قوله تعالى : { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن } عما لا يحل لهن { ويحفظن فروجهن } عمن لا يحل . وقيل أيضاً : يحفظن فروجهن يعني : يسترنها حتى لا يراها أحد . وروي عن أم سلمة : " أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه ، وذلك بعدما أمرنا بالحجاب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احتجبا منه ، فقلت : يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفعمياوان أنتما ، ألستما تبصرانه " قوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن } يعني : لا يظهرن زينتهن لغير محرم ، وأراد بها الزينة الخفية ، وهما زينتان خفية وظاهرة ، فالخفية : مثل الخلخال ، والخضاب في الرجل ، والسوار في المعصم ، والقرط والقلائد ، فلا يجوز لها إظهارها ، ولا للأجنبي النظر إليها ، والمراد من الزينة موضع الزينة . قوله تعالى : { إلا ما ظهر منها } أراد به الزينة الظاهرة . واختلف أهل العلم في هذه الزينة الظاهرة التي استثناها الله تعالى : قال سعيد بن جبير والضحاك والأوزاعي : هو الوجه والكفان . وقال ابن مسعود : هي الثياب بدليل قوله تعالى : { خذوا زينتكم عند كل مسجد } وأراد بها الثياب . وقال الحسن : الوجه والثياب . وقال ابن عباس : الكحل والخاتم والخضاب في الكف . فما كان من الزينة الظاهرة جاز للرجل الأجنبي النظر إليه إذا لم يخف فتنة وشهوة ، فإن خاف شيئاً منها غض البصر ، وإنما رخص في هذا القدر أن تبديه المرأة من بدنها لأنه ليس بعورة وتؤمر بكشفه في الصلاة ، وسائر بدنها عورة يلزمها ستره . قوله عز وجل : { وليضربن بخمرهن } أي : ليلقين بمقانعهن ، { على جيوبهن } وصدورهن ليسترن بذلك شعورهن وصدورهن وأعناقهن وأقراطهن . قالت عائشة : رحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله عز وجل : { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } شققن مروطهن فاختمرن بها . { ولا يبدين زينتهن } يعني : الزينة الخفية التي لم يبح لهن كشفها في الصلاة ولا للأجانب ، وهو ما عدا الوجه والكفين { إلا لبعولتهن } قال ابن عباس ومقاتل : يعني لا يضعن الجلباب ولا الخمار إلا لبعولتهن ، أي إلا لأزواجهن ، { أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن } فيجوز لهؤلاء أن ينظروا إلى الزينة الباطنة ، ولا ينظرون إلى ما بين السرة والركبة ، ويجوز للزوج أن ينظر إلى جميع بدنها غير أنه يكره له النظر إلى فرجها . قوله تعالى : { أو نسائهن } أراد أنه يجوز للمرأة أن تنظر إلى بدن المرأة إلا ما بين السرة والركبة كالرجل المحرم ، هذا إذا كانت المرأة مسلمة ، فإن كانت كافرة فهل يجوز للمسلمة أن تنكشف لها ؟ اختلف العلم فيه ، فقال بعضهم : يجوز كما يجوز أن تنكشف للمرأة المسلمة لأنها من جملة النساء ، وقال بعضهم : لا يجوز لأن الله تعالى قال : أو نسائهن والكافرة ليست من نسائنا ولأنها أجنبية في الدين ، وكانت أبعد من الرجل الأجنبي . كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن يمنع نساء أهل الكتاب أن يدخلن الحمام مع المسلمات . قوله تعالى : { أو ما ملكت أيمانهن } اختلفوا فيها ، فقال قوم : عبد المرأة محرم لها ، فيجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفاً ، وأن ينظر إلى بدن مولاته إلا ما بين السرة والركبة ، كالمحارم وهو ظاهر القرآن . وروي ذلك عن عائشة وأم سلمة ، وروي ثابت عن أنس { عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها ، وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال : إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك " . وقال قوم : هو كالأجنبي معها ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وقال : المراد من الآية الإماء دون العبيد . وعن ابن جريج أنه قال : ( أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن ) أنه لا يحل لامرأة مسلمة أن تتجرد بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون تلك المرأة المشركة أمةً لها . قوله عز وجل : { أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال } قرأ أبو جعفر وابن عامر وأبو بكر غير بنصب الراء على القطع لأن التابعين معرفة وغير نكرة . وقيل : بمعنى إلا فهو استثناء ، معناه : يبدين زينتهن للتابعين إلا ذا الإربة منهم فإنهن لا يبدين زينتهن لمن كان منهم ذا إربة . وقرأ الآخرون بالجر على نعت التابعين والإربة والأرب : الحاجة . والمراد بالتابعين غير أولي الإربة هم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم لا همة لهم إلا ذلك ، ولا حاجة لهم في النساء ، وهو قول مجاهد وعكرمة والشعبي . وعن ابن عباس أنه الأحمق العنين . وقال الحسن : هو الذي لا ينتشر ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن . وقال سعيد بن جبير : هو المعتوه ، وقال عكرمة : المجبوب . وقيل : هو المخنث . وقال مقاتل : الشيخ الهرم والعنين والخصي والمجبوب ونحوه .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا أحمد بن الحسين الحيري ، أنبأنا محمد ابن أحمد بن محمد بن معقل بن محمد الميداني ، أنبأنا محمد بن يحيى ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : " كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث ، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة فقال : إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا أرى هذا يعلم ما ها هنا لا يدخلن عليكن هذا ، فحجبوه " . { أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } أراد بالطفل الأطفال ، يكون واحداً وجمعاً ، أي : لم يكشفوا عن عورات النساء للجماع فيطلعوا عليها . وقيل : لم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر ، وهو قول مجاهد . وقيل : لم يطيقوا أمر النساء . وقيل : لم يبلغوا حد الشهوة . { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } كانت المرأة إذا مشت ضربت برجلها ليسمع صوت خلخالها أو يتبين خلخالها ، فنهيت عن ذلك . { وتوبوا إلى الله جميعاً } من التقصير الواقع في أمره ونهيه . وقيل : راجعوا طاعة الله فيما أمركم به ونهاكم عنه من الآداب المذكورة في هذه السورة ، { أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } قرأ ابن عامر : ( آيه ) المؤمنون وبآية الساحر وآيه الثقلان بضم الهاء فيهن ، ويقف بلا ألف على الخط ، وقرأ الآخرون بفتح الهاءات على الأصل .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أنبأنا حميد بن زنجويه ، أنبأنا وهب بن جرير ، أنبأنا شعبة عن عمرو بن مرة ، عن أبي بردة أنه سمع الأغر يحدث عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يا أيها الناس توبوا إلى الله ، فإني أتوب إليه في يوم مائة مرة " .
أخبرنا أبو الحسن عن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أنبأنا محمد بن عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن حريم الشاشي ، أنبأنا أبو محمد عبد الله بن حميد الليثي ، حدثني ابن أبي شيبة ، أنبأنا عبد الله بن تمير ، عن مالك بن مغول ، عن محمد بن سوقة ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : " إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول : رب اغفر لي ، وتب علي ، إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة " . وجملة الكلام في بيان العورات : أنه لا يجوز للرجل أن ينظر إلى عورة الرجل ، وعورته ما بين السرة والركبة ، وكذلك المرأة مع المرأة ، ولا بأس بالنظر إلى سائر البدن إذا لم يكن خوف فتنة . وقال مالك وابن أبي ذئب : الفخذ ليس بعورة لما روي عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال : " أجرى نبي الله صلى الله عليه وسلم فرساً في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم " . وأكثر أهل العلم على أن الفخذ عورة .
