنه عدونا ، فأنزل الله - تعالى - قوله : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ . . . } الآيات .
وفي حديث للإِمام أحمد والترمذي والنسائي " قال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن سألوه عن أشياء أجابهم عنها إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها ، إنه ليس من نبي إلا وله ملك يأتيه بالخير ، فأخبرنا من صاحبك ؟ قال جبريل - عليه السلام - قالوا : جبريل ذلك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا ، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان . فأنزل الله - تعالى - : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } الآية .
فيؤخذ من هذه الأحاديث وما في معناها أن اليهود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يجاهرون بعداوتهم لجبريل - عليه السلام - وأن هذه المجاهرة بالعداوة ، قد تكررت منهم في مواقف متعددة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم وأن الذي حملهم على ذلك هو حسدهم له ، وغيظهم من جبريل ، لأنه ينزل بالوحي عليه .
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور : " ومن عجيب تهافت اعتقادهم أنهم يثبتون أنه ملك مرسل من عند الله ، ومع ذلك يبغضونه ، وهذا أحط درجات الانحطاط في العقل والعقيدة ، ولا شك أن الاضطراب العقيدة من أكبر مظاهر انحطاط الأمة لأنه ينبئ عن تضافر آرائهم على الخطأ والأوهام " .
وفي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بلفظ { قُلْ } كي يرد على اليهود ، تثبيت له ، وتطمين لنفسه وتوبيخ لهم على معاداتهم لأمين الوحي ، وهو جبريل - عليه السلام - .
وقوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } شرط عام قصد الإِتيان به ليعلموا أن الله - تعالى - لا يعبأ بهم ولا بغيرهم ممن يعادي جبريل ، إن وجد معاد آخر له سواهم .
وقوله تعالى : { على قَلْبِكَ } زيادة تقرير للتنزيل ، ببيان محل الوحي ، وإشارة إلى أن السبب في تمكنه صلى الله عليه وسلم من تلاوة القرآن الكريم ، وإبلاغه للناس ، ثباته في قلبه .
وقوله تعالى : { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله } معناه : فلا موجب لعداوته . لأنه نزل القرآن على قلبك يا محمد بإذن الله وأمره . وإذاً فعداوته عداوة لله في الحقيقة والواقع ، ومن هنا يتبين أن هذه الجملة تعليل لجواب الشرط وقائمة مقامه .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف استقام قوله تعالى : { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ } جزاء للشرط ؟ قلت : فيه وجهان :
أحدهما : إن عادي جبريل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته ، حيث نزل كتاباً مصدقاً للكتب التي بين يديه ، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم .
والثاني : إن عاداه أحد فالسبب في عداواته أنه نزل عليك القرآن مصدقاً لكتابهم ، وموافقاً له ، وهم كارهون للقرآن ولموافقته لكتابهم ، ولذلك يحرفونه ويجحدون موافقته له . كقولك : " إن عاداك فلان فقد آذيته وأسأت إليه " .
وقوله - تعالى - : { بِإِذْنِ الله } أي بأمره ، وهو توبيخ لهم على عداوتهم لجبريل ، الذي أنزل بالقرآن بإذن الله ، لا من تلقاء نفسه ، وهذه حجة أولى عليهم .
وقوله تعالى : { مُصَدِّقاً } حال من الضمير العائد على القرآن الكريم ، ف قوله { نَزَّلَهُ } أي أنزله حالة كونه مؤيداً للكتب السماوية التي قبله ومن بينها التوراة ، وهذه حجة ثانية عليهم .
ثم عززهما بثالثة ورابعة - فقال تعالى : { وَهُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ } أي هذا القرآن الذي نزل مصدقاً لكتبكم ، هو هاد إلى طريق الفلاح والنجاح ، والعقال لا يرفض الهداية التي تأتيه وتنقذه مما هو فيه من ضلالات ولو كان الواسطة في مجيئها عدواً له ، وهو - أيضاً - مبشر للمؤمنين برضا الله تعالى - عنهم في الدنيا والآخرة ، أما الضالون فقد أنذرهم بسوء العقبى فعليكم أن تتبعوا طريق الإِيمان لتكونوا من المفلحين وبذلك يكون القرآن قد أقام حججاً متعددة على حماقتهم وعنادهم وجحودهم للحق بعد ما تبين . وتكون الآية الكريمة قد مدحت القرآن بخمس صفات .
