قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن } قيل : نزلت الآية في رجلين اغتابا رفيقهما ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا أو سافر ضم الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ، ويتقدم لهما إلى المنزل فيهيئ لهما ما يصلحهما من الطعام والشراب ، فضم سلمان الفارسي إلى رجلين في بعض أسفاره ، فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام فلم يهيئ لهما شيئا ، فلما قدما قالا له : ما صنعت شيئاً ؟ قال : لا ، غلبتني عيناي ، قالا له : انطلق إلى محمد صلى الله عليه وسلم فاطلب لنا منه طعاماً ، فجاء سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله طعاماً ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : انطلق إلى أسامة بن زيد ، وقل له : إن كان عنده فضل من طعام وإدام فليعطك ، وكان أسامة خازن محمد صلى الله عليه وسلم على رحله ، فأتاه فقال : ما عندي شيء ، فرجع سلمان إليهما وأخبرهما ، فقالا : كان عند أسامة طعام ولكن بخل ، فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة ، فلم يجد عندهم شيئاً ، فلما رجع قالا : لو بعثناك إلى بئر سميحة لغار ماؤها ، ثم انطلقا يتجسسان ، هل عند أسامة ما أمر لهما به محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فلما جاءا إلى محمد صلى الله عليه وسلم قال لهما : مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ، قالا : والله يا محمد ما تناولنا يومنا هذا لحماً ، قال : بل ظللتم تأكلون لحم سلمان وأسامة ، فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن } وأراد : أن يظن بأهل الخير شرا { إن بعض الظن إثم } قال سفيان الثوري : الظن ظنان : أحدهما إثم ، وهو أن تظن وتتكلم به ، والآخر ليس بإثم وهو أن تظن ولا تتكلم . { ولا تجسسوا } التجسس : هو البحث عن عيوب الناس ، نهى الله تعالى عن البحث عن المستور من عيوب الناس وتتبع عوراتهم حتى لا يظهر على ما ستره الله منها .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ، ولا تناجشوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ، ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً " . أنبأنا أبو بكر محمد بن محمد بن علي بن الحسن الطوسي بها ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الإسفرايني ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي ، أنبأنا عبد الله بن ناجية ، حدثنا يحيي بن أكثم ، أنبأنا الفضل بن موسى الشيباني ، عن الحسين بن واقد ، عن أبي أوفى بن دلهم ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورات المسلمين ، يتتبع الله عورته ، ومن يتتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله " . قال ونظر ابن عمر يوماً إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك ، والمؤمن أعظم عند الله حرمة منك . وقال زيد بن وهب : قيل لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً ، فقال : إنا قد نهينا عن التجسس ، فإن يظهر لنا شيء نأخذه به { ولا يغتب بعضكم بعضاً } يقول : لا يتناول بعضكم بعضاً بظهر الغيب بما يسوء مما هو فيه .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أنبأنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أنبأنا عبد الله بن عمر الجوهري ، حدثنا أحمد بن علي الكشمهيني ، حدثنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذكرك أخاك بما يكره ، قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول : فقد بهته " .
أنبأنا أبو الطاهر الحارثي ، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، عن المثنى بن الصباح ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده " أنهم ذكروا عند النبي صلى الله عليه وسلم رجلا فقالوا : لا يأكل حتى يطعم ، ولا يرحل حتى يرحل ، فقال النبي : قد اغتبتموه . فقالوا : إنما حدثنا بما فيه ، قال : حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه " . قوله عز وجل : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه } قال مجاهد : لما قيل لهم : أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً قالوا : لا ، قيل : فكرهتموه أي فكما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائباً . قال الزجاج : تأويله : إن ذكرك من لم يحضرك بسوء بمنزلة أكل لحم أخيك ، وهو ميت لا يحس بذلك .
أجبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا ابن أبي شيبة ، حدثنا الفريابي ، حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج ، حدثني صفوان بن عمرو ، حدثنا راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير ، عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم ولحومهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " . قال ميمون بن سيار : بينما أنا نائم إذا أنا بجيفة زنجي وقائل يقول : كل ، قلت : يا عبد الله ولم آكل ؟ قال : بما اغتبت عبد فلان ، فقلت : والله ما ذكرت فيه خيراً ولا شراً ، قال : ولكنك استمعت ورضيت به ، فكان ميمون لا يغتاب أحداً ولا يدع أحداً يغتاب عنده أحدا . { واتقوا الله إن الله تواب رحيم* }
ثم وجه - سبحانه - إلى عباده المؤمنين نداء خامسا ، نهاهم فيه عن أن يظن بعضهم ببعض ظنا سيئا بدون مبرر ، كما نهاهم عن التجسس وعن الغيبة ، حتى تبقى للمسلم حرمته وكرامته . . فقال - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا . . } .
وقوله - تعالى - { اجتنبوا } من الاجتناب يقال : اجتنب فلان فلانا إذا ابتعد عنه ، حتى لكأنه فى جانب والآخر فى جانب مقابل .
والمراد بالظن المنهى عنه هنا : الظن السيئ بأهل الخير والصلاح بدون دليل أو برهان .
قال بعض العلماء ما ملخصه : والظن أنواع : منه ما هو واجب ، ومنه ما هو محرم ، ومنه ما هو مباح .
فالمحرم : كسوء الظن بالمسلم المستور الحال ، الظاهر العدالة ، ففى الحديث الشريف : " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث . . " وفى حديث آخر : " إن الله حرم من المسلم ودمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء " .
وقلنا : كسوء الظن بالناس ، إنما تكون إذا كان لسوء الظن أثر يتعدى إلى الغير ، وأما إن تظن شرا لتتقيه ، ولا يتعدى أثر ذلك إلى الغير فذلك محمود غير مذموم ، وهو محل ما ورد من أن " من الحزم سوء الظن " .
أى : يا من آمنتم بالله - تعالى - إيمانا حقا ، ابتعدوا ابتعادا تاما عن الظنون السيئة بأهل الخير من المؤمنين ، لأن هذه الظنون السيئة التى لا تستند إلى دليل أو أمارة صحيحة إنما هى مجرد تم ، تؤدى إلى تولد الشكوك والمفاسد . . فيما بينكم .
وجاء - سبحانه - بلفظ " كثيرا " منكرا لكى يحتاط المسلم فى ظنونه ، فيبتعد عما هو محرم منها ، ولا يقدم إلا على ما هو واجب أو مباح منها - كما سبق أن أشرنا - .
وقوله - سبحانه - : { إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ } .
أى : إن الكثير من الظنون يؤدى بكم إلى الوقوع فى الذنوب والآثام فابتعدوا عنه .
قال ابن كثير : ينهى الله عباده المؤمنين عن كثير من الظن ، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس من غير محله ، لأن بعض ذلك يكون إثما محضا ، فليجتنب كثيرا منه احتياطا . . " عن حارثة بن النعمان : قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ثلاث لازمات لأمتى : " الطيرة والحسد وسوء الظن " : فقال رجل : ما الذى يذهبن يا رسول الله من هن فيه ؟ قال : " إذا حدست فاستغفر الله ، وإذا ظننت فلا تحقق ، وإذا تطيرت فامض " " .
وأخرج البيهقى فى شعب الإِيمان عن سعيد بن المسيب قال : كتب إلى بعض إخوانى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ضع أمر أخيك على أحسنه ، ما لم يأتك ما يغلبك ، ولا تظنن يكلمة خرجت من امرئ مسلم شرا وأنت تجد لها فى الخير محملا ، ومن عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه . .
وقوله - سبحانه - : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } أى : خذوا ما ظهر من أحوال الناس ولا بتحثوا عن بواطنهم أو أسرارهم .
أو عوراتهم ومعايبهم ، فإن من تتبع عورات الناس فضحه الله - تعالى - .