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد الفضل الحزقي ، أنبأنا أبو الحسن الطيسفوني ، أنبأنا عبد الله بن عمر الجوهري ، حدثنا أحمد بن علي الكشميهني ، أنبأنا علي بن حجر ، أنبأنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن أبي كثير ، عن محمد بن جحش قال : " مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على معمر وفخذاه مكشوفتان ، قال : يا معمر غط فخذيك ، فإن الفخذين عورة " وروي عن ابن عباس وجرهد بن خويلد ، كان من أصحاب الصفة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الفخذ عورة " . قال محمد بن إسماعيل : وحديث أنس أسند ، وحديث جرهد أحوط . أما المرأة مع الرجل فإن كانت أجنبيةً حرةً : فجميع بدنها في حق الأجنبي عورة ، ولا يجوز النظر إلى شيء منها إلا الوجه والكفين ، وإن كانت أمة : فعورتها مثل عورة الرجل ، ما بين السرة إلى الركبة ، وكذلك المحارم بعضهم مع بعض . والمرأة في النظر إلى الرجل الأجنبي كهو معها . ويجوز للرجال أن ينظر إلى جميع بدن امرأته وأمته التي تحل له ، وكذلك هي منه إلا نفس الفرج فإنه يكره النظر إليه ، وإذا زوج الرجل أمته حرم عليه النظر إلى عورتها كالأمة الأجنبية ، وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا زوج أحدكم عبده أمته فلا ينظرن إلى ما دون السرة وفوق الركبة " .
ثم أرشد - سبحانه - النساء إلى ما أرشد إليه الرجال فقال : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } .
أى : وقل - أيها الرسول الكريم - للمؤمنات - أيضا - بأن الواجب عليهم أن يكففن أبصارهن عن النظر إلى مالا يحل لهن ، وأن يحفظن فروجهن عن كل ما نهى الله - تعالى - عنه ، ولا يظهرن شيئا مما يتزين به ، إلا ما جرت العادة بإظهاره ، كالخاتم فى الإصبع ، والكحل فى العين .
. . وما يشبه ذلك من الأمور التى لا غنى للمرأة عن إظهارها .
ومع أن النساء يدخلن فى خطاب الرجال على سبيل التغليب ، إلا أن الله - تعالى - خصهن بالخطاب هنا بعد الرجال ، لتأكيد الأمر بغض البصر ، وحفظ الفرج ، ولبيان أنه كما لا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة - إلا فى حدود ما شرعه الله - فإنه لا يحل للمرأة كذلك أن تنظر إلى الرجل ، لأن علاقتها به ، ومقصده منها كمقصدها منه ، ونظرة أحدهما للآخر - على سبيل الفتنة وسوء القصد - يؤدى إلى مالا تحمد عقباه .
وقوله - تعالى - : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ } بيان لكيفية إخفاء بعض مواضع الزينة بعد النهى عن إبدائها .
والخُمُر - بضم الخاء والميم - جمع خمار . وهو ما تغطى به المرأة رأسها وعنقها وصدرها ، والجيوب جمع جيب ، وهو فتحة فى أعلى الثياب يبدو منها بعض صدر المرأة وعنقها .
والمراد به هنا : محله وهو أعلى الصدر ، وأصله : من الجَب بمعنى القطع .
أى : وعلى النساء المؤمنات أن يسترن رءوسهن وأعناقهن وصدورهن بخمرهن ، حتى لا يطلع أحد من الأجانب على شىء من ذلك .
قالوا : وكان النساء فى الجاهلية يسدلن خمرهن من خلف رءوسهن ، فتنكشف نحورهن وأعناقهن وقلائدهن ، فنهى الله - تعالى - المؤمنات عن ذلك .
ولقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث ، منها : ما رواه البخارى عن عائشة - رضى الله عنها - قالت : يرحم الله نساء المهاجرات الأول - لما أنزل الله - تعالى - : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ } أخذن أزرهن فشققنها فاختمرن بها .
وفى رواية أنها قالت : إن لنساء قريش لفضلا ، وإنى - والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا بكتاب الله ، ولا إيمانا بالتنزيل ، لما نزلت هذه الآية . انقلب إليهن رجالهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته ، وعلى كل ذى قرابة ، فما منهم امرأة إلا قامت إلى مرطها - وهو كساء من صوف - فاعتجرت به تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه ، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم فى صلاة الصبح معتجرات كأن رءوسهن الغربان .