أولها : أنه منزل من عند الله وبإذنه .
وثانيها : أنه منزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم .
وثالثها : أنهن مصدق لما نزل قبله من الكتب السماوية .
ويمضي السياق بتلقين جديد من الله لرسوله [ ص ] يتحداهم به ، ويعلن الحقيقة التي يتضمنها على رؤوس الأشهاد :
( قل : من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ، مصدقا لما بين يديه ، وهدى وبشرى للمؤمنين . من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال ، فإن الله عدو للكافرين ) . .
وفي قصة هذا التحدي نطلع على سمة أخرى من سمات يهود . سمة عجيبة حقا . . لقد بلغ هؤلاء القوم من الحنق والغيظ من أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده مبلغا يتجاوز كل حد ، وقادهم هذا إلى تناقض لا يستقيم في عقل . . لقد سمعوا أن جبريل ينزل بالوحي من عند الله على محمد [ ص ] ولما كان عداؤهم لمحمد قد بلغ مرتبة الحقد والحنق فقد لج بهم الضغن أن يخترعوا قصة واهية وحجة فارغة ، فيزعموا أن جبريل عدوهم ، لأنه ينزل بالهلاك والدمار والعذاب ؛ وأن هذا هو الذي يمنعهم من الإيمان بمحمد من جراء صاحبه جبريل ! ولو كان الذي ينزل إليه بالوحي هو ميكائيل لآمنوا ، فميكائيل يتنزل بالرخاء والمطر والخصب !
إنها الحماقة المضحكة ، ولكن الغيظ والحقد يسوقان إلى كل حماقة . وإلا فما بالهم يعادون جبريل ؟ وجبريل لم يكن بشرا يعمل معهم أو ضدهم ، ولم يكن يعمل بتصميم من عنده وتدبير ؟ إنما هو عبد الله يفعل ما يأمره ولا يعصى الله ما أمره !
( قل : من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) . .
فما كان له من هوى شخصي ، ولا إرادة ذاتية ، في أن ينزله على قلبك ، إنما هو منفذ لإرادة الله وإذنه في تنزيل هذا القرآن على قلبك . . والقلب هو موضع التلقي ، وهو الذي يفقه بعد التلقي ، ويستقر هذا الكتاب فيه ويحفظ . . والقلب يعبر به في القرآن عن قوة الإدراك جملة وليس هو هذه العضلة المعروفة بطبيعة الحال .
نزله على قلبك . . ( مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين ) . .
والقرآن يصدق في عمومه ما سبقه من الكتب السماوية ، فأساس دين الله واحد في جميع الكتب السماوية وجميع الديانات الإلهية . . وهو هدى وبشرى للقلوب المؤمنة ، التي تتفتح له وتستجيب . . وهذه حقيقة ينبغي إبرازها . . إن نصوص القرآن لتسكب في قلب المؤمن من الإيناس ، وتفتح له من أبواب المعرفة ، وتفيض فيه من الإيحاءات والمشاعر ما لا يكون بغير الإيمان . ومن ثم يجد فيه الهدى ، كما يستروح فيه البشرى . وكذلك نجد القرآن يكرر هذه الحقيقة في مناسبات شتى . . ( هدى للمتقين ) . . ( هدى لقوم يؤمنون ) . . ( هدى لقوم يوقنون ) . . ( شفاء ورحمة للمؤمنين ) . فالهدى ثمرة الإيمان والتقوى واليقين . .