فالتجسس مأخوذ من الجس ، وهو البحث عما خفى من أمور الناس ، وقرأ الحس وأبو رجاء : { ولا تحسسوا } من الحس ، وهما بمعنى واحد . وقيل هما متغايران التجسس - بالجيم - معرفة الظاهر ، وأن التحسس - بالحاء - تتبع البواطن وقيل بالعكس . .
وعلى أية حال فالمراد هنا من التجسس والتحسس : النهى عن تتبع عورات المسلمين ، أخرج أبو داود وغيره " عن أبى برزة الأسلمى قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإِيمان قلبه . لا تتبعوا عورات المسلمين ، فإن من تتبع عورات المسلمين ، فضحه الله - تعالى - فى قعر بيته " .
وعن معاوية بن أبى سفيان قال : سمعت النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم " .
ثم نهى - سبحانه - بعد ذلك عن الغيبة فقال : { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } والغيبة - بكسر الغين - أن تذكر غيرك فى غيابه بما يسوءه يقال : اغتاب فلان فلانا ، إذا ذكره بسوء فى غيبته ، سواء أكان هذا الذكر بريح اللفظ أم بالكناية ، أم بالإِشارة ، أم بغير ذلك .
روى أبو داود وغيره عن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : ذكرك أخاك بما يركه . قيل : أرأيت إن كان فى أخى ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّه " .
ثم ساق - سبحانه - تشبيها ينفر من الغيبة أكمل تنفير فقال : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ } . والاستفهام للتقرير لأنه من الأمور المسلمة أن كل إنسان يكره أكل لحم أخيه حيا ، فضلا عن أكله ميتا .
والضمير فى قوله : { فَكَرِهْتُمُوهُ } يعود على الأكل المفهوم من قوله { يَأْكُلَ } و { مَيْتاً } حال من اللحم أو من الأخ .
أى : اجتنبوا أن تذكروا غيركم بسوء فى غيبته ، فإن مثل من يغتاب أخاه المسلم كمثل من يأكل لحمه وهو ميت ، ولا شك أن كل عاقل يكره ذكل وينفر منه أشد النفور .
ورحم الله - صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة : قوله - تعالى - : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ . . } تمثيل وتصوير لما يناله المتغاب من عرض غيره على أفظع وجه وأفحشه .
وفيه مبالغات شتى : منها الاستفهام الذى معناه التقرير ، ومنها : جعل ما هو الغاية فى الكراهة موصولا بالمحبة ، ومنها : إسناد الفعل إلى أحدكم ، والإِشعار بأن أحدا من الأحديث لا يحب ذلك ، ومنها : أنه -سبحانه - لم يقتصر على تمثل الاغتياب بأكل لحم الإِنسان ، وإنما جعله أخا ، ومنها : أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ وإنما جعله ميتا .
وانتصب " ميتا " على الحال من اللحم أو من الأخ . . وقوله : { فَكَرِهْتُمُوهُ } فيه معنى الشرط . أى : إن صح هذا فقد كرهتموه - فلا تفعلوه - وهى الفاء الفصيحة .
والحق أن المتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها قد نفرت من الغيبة بأبلغ أسلوب وأحكمه ، لأنها من الكبائر والقبائح التى إلى تنزق شمل المسلمين ، وإيقاد نار الكراهية فى الصدور .
قال الآلوسى ما ملخصه : وقد أخرج العلماء أشياء لا يكون لها حكم الغيبة ، وتنحصر فى ستة أسباب :
الأول : التظلم ، إذ من حق المظلوم أن يشكو ظالمه إلى من تتوسم فيه إزالة هذا الظلم .
الثان : الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته .
الثالث : الاستفتاء ، إذ يجوز للمستفتى أن يقول للمفتى : ظلمنى فلان بكذا .
الرابع : تحذير المسلمين من الشر ، كتجريح الشهود والرواة والمتصدين للإِفتاء بغير علم .