والمقصود بزينتهن فى قوله - تعالى - : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ } الزينة الخفية وهى ما عدا الوجه والكفين ، كشعر الرأس والذراعين والساقين .
فقد نهى الله - تعالى - النساء المؤمنات عن إبداء مواضع الزينة الخفية لكل أحد ، إلا من استثناهم - سبحانه - بعد ذلك ، وهم اثنا عشر نوعا ، بدأهم بالبعول وهم الأزواج لأنهم هم المقصودون بالزينة ، ولأن كل بدن الزوجة حلال لزوجها .
أى : وعلى النساء المؤمنات أن يلتزمن الاحتشام فى مظهرهن ، ولا يبدين مواضع زينتهن الخفية إلا " لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أن بنى إخوانهن أو بنى أخواتهن " فهؤلاء الأصناف السبعة الذين ذكرهم الله - تعالى - بعد الأزواج ، كلهم من المحارم الذين لا يحل للمرأة الزواج بواحد منهم ، وقد جرت العادة باحتياج النساء إلى مخالطتهم ، كما جرت العادة بأن الفتنة مأمونة بالنسبة لهم ، فمن طبيعة النفوس الكريمة أنها تأنف من التطلع إلى المحارم بالنسبة لها . ويلحق بهؤلاء المحارم الأعمام والأخوال والمحارم من الرضاع . والأصول وإن علوا ، والفروع وإن سفلوا .
وقوله - تعالى - : { أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء } بيان لبقية الأفراد الذين يجوز للمرأة أن تبدى زينتها الخفية أمامهم .
أى : ويجوز للنساء المؤمنات أن يبدين زينتهن - أيضا - أمام نسائهم المختصات بهن الصحبة والخدمة ، وأمام ما ملكت إيمانهن من الإيماء لا من العبيد البالغين ، وأمام الرجال التابعين لهن طلبا للإحسان والانتفاع ، والذين فى الوقت نفسه قد تقدمت بهم السن ، ولا حاجة لهم فى النساء ، ولا يعرفون شيئا من أمورهن ، ولا تحدثهم أنفسهم بفاحشة ، ولا يصفونهن للأجانب .
فقوله - سبحانه - : { غَيْرِ أُوْلِي الإربة } أى : غير ذوى الحاجة من الرجال فى النساء يقال : أَرِب الرجل إلى الشىء يأرَبُ أرضبا - من باب تعب إذا احتاج إليه .
ويجوز لهن كذلك إظهار زينتهن أمام الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء ، أى : الذين لم يعرفوا ما العورة ، ولم يستطيعوا بعد التمييز بينها وبين غيرها ، ولم يبلغوا السن التى يشتهون فيها النساء .
يقال : ظهر على الشىء إذا اطلع عليه وعرفه ، ويقال : فلان ظهر على فلان إذا قوى عليه وغلبه .
فهؤلاء اثنا عشر نوعا من الناس ، ليس عليهم ولا على المرأة حرج ، فى أن يروا منها موضع الزينة الخفية ، كالرأس والذراعين ، والساقين ، لا نتفاء الفتنة التى من أجلها كان الستر والغطاء . فأما الزوج فله رؤية جميع جسدها .
ثم نهى - سبحانه - النساء عن ابداء حركات تعلن عن زينتهن المستورة ، بل عليهن أن يلتزمن من خلال خروجهن من بيوتهن الأدب والاحتشام والمشى الذى يصاحب الوقار والاتزان ، فقال - تعالى - : { وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } .
أى : ولا يصح للنساء المؤمنات أن يضربن بأرجلهن فى الأرض ، ليسمعن غيرهن من الرجال أصوات حليهن الداخلية ، بقصد التطلع إليهن ، والميل نحوهن بالمحادثة أو ما يشبهها .
فالمقصود من الجملة الكريمة نهى المرأة المسلمة ، عن استعمال أى حركة أو فعل من شأنه إثارة الشهوة والفتنة كالمشية المتكلفة ، والتعطر الملفت للنظر ، وما إلى ذلك من ألوان التصنع الذى من شأنه تهييج الغرائز الجنسية .