{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لّجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نَزّلَهُ عَلَىَ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىَ لِلْمُؤْمِنِينَ }
أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا على أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل ، إذْ زعموا أن جبريل عدوّ لهم ، وأن ميكائيل وليّ لهم . ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك ، فقال بعضهم : إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر نبوّته ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس ، عن بكير ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس أنه قال : حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنهنّ لا يعلمهن إلا نبيّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سَلُوا عَمّا شِئْتُمْ ، وَلَكِنْ اجْعَلُوا لِي ذِمّةَ اللّهِ وَمَا أخَذَ يَعْقُوبُ على بَنِيهِ لَئِنْ أنا حَدّثْتُكُمْ شَيْئا فَعَرَفْتُمُوهُ لَتُتابِعُنّي على الإسْلامِ » . فقالوا : ذلك لك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سَلُونِي عَمّا شِئْتُمْ » فقالوا : أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن أخبرنا أيّ الطعام حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل ، وكيف يكون الذكر منه والأنثى ؟ وأخبرنا بهذا النبيّ الأميّ في النوم ومَنْ وليه من الملائكة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عَلَيْكُمْ عَهْدُ اللّهِ لَئِنْ أنا أنْبَأْتُكُمْ لَتُتابعُنّي » . فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق ، فقال : «نَشَدْتُكُمْ بالّذِي أنْزَلَ التّوْرَاةَ على مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أنّ إسْرَائِيلَ مَرِضَ مَرَضا شَدِيدا فَطالَ سَقَمُه مِنْه ، فَنَذَرَ نَذْرا لَئِنْ عافاه الله مِنْ سَقَمِهِ لَيُحَرّمَنّ أحَبّ الطّعامِ والشرَابِ إلَيْهِ وكانَ أحَبّ الطّعامِ إلَيْهِ لَحْمُ الإبِلِ ؟ » ( قال أبو جعفر : فيما أَرى ) : «وأحَبّ الشّرَابِ إلَيْهِ ألْبانها » فقالوا : اللهم نعم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أشْهِد الله عَلَيْكُمْ وأنْشُدُكُمْ بِاللّهِ الّذِي لا إلَه إلاّ هُوَ الّذِي أنْزَلَ التّوْرَاةَ على مُوسَى ، هَلْ تَعْلَمُونَ أنّ ماءَ الرّجُلِ أبْيَضُ غَلِيظٌ ، وأنّ مَاءَ المَرأةِ أصْفَرُ رَقِيقٌ ، فَأيّهُما عَلاَ كَانَ لَهُ الوَلَدُ وَالشّبَهُ بإذْنِ اللّهِ ، فَاذَا عَلاَ مَاءُ الرّجُلِ مَاءَ المَرْأَةِ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرا بِاذْنِ اللّهِ وَإِذَا عَلاَ مَاءُ الْمَرَأَةِ مَاءَ الرّجُلِ كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى بِاذْنِ اللّهِ ؟ » . قالوا : اللهم نعم قال : «اللّهُمّ اشْهَدْ » . قال : «وَأنْشُدُكُمْ بالّذِي أنْزَلَ التّوْرَاةَ على مُوسَى ، هَلْ تَعْلَمُونَ أنّ هَذَا النّبِيّ الأمي تَنامُ عَيْنَاهُ وَلاَ يَنامُ قَلْبُهُ ؟ » . قالوا : اللهم نعم قال : «اللّهُمّ أشهَدْ » . قالوا : أنت الاَن تحدثنا مَنْ وليك من الملائكة ؟ فعندها نتابعك أو نفارقك . قال : «فَانّ وَلِيّي جِبْرِيلُ ، وَلَمْ يَبْعَثِ اللّهُ نَبِيّا قَطّ إِلاّ وَهُوَ وَلِيّهُ » . قالوا : فعندها نفارقك ، لو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك . قال : «فَمَا يَمْنَعُكُمْ أنْ تُصَدّقُوهُ ؟ » قالوا : إنه عدوّنا . فأنزل الله عزّ وجل : مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ فَانّهُ نَزّلَهُ على قَلْبِكَ بِاذْنِ اللّهِ إلى قوله : كأنّهُمْ لا يَعْلَمُونَ . فعندها باءوا بغضب على غضب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، قال : حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين ، يعني المكي ، عن شهر بن حوشب الأشعري ، أن نفرا من اليهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد أخبرنا عن أربع نسألك عنهن فإن فعلت اتبعناك وصدّقناك وآمنا بك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ عَهْدُ اللّهِ وَمِيثَاقُهُ لَئِنْ أنا أخْبَرْتُكُمْ بِذَلِكَ لَتُصَدّقُنّي » قالوا : نعم . قال : «فاسألُوا عَمّا بَدَا لَكُمْ » . فقالوا : أخبرنا كيف يشبه الولد أمه وإنما النطفة من الرجل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أَنْشُدُكُمْ بِاللّهِ وَبِأيّامِهِ عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ هَلْ تَعْلَمُونَ أنّ نُطْفَةَ الرّجُلِ بَيْضَاءُ غَلِيظَةٌ ، وَنُطْفَةَ المَرأةِ صَفْرَاءُ رَقِيقَةٌ ، فَأيّهُمَا غَلَبَتْ صَاحِبَتها كانَ لَهَا الشّبَهُ ؟ » قالوا : نعم . قالوا : فأخبرنا كيف نومك ؟ قال : «أنْشُدُكُمْ بِاللّهِ وَبِأيّامِهِ عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ ، هَلْ تَعْلَمُونَ أنّ هَذَا النّبِيّ الأميّ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ ؟ » قالوا : اللهم نعم . قال : «اللّهُمّ اشْهَدْ » قالوا : أخبرنا أيّ الطعام حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ قال : «هَلْ تَعْلَمُونَ أنّهُ كَانَ أحَبّ الطّعامِ وَالشّرابِ إلَيْهِ ألْبانُ الإبِلِ ولُحُومِهَا ، وأنّهُ اشْتَكَى شَكْوَى فَعافَاهُ اللّهُ مِنْهَا ، فَحَرّمَ أحَبّ الطّعامِ وَالشّرَابِ إلَيْهِ شُكْرا لِلّهِ فَحَرّمَ على نَفْسِهِ لُحُومَ الإبِلِ وألْبَانِهَا ؟ » قالوا : اللهم نعم . قالوا : فأخبرنا عن الروح قال : «أنْشَدُكُمْ بالله وبأيّامِهِ عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ ، هَلْ تَعْلَمُونَ أنّهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ الّذِي يأتِينِي ؟ » قالوا : نعم ، ولكنه لنا عدوّ ، وهو مَلَك إنما يأتي بالشدّة وسفك الدماء ، فلولا ذلك اتبعناك . فأنزل الله فيهم : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ فَانّهُ نَزّلَهُ على قَلْبِكَ } إلى قوله : { كأنّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : حدثني القاسم بن أبي بزة : أن يهود سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم مَنْ صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي ، فقال : «جِبْرِيل » . قالوا : فإنه لنا عدوّ ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال . فَنَزَلَ : { مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ } الآية .
قال ابن جريج : وقال مجاهد : قالت يهود : يا محمد ما ينزل جبريل إلا بشدة وحرب ، وقالوا : إنه لنا عدوّ فنزل : { مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ } الآية .
وقال آخرون : بل كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبينهم في أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ربعي بن علية ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، قال : نزل عمر الرّوْحَاء ، فرأى رجالاً يبتدرون أحجارا يصلّون إليها ، فقال : ما هؤلاء ؟ قالوا : يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ههنا . فكره ذلك وقال : إنما رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بوادٍ فصلى ثم ارتحل فتركه . ثم أنشأ يحدثهم فقال : كنت أشهد اليهود يوم مِدْرَاسهم فأعجب من التوراة كيف تصدّق الفرقان ومن الفرقان كيف يصدّق التوراة ، فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا : يا ابن الخطاب ما من أصحابك أحد أحبّ إلينا منك قلت : ولم ذلك ؟ قالوا : إنك تغشانا وتأتينا . قال : قلت إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدّق التوراة ومن التوراة كيف تصدّق الفرقان قال : ومَرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا ابن الخطاب ذاك صاحبكم فالحق به قال : فقلت لهم عند ذلك : أنشدكم بالله الذي لا إلَه إلا هو وما استرعاكم من حقه واستودعكم من كتابه ، أتعلمون أنه رسول الله ؟ قال : فسكتوا . قال : فقال عالمهم وكبيرهم : إنه قد عظّم عليكم فأجيبوه قالوا : أنت عالمنا وسيدنا فأجبه أنت . قال : أما إذْ أنشدتنا به ، فإنا نعلم أنه رسول الله . قال : قلت : ويحكم إذا هلكتم . قالوا : إنا لم نهلك . قال : قلت : كيف ذاك وأنتم تعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لا تتبعونه ، ولا تصدقونه ؟ قالوا : إن لنا عدوّا من الملائكة وسِلْما من الملائكة ، وإنه قُرِنَ به عدوّنا من الملائكة . قال : قلت : ومن عدوّكم ومن سِلْمُكم ؟ قالوا : عدوّنا جبريل وسلمنا ميكائيل . قال : قلت : وفيم عاديتم جبريل وفيم سالمتم ميكائيل ؟ قالوا : إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا ، وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ونحو هذا . قال : قلت : وما منزلتهما من ربهما ؟ قالوا : أحدهما عن يمينه والاَخر عن يساره ، قال : قلت : فوالله الذي لا إلَه إلا هو إنهما والذي بينهما لعدوّ لمن عاداهما وسلم لمن سالمهما ، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدوّ ميكائيل ، ولا لميكائيل أن يسالم عدوّ جبريل . قال : ثم قمت فاتبعت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلحقته وهو خارج من مَخْرَفة لبني فلان فقال لي : «يَا ابْنَ الخَطّابِ أَلاَ أُقْرِئُكَ آياتٍ نَزَلْنَ ؟ » فقرأ علي : قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجبْرِيلَ فَانّهُ نَزّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِاذْنِ اللّهِ مُصَدّقا لَمَا بَيْنَ يَدَيْهِ حتى قرأ الاَيات . قال : قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله والذي بعثك بالحقّ لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك الخبر فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي ، قال : قال عمر : كنت رجلاً أغشى اليهود في يوم مدراسهم ثم ذكر نحو حديث ربعي .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود ، فلما أبصروه رحّبوا به ، فقال لهم عمر : أما والله ما جئت لحبكم ولا للرغبة فيكم ، ولكن جئت لأسمع منكم فسألهم وسألوه ، فقالوا : من صاحب صاحبكم ؟ فقال لهم : جبريل . فقالوا : ذاك عدوّنا من أهل السماء يُطْلع محمدا على سرّنا ، وإذا جاء جاء بالحرب والسّنَةِ ، ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل ، وكان إذا جاء جاء بالخصب وبالسلم ، فقال لهم عمر : أفتعرفون جبريل وتنكرون محمدا ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدّثه حديثهم ، فوجده قد أُنزل عليه هذه الآية : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجبْرِيلَ فإنّهُ نَزّلَهُ على قَلْبِكَ بإذْنِ اللّهِ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر عن قتادة ، قال : بلغنا أن عمر بن الخطاب أقبل على اليهود يوما فذكر نحوه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ قال : قالت اليهود : إن جبريل هو عدوّنا لأنه ينزل بالشدّة والحرب والسنة ، وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب ، فجبريل عدوّنا . فقال الله جل ثناؤه : مَنْ كَانَ عَدُوّا لجِبْرِيلَ .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ فَانّهُ نَزّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِاذْنِ اللّهِ مُصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } قال : كان لعمر بن الخطاب أرض بأعلى المدينة ، فكان يأتيها ، وكان ممرّه على طريق مدراس اليهود ، وكان كلما دخل عليهم سمع منهم . وإنه دخل عليهم ذات يوم ، فقالوا : يا عمر ما في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحد أحبّ إلينا منك إنهم يمرّون بنا فيؤذوننا ، وتمرّ بنا فلا تؤذينا ، وإنا لنطمع فيك . فقال لهم عمر : أيّ يمين فيكم أعظم ؟ قالوا : الرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء . فقال لهم عمر : فأنشدكم بالرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء ، أتجدون محمدا صلى الله عليه وسلم عندكم ؟ فسكتوا . فقال : تكلموا ما شأنكم ؟ فوالله ما سألتكم وأنا شاكّ في شيء من ديني فنظر بعضهم إلى بعض ، فقام رجل منهم فقال : أخبروا الرجل لتخْبِرُنّه أو لأخبرنّه قالوا : نعم ، إنا نجده مكتوبا عندنا ولكن صاحبه من الملائكة الذي يأتيه بالوحي هو جبريل وجبريل عدوّنا ، وهو صاحب كل عذاب أو قتال أو خسف ، ولو أنه كان وليه ميكائيل إذا لاَمنا به ، فإن ميكائيل صاحب كل رحمة وكل غيث . فقال لهم عمر : فأنشدكم بالرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء ، أين مكان جبريل من الله ؟ قالوا : جبريل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره . قال عمر : فأشهدكم أن الذي هو عدوّ للذي عن يمينه عدوّ للذي هو عن يساره ، والذي هو عدوّ للذي هو عن يساره عدوّ للذي هو عن يمينه ، وأنه من كان عدوّهما فإنه عدوّ الله . ثم رجع عمر ليخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فوجد جبريل قد سبقه بالوحي ، فدعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه ، فقال عمر : والذي بعثك بالحقّ ، لقد جئتك وما أريد إلاّ أن أخبرك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج الرازي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مغراء ، قال : حدثنا زهير ، عن مجاهد ، عن الشعبي ، قال : انطلق عمر إلى يهود ، فقال : إني أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون محمدا في كتابكم ؟ قالوا : نعم . قال : فما يمنعكم أن تتبعوه ؟ قالوا : إن الله لم يبعث رسولاً إلا كان له كِفْلٌ من الملائكة ، وإن جبريل هو الذي يتكفل لمحمد ، وهو عدوّنا من الملائكة ، وميكائيل سِلْمُنا فلو كان هو الذي يأتيه اتبعناه . قال : فإني أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ، ما منزلتهما من ربّ العالمين ؟ قالوا : جبريل عن يمينه ، وميكائيل عن جانبه الاَخر . فقال : إني أشهد ما يقولون إلا بإذن الله ، وما كان لميكائيل أن يعادي سلم جبريل ، وما كان جبريل ليسالم عدوّ ميكائيل . ( فبينما هو عندهم ) إذ مرّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : هذا صاحبك يا ابن الخطاب . فقام إليه فأتاه وقد أنزل عليه : { مَن كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ فَانّهُ نَزّلَهُ على قَلْبِكَ بِاذْنِ اللّهِ } إلى قوله : { فَانّ اللّهَ عَدُوّ للكافِرِينَ } .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين بن عبد الرحمن ، عن ابن أبي ليلى في قوله : { مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ } قال : قالت اليهود للمسلمين : لو أن ميكائيل كان الذي ينزل عليكم لتبعناكم ، فإنه ينزل بالرحمة والغيث ، وإن جبريل ينزل بالعذاب والنقمة وهو لنا عدوّ . قال : فنزلت هذه الآية : { مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ } .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء بنحو ذلك .
وأما تأويل الآية ، أعني قوله : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ فَانّهُ نَزّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِاذْنِ اللّهِ } فهو أن الله يقول لنبيه : قل يا محمد لمعاشر اليهود من بني إسرائيل الذين زعموا أن جبريل لهم عدوّ من أجل أنه صاحب سطوات وعذاب وعقوبات لا صاحب وحي وتنزيل ورحمة ، فأبوا اتباعك وجحدوا نبوّتك ، وأنكروا ما جئتهم به من آياتي وبينات حكمي من أجل أن جبريل وليك وصاحب وحيي إليك ، وزعموا أنه عدوّ لهم : من يكن من الناس لجبريل عدوّا ومنكرا أن يكون صاحب وحي الله إلى أنبيائه وصاحب رحمته فإني له وليّ وخليل ، ومقرّ بأنه صاحب وحي إلى أنبيائه ورسله ، وأنه هو الذي ينزل وحي الله على قلبي من عند ربي بإذن ربي له بذلك يربط به على قلبي ويشدّ فؤادي . كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ } قال : وذلك أن اليهود قالت حين سألت محمدا صلى الله عليه وسلم عن أشياء كثير ، فأخبرهم بها على ما هي عندهم إلا جبريل ، فإن جبريل كان عند اليهود صاحب عذاب وسطوة ، ولم يكن عندهم صاحب وحي يعني تنزيل من الله على رسله ولا صاحب رحمة . فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سألوه عنه أن جبريل صاحب وحي الله ، وصاحب نقمته ، وصاحب رحمته . فقالوا : ليس بصاحب وحي ولا رحمة هو لنا عدوّ . فأنزل الله عزّ وجل إكذابا لهم : { قُلْ يا محمد مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ فَانّهُ نَزّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } يقول : فإن جبريل نزّله . يقول : نزل القرآن بأمر الله يشدّ به فؤادك ويربط به على قلبك ، يعني بوحينا الذي نزل به جبريل عليك من عند الله ، وكذلك يفعل بالمرسلين والأنبياء من قبلك .
حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ فَانّهُ نَزّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بإذْنِ الله } يقول : أنزل الكتاب على قلبك بإذن الله .
وحدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { فإنّهُ نَزّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } يقول : نزّل الكتاب على قلبك جبريلُ .