الخامس : المجاهرون بالعاصى وبارتكاب المنكرات ، فإنه يجوز ذكرهم بما تجاروا به . .
السادس : التعريف باللقب الذى لا يقصد به الإِساءة كالأعمش والأعرج .
ثم ختم - سبحانه - الاية الكريمة بدعوة المؤمنين إلى التوبة والإِنابة فقال : { واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } . أى : واتقوا - أيها المؤمنون - بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما أمركم - سبحانه - باجتنابه ، إن الله - تعالى - كثير القبول لتوبة عابده ، الذين يتوبون من قريب ، ويرجعون إلى طاعته رجوعا مصحواب بالندم على ما فرط منهم من ذنوب ، ومقرونا بالعزم على عدم العودة إلى تلك الذنوب لا فى الحال ولا فى الاستقبال . ومستوفيا لكل ما تستلزمه التوبة الصادقة من شروط .
وهو - أيضا - واسع الرحمة لعباده المؤمنين ، المستقيمين على أمره .
وبذلك نرى هذه الآية الكريمة قد نهت المسلمين عن رذائل ، يؤدى تركها إلى سعادتهم ونجاحهم ، وفتحت لهم باب التوبة لكى يقلع عنها من وقع فيها . .
( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ، إن بعض الظن إثم ، ولا تجسسوا ، ولا يغتب بعضكم بعضا . أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ? فكرهتموه . واتقوا الله ، إن الله تواب رحيم ) . .
فأما هذه الآية فتقيم سياجا آخر في هذا المجتمع الفاضل الكريم ، حول حرمات الأشخاص به وكراماتهم وحرياتهم ، بينما هي تعلم الناس كيف ينظفون مشاعرهم وضمائرهم ، في أسلوب مؤثر عجيب . .
وتبدأ - على نسق السورة - بذلك النداء الحبيب : يا أيها الذين آمنوا . . ثم تأمرهم باجتناب كثير من الظن ، فلا يتركوا نفوسهم نهبا لكل ما يهجس فيها حول الآخرين من ظنون وشبهات وشكوك . وتعلل هذا الأمر : ( إن بعض الظن إثم ) . وما دام النهي منصبا على أكثر الظن ، والقاعدة أن بعض الظن إثم ، فإن إيحاء هذا التعبير للضمير هو اجتناب الظن السيء أصلا ، لأنه لا يدري أي ظنونه تكون إثما !
بهذا يطهر القرآن الضمير من داخله أن يتلوث بالظن السيء ، فيقع في الإثم ؛ ويدعه نقيا بريئا من الهواجس والشكوك ، أبيض يكن لإخوانه المودة التي لا يخدشها ظن السوء ؛ والبراءة التي لا تلوثها الريب والشكوك ، والطمأنينة التي لا يعكرها القلق والتوقع . وما أروح الحياة في مجتمع بريء من الظنون !
ولكن الأمر لا يقف في الإسلام عند هذا الأفق الكريم الوضيء في تربية الضمائر والقلوب . بل إن هذا النص يقيم مبدأ في التعامل ، وسياجا حول حقوق الناس الذين يعيشون في مجتمعه النظيف ، فلا يؤخذون بظنة ، ولا يحاكمون بريبة ؛ ولا يصبح الظن أساسا لمحاكمتهم . بل لا يصح أن يكون أساسا للتحقيق معهم ، ولا للتحقيق حولهم . والرسول[ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " إذا ظننت فلا تحقق " . . ومعنى هذا أن يظل الناس أبرياء ، مصونة حقوقهم ، وحرياتهم ، واعتبارهم . حتى يتبين بوضوح أنهم ارتكبوا ما يؤاخذون عليه . ولا يكفي الظن بهم لتعقبهم بغية التحقق من هذا الظن الذي دار حولهم !
فأي مدى من صيانة كرامة الناس وحرياتهم وحقوقهم واعتبارهم ينتهي إليه هذا النص ! وأين أقصى ما تتعاجب به أحسن البلاد ديمقراطية وحرية وصيانة لحقوق الإنسان فيها من هذا المدى الذي هتف به القرآن الكريم للذين آمنوا ، وقام عليه المجتمع الإسلامي فعلا ، وحققه في واقع الحياة ، بعد أن حققه في واقع الضمير ?