ثم ختم - سبحانه - تلك الآية الجامعة لأنواع من الأدب السامى ، بدعوة المؤمنين إلى التوبة الصادقة . فقال - تعالى - : { وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
أى : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون والمؤمنات ، توبة صادقة نصوحا تجعلكم تخشونه - سبحانه - فى السر والعلن ، لكى تنالوا الفلاح والنجاح فى دنياكم وأخراكم .
قال القرطبى : " ليس فى القرآن الكريم آية أكثر ضمائر من هذه الآية . جمعت خمسة وعشرين ضميرا للمؤمنات ما بين مرفوع ومجرور . . . " .
هذا ، ومن الأحكام والآداب التى اشتملت عليها هاتان الآيتان ما يأتى :
1 - وجوب غض البصر وحفظ الفرج ، لأن الإسلام يهدف إلى مجتمع طاهر من الدنس ، نظيف من الخنا ، مجتمع لا تمنع فيه الشهوات الحلال وإنما تمنع منه الشهوات الحرام ، مجتمع لا تختلس فيه العيون النظرات السيئة ولا تتطلع فيه الأبصار إلى مالا يحل لها التطلع إليه ، فالله - تعالى - يقول : { إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } ويقول : { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور } وقد وردت أحاديث متعددة فى الأمر بغض البصر ، وحفظ الفرج ، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة ، العينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناهما الكلام ، واليد زناها البطش ، والرجل زناها الخطا ، والقلب يهوى ويتمنى ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه " .
وروى الإمام مسلم فى صحيحه عن جرير بن عبد الله قال : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة - أى البغتة من غير قصد - فقال : " اصرف بصرك " ؟ "
2 - أنه لا يحل للمرأة أن تبدى زينتها لأجانب ، إلا ما ظهر منها ، لأن الله - تعالى - يقول : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } .
قال الإمام القرطبى ما ملخصه : " أمر الله - تعالى - النساء بالا يبدين زينتهن للناظرين ، إلا ما استثناه من الناظرين فى باقى الآية ، حذارا من الافتتان ، ثم استثنى ما يظهر من الزينة ، واختلف الناس فى قدر ذلك .
فقال ابن مسعود : طاهر الزينة هو الثياب . . . وقال سعيد بن جبير والأوزاعى : الوجه والكفان والثياب . . . وقال ابن عباس وقتادة : ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب . . ونحو هذا ، فمباح أن تبديه لكل من ظهر عليها من الناس .
وقال ابن عطية : ويظهر لى بحكم ألفاظ الآية ، بأن المرأة مأمورة بأن لا تبدى ، وأن لا تجتهد فى الإخفاء لكل ما هو زينة ، ووقع الاستثناء فيما يظهر ، بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه ، أو إصلاح شأن ونحو ذلك ، " فما ظهر " على هذا الوجه مما تؤدى إليه الضرورة فى النساء فهو المعفو عنه .
قلت : أى القرطبى - : وهذا قول حسن ، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما ، عادة وعبادة ، صح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما .
يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة ، " أن أسماء بنت أبى بكر ، دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق ، فأعرض عنها وقال : " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا ، وأشار إلى وجهه وكفيه " " .
وقال بعض علمائنا : " إن المرأة إذا كانت جميلة وخيف من وجهها و كفيها الفتنة فعليها ستر ذلك " .
هذا ، وفى هذه المسألة كلام كثير للعلماء فارجع إليه إن شئت .
وإلى هنا ترى السورة الكريمة قد نهت عن الزنا ، ووضعت فى طريقه السدود الوقائية والنفسية . حيث حرمت الاختلاط ، وأمرت بالاستئذان ، وبغض البصر ، وبحفظ الفرج ، وبعدم التبرج ، وبالإكثار من التوبة إلى الله - تعالى - .
( وقل للمؤمنات : يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ) . .