قال أبو جعفر : وإنما قال جل ثناؤه : { فَانّهُ نَزّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } وهو يعني بذلك قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد أمر محمدا في أول الآية أن يخبر اليهود بذلك عن نفسه ، ولم يقل : فإنه نزّله على قلبي . ولو قيل «على قلبي » كان صوابا من القول لأن من شأن العرب إذا أمرت رجلاً أن يحكي ما قيل له عن نفسه أن تخرج فعل المأمور مرّة مضافا إلى كناية نفس المخبر عن نفسه ، إذ كان المخبر عن نفسه ومرّة مضافا إلى اسمه كهيئة كناية اسم المخاطب لأنه به مخاطب فتقول في نظير ذلك : «قل للقوم إن الخير عندي كثير » فتخرج كناية اسم المخبر عن نفسه لأنه المأمور أن يخبر بذلك عن نفسه ، و«قل للقوم : إن الخير عندك كثير » فتخرج كناية اسمه كهيئة كناية اسم المخاطب لأنه وإن كان مأمورا بقيل ذلك فهو مخاطب مأمور بحكاية ما قيل له . وكذلك : «لا تقل للقوم : إني قائم » ، و«لا تقل لهم : إنك قائم » ، والياء من إني اسم المأمور بقول ذلك على ما وصفنا ومن ذلك قول الله عزّ وجل : «قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَيُغْلَبُونَ » و«تُغلبون » بالياء والتاء .
وأما جبريل ، فإن للعرب فيه لغات . فأما أهل الحجاز فإنهم يقولون جبريل وميكال بغير همز بكسر الجيم والراء من جبريل وبالتخفيف وعلى القراءة بذلك عامة قراء أهل المدينة والبصرة . أما تميم وقيس وبعض نجد فيقولون جَبْرَئيل وميكائيل ، على مثال جَبْرَعِيل وميكاعيل بفتح الجيم والراء وبهمز وزيادة ياء بعد الهمزة . وعلى القراءة بذلك عامة قرّاء أهل الكوفة ، كما قال جرير بن عطية :
عَبَدُوا الصّلِيبَ وَكَذّبوا بِمُحَمّدٍ *** وبِجَبْرَئِيلَ وَكَذّبُوا مِيكالاَ
وقد ذكر عن الحسن البصري وعبد الله بن كثير أنهما كانا يقرآن : «جَبْريل » بفتح الجيم وترك الهمز .
قال أبو جعفر : وهي قراءة غير جائزة القراءة بها ، لأن «فعيل » في كلام العرب غير موجود . وقد اختار ذلك بعضهم ، وزعم أنه اسم أعجمي كما يقال : سَمْوِيل ، وأنشد في ذلك :
بِحَيْثُ لَوْ وُزِنَتْ لَخْمٌ بأجمَعِها *** ما وَازَنَتْ رِيشَةً مِنْ رِيشِ سَمْوِيلا
وأما بنو أسد فإنها تقول «جِبْرِين » بالنون . وقد حكي عن بعض العرب أنها تزيد في جبريل ألفا فتقول : جبرائيل وميكائيل . وقد حكي عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ «جَبْرَئَلّ » بفتح الجيم والهمز وترك المدّ وتشديد اللام ، فأما «جبر » و«ميك » فإنهما هما الاسمان اللذان أحدهما بمعنى عبد والاَخر بمعنى عبيد ، وأما «إيل » فهو الله تعالى ذكره . كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جرير بن نوح الحماني ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال ابن عباس : جبريل وميكائيل كقولك عبد الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : جبريل : عبد الله ، وميكائيل : عبيد الله ، وكل اسم إيل فهو الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن عمير مولى ابن عباس : أن إسرائيل وميكائيل وجبريل وإسرافيل ، كقولك عبد الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث ، قال : «إيل » الله بالعبرانية .
حدثنا الحسين بن يزيد الضحاك ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، قال : حدثنا قيس ، عن عاصم ، عن عكرمة ، قال : جبريل اسمه عبد الله ، وميكائيل اسمه عبيد الله ، إيل : الله .
حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العبقري ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن عليّ بن حسين ، قال : اسم جبريل عبد الله ، واسم ميكائيل عبيد الله ، واسم إسرافيل عبد الرحمن وكل معبد بإيل فهو عبد الله .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال : حدثنا سفيان ، عن محمد المدني قال المثنى ، قال قبيصة : أراه محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن علي بن حسين ، قال : ما تعدّون جبريل في أسمائكم ؟ قال : جبريل عبد الله ، وميكائيل عبيد الله ، وكل اسم فيه إيل فهو معبّد لله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن عليّ بن حسين ، قال : قال لي : هل تدري ما اسم جبريل من أسمائكم ؟ قلت : لا ، قال : عبد الله ، قال : فهل تدري ما اسم ميكائيل من أسمائكم ؟ قال : لا ، قال : عبيد الله . وقد سمّى لي إسرائيل باسم نحو ذلك فنسيته ، إلا أنه قد قال لي : أرأيت كل اسم يرجع إلى إيل فهو معبد به .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة في قوله : جِبْرِيلَ قال : جبر : عبد ، إيل : الله ، وميكا قال : عبد ، إيل : الله .