ثم يستطرد في ضمانات المجتمع إلى مبدأ آخر يتصل باجتناب الظنون :
والتجسس قد يكون هو الحركة التالية للظن ؛ وقد يكون حركة ابتدائية لكشف العورات ، والاطلاع على السوءات .
والقرآن يقاوم هذا العمل الدنيء من الناحية الأخلاقية ، لتطهير القلب من مثل هذا الاتجاه اللئيم لتتبع عورات الآخرين وكشف سوآتهم . وتمشيا مع أهدافه في نظافة الأخلاق والقلوب .
ولكن الأمر أبعد من هذا أثرا . فهو مبدأ من مباديء الإسلام الرئيسية في نظامه الاجتماعي ، وفي إجراءاته التشريعية والتنفيذية .
إن للناس حرياتهم وحرماتهم وكراماتهم التي لا يجوز أن تنتهك في صورة من الصور ، ولا أن تمس بحال من الأحوال .
ففي المجتمع الإسلامي الرفيع الكريم يعيش الناس آمنين على أنفسهم ، آمنين على بيوتهم ، آمنين على أسرارهم ، آمنين على عوراتهم . ولا يوجد مبرر - مهما يكن - لانتهاك حرمات الأنفس والبيوت والأسرار والعورات . حتى ذريعة تتبع الجريمة وتحقيقها لا تصلح في النظام الإسلامي ذريعة للتجسس على الناس . فالناس على ظواهرهم ، وليس لأحد أن يتعقب بواطنهم . وليس لأحد أن يأخذهم إلا بما يظهر منهم من مخالفات وجرائم . وليس لأحد أن يظن أو يتوقع ، أو حتى يعرف أنهم يزاولون في الخفاء مخالفة ما ، فيتجسس عليهم ليضبطهم ! وكل ما له عليهم أن يأخذهم بالجريمة عند وقوعها وانكشافها ، مع الضمانات الأخرى التي ينص عليها بالنسبة لكل جريمة .
قال أبو داود : حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن زيد بن وهب . قال : أتى ابن مسعود ، فقيل له : هذا فلان تقطر لحيته خمرا . فقال عبد الله : إنا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به .
وعن مجاهد : لا تجسسوا ، خذوا بما يظهر لكم ، ودعوا ما ستر الله .
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن دجين كاتب عقبة . قال : قلت لعقبة : إن لنا جيرانا يشربون الخمر ، وأنا داع لهم الشرط ، فيأخذونهم . قال : لا تفعل ولكن عظهم وتهددهم . قال : ففعل فلم ينتهوا . قال : فجاءه دجين فقال : إني قد نهيتهم فلم ينتهوا . وإني داع لهم الشرط فتأخذهم . فقال له عقبة : ويحك ! لا تفعل ، فإني سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها " .
وقال سفيان الثوري ، عن راشد بن سعد ، عن معاوية بن أبي سفيان ، قال : سمعت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم " . فقال أبو الدرداء - رضي الله عنه - كلمة سمعها معاوية - رضي الله عنه - من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] نفعه الله تعالى بها .
فهكذا أخذ النص طريقه في النظام العملي للمجتمع الإسلامي ! ولم يعد مجرد تهذيب للضمير وتنظيف للقلب ، بل صار سياجا حول حرمات الناس وحقوقهم وحرياتهم ، فلا تمس من قريب أو بعيد ، تحت أي ذريعة أو ستار .
فأين هذا المدى البعيد ? وأين هذا الأفق السامق ? وأين ما يتعاجب به أشد الأمم ديمقراطية وحرية وحفظا لحقوق الإنسان بعد ألف وأربع مائة عام ?