فلا يرسلن بنظراتهن الجائعة المتلصصة ، أو الهاتفة المثيرة ، تستثير كوامن الفتنة في صدور الرجال . ولا يبحن فروجهن إلا في حلال طيب ، يلبي داعي الفطرة في جو نظيف ، لا يخجل الأطفال الذين يجيئون عن طريقه عن مواجهة المجتمع والحياة !
( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) . .
والزينة حلال للمرأة ، تلبية لفطرتها . فكل أنثى مولعة بأن تكون جميلة ، وأن تبدو جميلة . والزينة تختلف من عصر إلى عصر ؛ ولكن أساسها في الفطرة واحد ، هو الرغبة في تحصيل الجمال أو استكماله ، وتجليته للرجال .
والإسلام لا يقاوم هذه الرغبة الفطرية ؛ ولكنه ينظمها ويضبطها ، ويجعلها تتبلور في الاتجاه بها إلى رجل واحد - هو شريك الحياة - يطلع منها على ما لا يطلع أحد سواه . ويشترك معه في الاطلاع على بعضها ، المحارم والمذكورون في الآية بعد ، ممن لا يثير شهواتهم ذلك الاطلاع .
فأما ما ظهر من الزينة في الوجه واليدين ، فيجوز كشفه . لأن كشف الوجه واليدين مباح لقوله [ صلى الله عليه وسلم ] لأسماء بنت أبي بكر : " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض ، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا - وأشار إلى وجهه وكفيه " .
( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) . .
والجيب فتحة الصدر في الثوب . والخمار غطاء الرأس والنحر والصدر . ليداري مفاتنهن ، فلا يعرضها للعيون الجائعة ؛ ولا حتى لنظرة الفجاءة ، التي يتقي المتقون أن يطيلوها أو يعاودوها ، ولكنها قد تترك كمينا في أطوائهم بعد وقوعها على تلك المفاتن لو تركت مكشوفة !
إن الله لا يريد أن يعرض القلوب للتجربة والابتلاء في هذا النوع من البلاء !
والمؤمنات اللواتي تلقين هذا النهي . وقلوبهن مشرقة بنور الله ، لم يتلكأن في الطاعة ، على الرغم من رغبتهن الفطرية في الظهور بالزينة والجمال . وقد كانت المرأة في الجاهلية - كما هي اليوم في الجاهلية الحديثة ! - تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء . وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها ، وأقرطة أذنيها . فلما أمر الله النساء أن يضربن بخمرهن على جيوبهن ، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ، كن كما قالت عائشة رضي الله عنها - : " يرحم الله نساء المهاجرات الأول . لما أنزل الله : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن )شققن مروطهن فاختمرن بها . . وعن صفية - بنت شيبة قالت : بينما نحن عند عائشة . قالت : فذكرن نساء قريش وفضلهن . فقالت عائشة - رضي الله عنها - إن لنساء قريش لفضلا . وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار ، وأشد تصديقا لكتاب الله ، ولا إيمانا بالتنزيل . لما نزلت في سورة النور : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن )انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ؛ ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته ، وعلى كل ذي قرابته . فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل ، فاعتجرت به تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه . فأصبحن وراء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان " .
لقد رفع الإسلام ذوق المجتمع الإسلامي ، وطهر إحساسه بالجمال ؛ فلم يعد الطابع الحيواني للجمال هو المستحب ، بل الطابع الإنساني المهذب . . وجمال الكشف الجسدي جمال حيواني يهفو إليه الإنسان بحس الحيوان ؛ مهما يكن من التناسق والاكتمال . فأما جمال الحشمة فهو الجمال النظيف ، الذي يرفع الذوق الجمالي ، ويجعله لائقا بالإنسان ، ويحيطه بالنظافة والطهارة في الحس والخيال .
وكذلك يصنع الإسلام اليوم في صفوف المؤمنات . على الرغم من هبوط الذوق العام ، وغلبة الطابع الحيواني عليه ؛ والجنوح به إلى التكشف والعري والتنزي كما تتنزى البهيمة ! فإذا هن يحجبن مفاتن أجسامهن طائعات ، في مجتمع يتكشف ويتبرج ، وتهتف الأنثى فيه للذكور حيثما كانت هتاف الحيوان للحيوان !
هذا التحشم وسيلة من الوسائل الوقائية للفرد والجماعة . . ومن ثم يبيح القرآن تركه عندما يأمن الفتنة . فيستثني المحارم الذين لا تتوجه ميولهم عادة ولا تثور شهواتهم وهم :
الآباء والأبناء ، وآباء الأزواج وأبناؤهم ، والإخوة وأبناء الإخوة ، وأبناء الأخوات . . كما يستثني النساء المؤمنات : ( أو نسائهن )فأما غير المسلمات فلا . لأنهن قد يصفن لأزواجهن وإخوتهن ، وأبناء ملتهن مفاتن نساء المسلمين وعوراتهن لو اطلعن عليها . وفي الصحيحين : " لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه يراها " . . أما المسلمات فهن أمينات ، يمنعهن دينهن أن يصفن لرجالهن جسم امرأة مسلمة وزينتها . . ويستثني كذلك ( ما ملكت أيمانهن )قيل من الإناث فقط ، وقيل : ومن الذكور كذلك . لأن الرقيق لا تمتد شهوته إلى سيدته . والأول أولى ، لأن الرقيق إنسان تهيج فيه شهوة الإنسان ، مهما يكن له من وضع خاص ؛ في فترة من الزمان . . ويستثني ( التابعين غير أولي الإربة من الرجال ) . . وهم الذين لا يشتهون النساء لسبب من الأسباب كالجب والعنة والبلاهة والجنون . . وسائر ما يمنع الرجل أن تشتهي نفسه المرأة . لأنه لا فتنة هنا ولا إغراء . . ويستثني ( الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ) . . وهم الأطفال الذين لا يثير جسم المرأة فيهم الشعور بالجنس . فإذا ميزوا ، وثار فيهم هذا الشعور - ولو كانوا دون البلوغ - فهم غير داخلين في هذا الاستثناء .
وهؤلاء كلهم - عدا الأزواج - ليس عليهم ولا على المرأة جناح أن يروا منها ، إلا ما تحت السرة إلى تحت الركبة . لانتفاء الفتنة التي من أجلها كان الستر والغطاء . فأما الزوج فله رؤية كل جسدها بلا استثناء .
ولما كانت الوقاية هي المقصودة بهذا الإجراء ، فقد مضت الآية تنهي المؤمنات عن الحركات التي تعلن عن الزينة المستورة ، وتهيج الشهوات الكامنة ، وتوقظ المشاعر النائمة . ولو لم يكشفن فعلا عن الزينة :
( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ) . .
وإنها لمعرفة عميقة بتركيب النفس البشرية وانفعالاتها واستجاباتها . فإن الخيال ليكون أحيانا أقوى في إثارة الشهوات من العيان . وكثيرون تثير شهواتهم رؤية حذاء المرأة أو ثوبها ، أو حليها ، أكثر مما تثيرها رؤية جسد المرأة ذاته . كما أن كثيرين يثيرهم طيف المرأة يخطر في خيالهم ، أكثر مما يثيرهم شخص المرأة بين أيديهم - وهي حالات معروفة عند علماء الأمراض النفسية اليوم - وسماع وسوسة الحلى أو شمام شذى العطر من بعيد ، قد يثير حواس رجال كثيرين ، ويهيج أعصابهم ، ويفتنهم فتنة جارفة لا يملكون لها ردا . والقرآن يأخذ الطريق على هذا كله . لأن منزله هو الذي خلق ، وهو الذي يعلم من خلق . وهو اللطيف الخبير .
وفي النهاية يرد القلوب كلها إلى الله ؛ ويفتح لها باب التوبة مما ألمت به قبل نزول هذا القرآن :
( وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) .
بذلك يثير الحساسية برقابة الله ، وعطفه ورعايته ، وعونه للبشر في ضعفهم أمام ذلك الميل الفطري العميق ، الذي لا يضبطه مثل الشعور بالله ، وبتقواه . .