قال أبو جعفر : فهذا تأويل من قرأ جبرائيل بالفتح والهمز والمدّ ، وهو إن شاء الله معنى من قرأ بالكسر وترك الهمز .
وأما تأويل من قرأ ذلك بالهمز وترك المدّ وتشديد اللام ، فإنه قصد بقوله ذلك كذلك إلى إضافة «جبر » و«ميكا » إلى اسم الله الذي يسمى به بلسان العرب دون السرياني والعبراني وذلك أن إِلالّ بلسان العرب الله كما قال : لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاّ وَلاَ ذِمّةً فقال جماعة من أهل العلم : إِلالّ : هو الله . ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لوفد بني حنيفة حين سألهم عما كان مسيلمة يقول ، فأخبروه ، فقال لهم : ويحكم أين ذهب بكم والله ، إن هذا الكلام ما خرج من إلَ ولا بِرَ . يعني من إلّ : من الله . وقد :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مجلز في قوله : لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاّ وَلاَ ذِمّةً قال : قول جبريل وميكائيل وإسرافيل ، كأنه يقول حين يضيف «جبر » و«ميكا » و«إسرا » إلى «إيل » يقول : عبد الله ، لا يرقبون في مُؤْمِنٍ إِلاّ كأنه يقول : لا يرقبون الله عزّ وجلّ .
القول في تأويل قوله تعالى : مُصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ .
يعني جل ثناؤه بقوله : { مُصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ القرآن } . ونصب مصدّقا على القطع من الهاء التي في قوله : نَزّلَهُ على قَلْبِكَ . فمعنى الكلام : فإن جبريل نزّل القرآن على قلبك يا محمد مصدقا لما بين يدي القرآن ، يعني بذلك مصدقا لما سلف من كتب الله أمامه ، ونزلت على رسله الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه إياها موافقة معانيه معانيها في الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم . وما جاء به من عند الله ، وهي تصدّقُه . كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق عن الضحاك ، عن ابن عباس : { مُصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } يقول : لما قبله من الكتب التي أنزلها الله والاَيات والرسل الذين بعثهم الله بالاَيات نحو موسى ونوح وهود وشعيب وصالح وأشباههم من الرسل صلى الله عليهم .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { مُصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التّورَاةِ وَالإنجِيلِ } .
حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُدًى وبُشْرَى للْمُؤْمِنِينَ } .
يعني بقوله جل ثناؤه : { وَهُدًى } ودليل وبرهان . وإنما سماه الله جل ثناؤه «هُدًى » لاهتداء المؤمن به ، واهتداؤه به اتخاذه إياه هاديا يتبعه وقائدا ينقاد لأمره ونهيه وحلاله وحرامه . والهادي من كل شيء ما تقدم أمامه ، ومن ذلك قيل لأوائل الخيل : هَوَادِيها ، وهو ما تقدم أمامها ، وكذلك قيل للعنق : الهادي ، لتقدمها أمام سائر الجسد .
وأما البشرى فإنها البشارة . أخبر الله عباده المؤمنين جل ثناؤه أن القرآن لهم بشرى منه لأنه أعلمهم بما أعدّ لهم من الكرامة عنده في جناته ، وما هم إليه صائرون في معادهم من ثوابه . وذلك هو البشرى التي بشر الله بها المؤمنين في كتابه لأن البشارة في كلام العرب هي إعلام الرجل بما لم يكن به عالما مما يسره من الخير قبل أن يسمعه من غيره أو يعلمه من قبل غيره . وقد روي في ذلك عن قتادة قول قريب المعنى مما قلناه .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { هُدًى وبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } لأن المؤمن إذا سمع القرآن حفظه ووعاه وانتفع به واطمأن إليه وصدّق بموعود الله الذي وعد فيه ، وكان على يقين من ذلك .