بعد ذلك يجيء النهي عن الغيبة في تعبير عجيب ، يبدعه القرآن إبداعا :
( ولا يغتب بعضكم بعضا . أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ? فكرهتموه ) . .
لا يغتب بعضكم بعضا . ثم يعرض مشهدا تتأذى له أشد النفوس كثافة وأقل الأرواح حساسية . مشهد الأخ يأكل لحم أخيه . . ميتا . . ! ثم يبادر فيعلن عنهم أنهم كرهوا هذا الفعل المثير للاشمئزاز ، وأنهم إذن كرهوا الاغتياب !
ثم يعقب على كل ما نهاهم عنه في الآية من ظن وتجسس وغيبة باستجاشة شعور التقوى ، والتلويح لمن اقترف من هذا شيئا أن يبادر بالتوبة تطلعا للرحمة :
( واتقوا الله إن الله تواب رحيم ) . .
ويسري هذا النص في حياة الجماعة المسلمة فيتحول إلى سياج حول كرامة الناس ، وإلى أدب عميق في النفوس والقلوب . ويتشدد فيه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] متمشيا مع الأسلوب القرآني العجيب في إثارة الاشمئزاز والفزع من شبح الغيبة البغيض .
في حديث رواه أبو داود : حدثنا القعنبي ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ، ما الغيبة ? قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " ذكرك أخاك بما يكره " . قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ? قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " . . [ ورواه الترمذي وصححه ] .
وقال أبو داود : حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، حدثني علي بن الأقمر عن أبي حذيفة ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قلت للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] : حسبك من صفية كذا وكذا " قال عن مسدد تعني قصيرة " فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته " . قالت : وحكيت له إنسانا . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " ما أحب أني حكيت إنسانا وأن لي كذا وكذا " . .
وروى أبو داود بإسناده عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم . قلت : من هؤلاء يا جبرائيل ? قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " . .
ولما اعترف ماعز بالزنا هو والغامدية ، ورجمهما رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعد إقرارهما متطوعين وإلحاحهما عليه في تطهيرهما ، سمع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] رجلين يقول أحدهما لصاحبه : ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب ! ثم سار النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حتى مر بجيفة حمار ، فقال : " أين فلان وفلان ? انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار " . قالا : غفر الله لك يا رسول الله ! وهل يؤكل هذا ? قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " فما نلتما من أخيكما آنفا أشد أكلا منه . والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها " .
وبمثل هذا العلاج الثابت المطرد تطهر المجتمع الإسلامي وارتفع ، وانتهى إلى ما صار إليه : حلما يمشي على الأرض ، ومثلا يتحقق في واقع التاريخ .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظّنّ إِنّ بَعْضَ الظّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ تَوّابٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ، لا تقربوا كثيرا من الظنّ بالمؤمنين ، وذلك أن تظنوا سوءا ، فإن الظانّ غير محقّ ، وقال جلّ ثناؤه : اجْتَنِبُوا كَثِيرا مِنَ الظّنّ ولم يقل : الظنّ كله ، إذ كان قد أذِن للمؤمنين أن يظنّ بعضهم ببعض الخير ، فقال : لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنّ المُؤْمنُونَ وَالمُؤْمِناتَ بُأنْفُسِهِمْ خَيْرا وَقالُوا هَذَا إفْكٌ مُبِينٌ فأذن الله جلّ ثناؤه للمؤمنين أن يظنّ بعضهم ببعض الخير وأن يقولوه ، وإن لم يكونوا من قيله فيهم على يقين . وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثني أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرا مِنَ الظّنّ يقول : نهى الله المؤمن أن يظنّ بالمؤمن شرّا .
وقوله : إنّ بَعْضَ الظّنّ إثْمٌ يقول : إن ظنّ المؤمن بالمؤمن الشرّ لا الخير إثم ، لأن الله قد نهاه عنه ، ففعل ما نهى الله عنه إثم .
وقوله : وَلا تَجَسّسُوا يقول : ولا يتتبع بعضكم عورة بعض ، ولا يبحث عن سرائره ، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه ، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره ، وبه فاحمدوا أو ذموا ، لا على ما لا تعلمونه من سرائره . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تَجَسّسُوا يقول : نهى الله المؤمن أن يتتبع عورات المؤمن .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَلا تَجَسّسُوا قال : خذوا ما ظهر لكم ودعوا ما ستر الله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرا مِنَ الظّنّ إنّ بَعْضَ الظّنّ إثْمٌ وَلا تَجَسّسُوا هل تدرون ما التجسس أو التجسيس ؟ هو أن تتبع ، أو تبتغي عيب أخيك لتطلع على سرّه .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان وَلا تَجَسّسُوا قال : البحث .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرا مِنَ الظّنّ إنّ بَعْضَ الظّنّ إثْمٌ وَلا تَجَسّسُوا قال : حتى أنظر في ذلك وأسأل عنه ، حتى أعرف حقّ هو ، أم باطل ؟ قال : فسماه الله تجسسا ، قال : يتجسس كما يتجسس الكلاب ،
وقرأ قول الله : وَلا تَجَسّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضا وقوله : ولا يغتب بعضكم بعضا يقول : ولا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره المقول فيه ذلك أن يقال له في وجهه . وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك ، والأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
حدثني يزيد بن مخلد الواسطيّ ، قال : حدثنا خالد بن عبد الله الطحان ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة ، فقال : «هُوَ أنْ تَقُولَ لأخِيكَ ما فِيهِ ، فإنْ كُنْتَ صَادِقا فَقَدِ اغْتَبْتَه ، وَإنْ كُنْتَ كاذِبا فَقَدْ بَهَتّهُ » .
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت العلاء يحدّث ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «هَلْ تَدْرُونَ ما الْغيّبَةُ » ؟ قال : قالوا الله ورسوله أعلم قال : «ذِكْرُكَ أخاكَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ » ، قال : أرأيت إن كان في أخي ما أقول له قال : «إنْ كان فِيهِ ما تَقُولُ فَقَد اغْتَبْتَهُ ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدْ بَهَتّهُ » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا سعيد بن الربيع ، قال : حدثنا شعبة ، عن العباس ، عن رجل سمع ابن عمر يقول : إذا ذكرت الرجل بما فيه ، فقد اغتبته ، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بَهَتّه . وقال شعبة مرّة أخرى : وإذا ذكرته بما ليس فيه ، فهي فِرْية قال أبو موسى : هو عباس الجَريريّ :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن عبد الله بن مرّة ، عن مسروق قال : إذا ذكرت الرجل بأسوإ ما فيه فقد اغتبته ، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بَهتَه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، قال : إذا قلت في الرجل أسوأ ما فيه فقد اغتبته ، وإذا قلت ما ليس فيه فقد بَهتَه .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عمر بن عبيد ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، قال الغيبة : أن يقول للرجل أسوأ ما يعلم فيه ، والبهتان : أن يقول ما ليس فيه .
حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني معاوية بن صالح ، عن كثير بن الحارث ، عن القاسم ، مولى معاوية ، قال : سمعت ابن أمّ عبد يقول : ما التقم أحد لقمة أشرّ من اغتياب المؤمن ، إن قال فيه ما يعلم فقد اغتابه ، وإن قال فيه ما لا يعلم فقد بَهَتَه .
حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، قال : إذا ذكرت الرجل بما فيه فقد اغتبته ، وإذا ذكرته بما ليس فيه فذلك البهتان .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت يونس ، عن الحسن أنه قال في الغيبة : أن تذكر من أخيك ما تعلم فيه من مساوىء أعماله ، فإذا ذكرته بما ليس فيه فذلك البهتان .
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا سليمان الشيبانيّ ، قال : حدثنا حسان بن المخارق أن امرأة دخلت على عائشة فلما قامت لتخرج أشارت عائشة بيدها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أي أنها قصيرة ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «اغْتَبْتِيها » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : لو مرّ بك أقطع ، فقلت : ذاك الأقطع ، كانت منك غيبة قال : وسمعت معاوية بن قرة يقول ذلك .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت معاوية بن قُرة يقول : لو مرّ بك رجل أقطع ، فقلت له : إنه أقطع كنت قد اغتبته ، قال : فذكرت ذلك لأبي إسحاق الهمداني فقال : صدق .
حدثني جابر بن الكرديّ ، قال : حدثنا ابن أبي أويس ، قال : ثني أخي أبو بكر ، عن حماد بن أبي حميد ، عن موسى بن وردان ، عن أبي هريرة أن رجلاً قام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأوا في قيامه عجزا ، فقالوا : يا رسول الله ما أعجز فلانا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أكَلْتُمْ أخاكُمْ وَاغْتَبْتُمُوه » .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا حبان بن علي العنزيّ عن مثنى بن صباح ، عن عمرو بن شعيب ، عن معاذ بن جبل ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر القوم رجلاً ، فقالوا : ما يأكل إلا ما أطعم ، وما يرحل إلا ما رحل له ، وما أضعفه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اغْتَبْتُمْ أخاكُمْ » ، فقالوا يا رسول الله وغيبته أن نحدّث بما فيه ؟ قال : «بحَسْبِكُمْ أنْ تُحَدّثُوا عَنْ أخِيكُمْ ما فِيهِ » .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا خالد بن محمد ، عن محمد بن جعفر ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذَا ذَكَرْتَ أخاكَ بِمَا يَكْرَهُ فإنْ كانَ فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدْ بَهَتّهُ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كنا نحدّث أن الغيبة أن تذكر أخاك بما يشينه ، وتعيبه بما فيه ، وإن كذبت عليه فذلك البهتان .
وقوله أَيُحِبّ أحَدُكُمْ أنْ يأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتا فَكَرِهْتُمُوهُ يقول تعالى ذكره للمؤمنين أيحبّ أحدكم أيها القوم أن يأكل لحم أخيه بعد مماته ميتا ، فإن لم تحبوا ذلك وكرهتموه ، لأن الله حرّم ذلك عليكم ، فكذلك لا تحبوا أن تغتابوه في حياته ، فاكرهوا غيبته حيا ، كما كرهتم لحمه ميتا ، فإن الله حرّم غيبته حيا ، كما حرّم أكل لحمه ميتا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضا أَيُحِبّ أحَدُكُمْ أنْ يأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتا قال : حرّم الله على المؤمن أن يغتاب المؤمن بشيء ، كما حرّم المَيْتة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أَيُحِبّ أحَدُكُمْ أنْ يأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتا قالوا : نكره ذلك ، قال : فكذلك فاتقوا الله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أَيُحِبّ أحَدُكُمْ أنْ يأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتا فَكَرِهْتُمُوهُ يقول : كما أنت كاره لو وجدت جيفة مدوّدة أن تأكل منها ، فكذلك فاكره غِيبته وهو حيّ .
وقوله : وَاتّقُوا اللّهَ إنّ اللّهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ يقول تعالى ذكره : فاتقوا الله أيها الناس ، فخافوا عقوبته بانتهائكم عما نهاكم عنه من ظنّ أحدكم بأخيه المؤمن ظنّ السوء ، وتتبع عوراته ، والتجسس عما ستر عنه من أمره ، واغتيابه بما يكرهه ، تريدون به شينه وعيبه ، وغير ذلك من الأمور التي نهاكم عنها ربكم إنّ اللّهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ يقول : إن الله راجع لعبده إلى ما يحبه إذا رجع العبد لربه إلى ما يحبه منه ، رحيم به بأن يعاقبه على ذنب أذنبه بعد توبته منه .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : لَحْمَ أخِيهِ مَيْتا فقرأته عامة قرّاء المدينة بالتثقيل «مَيّتا » ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة مَيْتا بالتخفيف ، وهما قراءتان عندنا معروفتان متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .