معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوۡ ءَابَآئِهِنَّ أَوۡ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآئِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ أَخَوَٰتِهِنَّ أَوۡ نِسَآئِهِنَّ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُنَّ أَوِ ٱلتَّـٰبِعِينَ غَيۡرِ أُوْلِي ٱلۡإِرۡبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفۡلِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يَظۡهَرُواْ عَلَىٰ عَوۡرَٰتِ ٱلنِّسَآءِۖ وَلَا يَضۡرِبۡنَ بِأَرۡجُلِهِنَّ لِيُعۡلَمَ مَا يُخۡفِينَ مِن زِينَتِهِنَّۚ وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (31)

قوله تعالى : { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن } عما لا يحل لهن { ويحفظن فروجهن } عمن لا يحل . وقيل أيضاً : يحفظن فروجهن يعني : يسترنها حتى لا يراها أحد . وروي عن أم سلمة : " أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه ، وذلك بعدما أمرنا بالحجاب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احتجبا منه ، فقلت : يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفعمياوان أنتما ، ألستما تبصرانه " قوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن } يعني : لا يظهرن زينتهن لغير محرم ، وأراد بها الزينة الخفية ، وهما زينتان خفية وظاهرة ، فالخفية : مثل الخلخال ، والخضاب في الرجل ، والسوار في المعصم ، والقرط والقلائد ، فلا يجوز لها إظهارها ، ولا للأجنبي النظر إليها ، والمراد من الزينة موضع الزينة . قوله تعالى : { إلا ما ظهر منها } أراد به الزينة الظاهرة . واختلف أهل العلم في هذه الزينة الظاهرة التي استثناها الله تعالى : قال سعيد بن جبير والضحاك والأوزاعي : هو الوجه والكفان . وقال ابن مسعود : هي الثياب بدليل قوله تعالى : { خذوا زينتكم عند كل مسجد } وأراد بها الثياب . وقال الحسن : الوجه والثياب . وقال ابن عباس : الكحل والخاتم والخضاب في الكف . فما كان من الزينة الظاهرة جاز للرجل الأجنبي النظر إليه إذا لم يخف فتنة وشهوة ، فإن خاف شيئاً منها غض البصر ، وإنما رخص في هذا القدر أن تبديه المرأة من بدنها لأنه ليس بعورة وتؤمر بكشفه في الصلاة ، وسائر بدنها عورة يلزمها ستره . قوله عز وجل : { وليضربن بخمرهن } أي : ليلقين بمقانعهن ، { على جيوبهن } وصدورهن ليسترن بذلك شعورهن وصدورهن وأعناقهن وأقراطهن . قالت عائشة : رحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله عز وجل : { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } شققن مروطهن فاختمرن بها . { ولا يبدين زينتهن } يعني : الزينة الخفية التي لم يبح لهن كشفها في الصلاة ولا للأجانب ، وهو ما عدا الوجه والكفين { إلا لبعولتهن } قال ابن عباس ومقاتل : يعني لا يضعن الجلباب ولا الخمار إلا لبعولتهن ، أي إلا لأزواجهن ، { أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن } فيجوز لهؤلاء أن ينظروا إلى الزينة الباطنة ، ولا ينظرون إلى ما بين السرة والركبة ، ويجوز للزوج أن ينظر إلى جميع بدنها غير أنه يكره له النظر إلى فرجها . قوله تعالى : { أو نسائهن } أراد أنه يجوز للمرأة أن تنظر إلى بدن المرأة إلا ما بين السرة والركبة كالرجل المحرم ، هذا إذا كانت المرأة مسلمة ، فإن كانت كافرة فهل يجوز للمسلمة أن تنكشف لها ؟ اختلف العلم فيه ، فقال بعضهم : يجوز كما يجوز أن تنكشف للمرأة المسلمة لأنها من جملة النساء ، وقال بعضهم : لا يجوز لأن الله تعالى قال : أو نسائهن والكافرة ليست من نسائنا ولأنها أجنبية في الدين ، وكانت أبعد من الرجل الأجنبي . كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن يمنع نساء أهل الكتاب أن يدخلن الحمام مع المسلمات . قوله تعالى : { أو ما ملكت أيمانهن } اختلفوا فيها ، فقال قوم : عبد المرأة محرم لها ، فيجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفاً ، وأن ينظر إلى بدن مولاته إلا ما بين السرة والركبة ، كالمحارم وهو ظاهر القرآن . وروي ذلك عن عائشة وأم سلمة ، وروي ثابت عن أنس { عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها ، وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال : إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك " . وقال قوم : هو كالأجنبي معها ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وقال : المراد من الآية الإماء دون العبيد . وعن ابن جريج أنه قال : ( أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن ) أنه لا يحل لامرأة مسلمة أن تتجرد بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون تلك المرأة المشركة أمةً لها . قوله عز وجل : { أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال } قرأ أبو جعفر وابن عامر وأبو بكر غير بنصب الراء على القطع لأن التابعين معرفة وغير نكرة . وقيل : بمعنى إلا فهو استثناء ، معناه : يبدين زينتهن للتابعين إلا ذا الإربة منهم فإنهن لا يبدين زينتهن لمن كان منهم ذا إربة . وقرأ الآخرون بالجر على نعت التابعين والإربة والأرب : الحاجة . والمراد بالتابعين غير أولي الإربة هم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم لا همة لهم إلا ذلك ، ولا حاجة لهم في النساء ، وهو قول مجاهد وعكرمة والشعبي . وعن ابن عباس أنه الأحمق العنين . وقال الحسن : هو الذي لا ينتشر ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن . وقال سعيد بن جبير : هو المعتوه ، وقال عكرمة : المجبوب . وقيل : هو المخنث . وقال مقاتل : الشيخ الهرم والعنين والخصي والمجبوب ونحوه .

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا أحمد بن الحسين الحيري ، أنبأنا محمد ابن أحمد بن محمد بن معقل بن محمد الميداني ، أنبأنا محمد بن يحيى ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : " كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث ، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة فقال : إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا أرى هذا يعلم ما ها هنا لا يدخلن عليكن هذا ، فحجبوه " . { أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } أراد بالطفل الأطفال ، يكون واحداً وجمعاً ، أي : لم يكشفوا عن عورات النساء للجماع فيطلعوا عليها . وقيل : لم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر ، وهو قول مجاهد . وقيل : لم يطيقوا أمر النساء . وقيل : لم يبلغوا حد الشهوة . { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } كانت المرأة إذا مشت ضربت برجلها ليسمع صوت خلخالها أو يتبين خلخالها ، فنهيت عن ذلك . { وتوبوا إلى الله جميعاً } من التقصير الواقع في أمره ونهيه . وقيل : راجعوا طاعة الله فيما أمركم به ونهاكم عنه من الآداب المذكورة في هذه السورة ، { أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } قرأ ابن عامر : ( آيه ) المؤمنون وبآية الساحر وآيه الثقلان بضم الهاء فيهن ، ويقف بلا ألف على الخط ، وقرأ الآخرون بفتح الهاءات على الأصل .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أنبأنا حميد بن زنجويه ، أنبأنا وهب بن جرير ، أنبأنا شعبة عن عمرو بن مرة ، عن أبي بردة أنه سمع الأغر يحدث عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يا أيها الناس توبوا إلى الله ، فإني أتوب إليه في يوم مائة مرة " .

أخبرنا أبو الحسن عن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أنبأنا محمد بن عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن حريم الشاشي ، أنبأنا أبو محمد عبد الله بن حميد الليثي ، حدثني ابن أبي شيبة ، أنبأنا عبد الله بن تمير ، عن مالك بن مغول ، عن محمد بن سوقة ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : " إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول : رب اغفر لي ، وتب علي ، إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة " . وجملة الكلام في بيان العورات : أنه لا يجوز للرجل أن ينظر إلى عورة الرجل ، وعورته ما بين السرة والركبة ، وكذلك المرأة مع المرأة ، ولا بأس بالنظر إلى سائر البدن إذا لم يكن خوف فتنة . وقال مالك وابن أبي ذئب : الفخذ ليس بعورة لما روي عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال : " أجرى نبي الله صلى الله عليه وسلم فرساً في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم " . وأكثر أهل العلم على أن الفخذ عورة .

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد الفضل الحزقي ، أنبأنا أبو الحسن الطيسفوني ، أنبأنا عبد الله بن عمر الجوهري ، حدثنا أحمد بن علي الكشميهني ، أنبأنا علي بن حجر ، أنبأنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن أبي كثير ، عن محمد بن جحش قال : " مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على معمر وفخذاه مكشوفتان ، قال : يا معمر غط فخذيك ، فإن الفخذين عورة " وروي عن ابن عباس وجرهد بن خويلد ، كان من أصحاب الصفة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الفخذ عورة " . قال محمد بن إسماعيل : وحديث أنس أسند ، وحديث جرهد أحوط . أما المرأة مع الرجل فإن كانت أجنبيةً حرةً : فجميع بدنها في حق الأجنبي عورة ، ولا يجوز النظر إلى شيء منها إلا الوجه والكفين ، وإن كانت أمة : فعورتها مثل عورة الرجل ، ما بين السرة إلى الركبة ، وكذلك المحارم بعضهم مع بعض . والمرأة في النظر إلى الرجل الأجنبي كهو معها . ويجوز للرجال أن ينظر إلى جميع بدن امرأته وأمته التي تحل له ، وكذلك هي منه إلا نفس الفرج فإنه يكره النظر إليه ، وإذا زوج الرجل أمته حرم عليه النظر إلى عورتها كالأمة الأجنبية ، وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا زوج أحدكم عبده أمته فلا ينظرن إلى ما دون السرة وفوق الركبة " .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوۡ ءَابَآئِهِنَّ أَوۡ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآئِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ أَخَوَٰتِهِنَّ أَوۡ نِسَآئِهِنَّ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُنَّ أَوِ ٱلتَّـٰبِعِينَ غَيۡرِ أُوْلِي ٱلۡإِرۡبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفۡلِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يَظۡهَرُواْ عَلَىٰ عَوۡرَٰتِ ٱلنِّسَآءِۖ وَلَا يَضۡرِبۡنَ بِأَرۡجُلِهِنَّ لِيُعۡلَمَ مَا يُخۡفِينَ مِن زِينَتِهِنَّۚ وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (31)

ثم أرشد - سبحانه - النساء إلى ما أرشد إليه الرجال فقال : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } .

أى : وقل - أيها الرسول الكريم - للمؤمنات - أيضا - بأن الواجب عليهم أن يكففن أبصارهن عن النظر إلى مالا يحل لهن ، وأن يحفظن فروجهن عن كل ما نهى الله - تعالى - عنه ، ولا يظهرن شيئا مما يتزين به ، إلا ما جرت العادة بإظهاره ، كالخاتم فى الإصبع ، والكحل فى العين .

. . وما يشبه ذلك من الأمور التى لا غنى للمرأة عن إظهارها .

ومع أن النساء يدخلن فى خطاب الرجال على سبيل التغليب ، إلا أن الله - تعالى - خصهن بالخطاب هنا بعد الرجال ، لتأكيد الأمر بغض البصر ، وحفظ الفرج ، ولبيان أنه كما لا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة - إلا فى حدود ما شرعه الله - فإنه لا يحل للمرأة كذلك أن تنظر إلى الرجل ، لأن علاقتها به ، ومقصده منها كمقصدها منه ، ونظرة أحدهما للآخر - على سبيل الفتنة وسوء القصد - يؤدى إلى مالا تحمد عقباه .

وقوله - تعالى - : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ } بيان لكيفية إخفاء بعض مواضع الزينة بعد النهى عن إبدائها .

والخُمُر - بضم الخاء والميم - جمع خمار . وهو ما تغطى به المرأة رأسها وعنقها وصدرها ، والجيوب جمع جيب ، وهو فتحة فى أعلى الثياب يبدو منها بعض صدر المرأة وعنقها .

والمراد به هنا : محله وهو أعلى الصدر ، وأصله : من الجَب بمعنى القطع .

أى : وعلى النساء المؤمنات أن يسترن رءوسهن وأعناقهن وصدورهن بخمرهن ، حتى لا يطلع أحد من الأجانب على شىء من ذلك .

قالوا : وكان النساء فى الجاهلية يسدلن خمرهن من خلف رءوسهن ، فتنكشف نحورهن وأعناقهن وقلائدهن ، فنهى الله - تعالى - المؤمنات عن ذلك .

ولقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث ، منها : ما رواه البخارى عن عائشة - رضى الله عنها - قالت : يرحم الله نساء المهاجرات الأول - لما أنزل الله - تعالى - : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ } أخذن أزرهن فشققنها فاختمرن بها .

وفى رواية أنها قالت : إن لنساء قريش لفضلا ، وإنى - والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا بكتاب الله ، ولا إيمانا بالتنزيل ، لما نزلت هذه الآية . انقلب إليهن رجالهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته ، وعلى كل ذى قرابة ، فما منهم امرأة إلا قامت إلى مرطها - وهو كساء من صوف - فاعتجرت به تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه ، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم فى صلاة الصبح معتجرات كأن رءوسهن الغربان .

والمقصود بزينتهن فى قوله - تعالى - : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ } الزينة الخفية وهى ما عدا الوجه والكفين ، كشعر الرأس والذراعين والساقين .

فقد نهى الله - تعالى - النساء المؤمنات عن إبداء مواضع الزينة الخفية لكل أحد ، إلا من استثناهم - سبحانه - بعد ذلك ، وهم اثنا عشر نوعا ، بدأهم بالبعول وهم الأزواج لأنهم هم المقصودون بالزينة ، ولأن كل بدن الزوجة حلال لزوجها .

أى : وعلى النساء المؤمنات أن يلتزمن الاحتشام فى مظهرهن ، ولا يبدين مواضع زينتهن الخفية إلا " لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أن بنى إخوانهن أو بنى أخواتهن " فهؤلاء الأصناف السبعة الذين ذكرهم الله - تعالى - بعد الأزواج ، كلهم من المحارم الذين لا يحل للمرأة الزواج بواحد منهم ، وقد جرت العادة باحتياج النساء إلى مخالطتهم ، كما جرت العادة بأن الفتنة مأمونة بالنسبة لهم ، فمن طبيعة النفوس الكريمة أنها تأنف من التطلع إلى المحارم بالنسبة لها . ويلحق بهؤلاء المحارم الأعمام والأخوال والمحارم من الرضاع . والأصول وإن علوا ، والفروع وإن سفلوا .

وقوله - تعالى - : { أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء } بيان لبقية الأفراد الذين يجوز للمرأة أن تبدى زينتها الخفية أمامهم .

أى : ويجوز للنساء المؤمنات أن يبدين زينتهن - أيضا - أمام نسائهم المختصات بهن الصحبة والخدمة ، وأمام ما ملكت إيمانهن من الإيماء لا من العبيد البالغين ، وأمام الرجال التابعين لهن طلبا للإحسان والانتفاع ، والذين فى الوقت نفسه قد تقدمت بهم السن ، ولا حاجة لهم فى النساء ، ولا يعرفون شيئا من أمورهن ، ولا تحدثهم أنفسهم بفاحشة ، ولا يصفونهن للأجانب .

فقوله - سبحانه - : { غَيْرِ أُوْلِي الإربة } أى : غير ذوى الحاجة من الرجال فى النساء يقال : أَرِب الرجل إلى الشىء يأرَبُ أرضبا - من باب تعب إذا احتاج إليه .

ويجوز لهن كذلك إظهار زينتهن أمام الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء ، أى : الذين لم يعرفوا ما العورة ، ولم يستطيعوا بعد التمييز بينها وبين غيرها ، ولم يبلغوا السن التى يشتهون فيها النساء .

يقال : ظهر على الشىء إذا اطلع عليه وعرفه ، ويقال : فلان ظهر على فلان إذا قوى عليه وغلبه .

فهؤلاء اثنا عشر نوعا من الناس ، ليس عليهم ولا على المرأة حرج ، فى أن يروا منها موضع الزينة الخفية ، كالرأس والذراعين ، والساقين ، لا نتفاء الفتنة التى من أجلها كان الستر والغطاء . فأما الزوج فله رؤية جميع جسدها .

ثم نهى - سبحانه - النساء عن ابداء حركات تعلن عن زينتهن المستورة ، بل عليهن أن يلتزمن من خلال خروجهن من بيوتهن الأدب والاحتشام والمشى الذى يصاحب الوقار والاتزان ، فقال - تعالى - : { وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } .

أى : ولا يصح للنساء المؤمنات أن يضربن بأرجلهن فى الأرض ، ليسمعن غيرهن من الرجال أصوات حليهن الداخلية ، بقصد التطلع إليهن ، والميل نحوهن بالمحادثة أو ما يشبهها .

فالمقصود من الجملة الكريمة نهى المرأة المسلمة ، عن استعمال أى حركة أو فعل من شأنه إثارة الشهوة والفتنة كالمشية المتكلفة ، والتعطر الملفت للنظر ، وما إلى ذلك من ألوان التصنع الذى من شأنه تهييج الغرائز الجنسية .

ثم ختم - سبحانه - تلك الآية الجامعة لأنواع من الأدب السامى ، بدعوة المؤمنين إلى التوبة الصادقة . فقال - تعالى - : { وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .

أى : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون والمؤمنات ، توبة صادقة نصوحا تجعلكم تخشونه - سبحانه - فى السر والعلن ، لكى تنالوا الفلاح والنجاح فى دنياكم وأخراكم .

قال القرطبى : " ليس فى القرآن الكريم آية أكثر ضمائر من هذه الآية . جمعت خمسة وعشرين ضميرا للمؤمنات ما بين مرفوع ومجرور . . . " .

هذا ، ومن الأحكام والآداب التى اشتملت عليها هاتان الآيتان ما يأتى :

1 - وجوب غض البصر وحفظ الفرج ، لأن الإسلام يهدف إلى مجتمع طاهر من الدنس ، نظيف من الخنا ، مجتمع لا تمنع فيه الشهوات الحلال وإنما تمنع منه الشهوات الحرام ، مجتمع لا تختلس فيه العيون النظرات السيئة ولا تتطلع فيه الأبصار إلى مالا يحل لها التطلع إليه ، فالله - تعالى - يقول : { إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } ويقول : { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور } وقد وردت أحاديث متعددة فى الأمر بغض البصر ، وحفظ الفرج ، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة ، العينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناهما الكلام ، واليد زناها البطش ، والرجل زناها الخطا ، والقلب يهوى ويتمنى ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه " .

وروى الإمام مسلم فى صحيحه عن جرير بن عبد الله قال : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة - أى البغتة من غير قصد - فقال : " اصرف بصرك " ؟ "

2 - أنه لا يحل للمرأة أن تبدى زينتها لأجانب ، إلا ما ظهر منها ، لأن الله - تعالى - يقول : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } .

قال الإمام القرطبى ما ملخصه : " أمر الله - تعالى - النساء بالا يبدين زينتهن للناظرين ، إلا ما استثناه من الناظرين فى باقى الآية ، حذارا من الافتتان ، ثم استثنى ما يظهر من الزينة ، واختلف الناس فى قدر ذلك .

فقال ابن مسعود : طاهر الزينة هو الثياب . . . وقال سعيد بن جبير والأوزاعى : الوجه والكفان والثياب . . . وقال ابن عباس وقتادة : ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب . . ونحو هذا ، فمباح أن تبديه لكل من ظهر عليها من الناس .

وقال ابن عطية : ويظهر لى بحكم ألفاظ الآية ، بأن المرأة مأمورة بأن لا تبدى ، وأن لا تجتهد فى الإخفاء لكل ما هو زينة ، ووقع الاستثناء فيما يظهر ، بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه ، أو إصلاح شأن ونحو ذلك ، " فما ظهر " على هذا الوجه مما تؤدى إليه الضرورة فى النساء فهو المعفو عنه .

قلت : أى القرطبى - : وهذا قول حسن ، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما ، عادة وعبادة ، صح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما .

يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة ، " أن أسماء بنت أبى بكر ، دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق ، فأعرض عنها وقال : " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا ، وأشار إلى وجهه وكفيه " " .

وقال بعض علمائنا : " إن المرأة إذا كانت جميلة وخيف من وجهها و كفيها الفتنة فعليها ستر ذلك " .

هذا ، وفى هذه المسألة كلام كثير للعلماء فارجع إليه إن شئت .

وإلى هنا ترى السورة الكريمة قد نهت عن الزنا ، ووضعت فى طريقه السدود الوقائية والنفسية . حيث حرمت الاختلاط ، وأمرت بالاستئذان ، وبغض البصر ، وبحفظ الفرج ، وبعدم التبرج ، وبالإكثار من التوبة إلى الله - تعالى - .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوۡ ءَابَآئِهِنَّ أَوۡ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآئِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ أَخَوَٰتِهِنَّ أَوۡ نِسَآئِهِنَّ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُنَّ أَوِ ٱلتَّـٰبِعِينَ غَيۡرِ أُوْلِي ٱلۡإِرۡبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفۡلِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يَظۡهَرُواْ عَلَىٰ عَوۡرَٰتِ ٱلنِّسَآءِۖ وَلَا يَضۡرِبۡنَ بِأَرۡجُلِهِنَّ لِيُعۡلَمَ مَا يُخۡفِينَ مِن زِينَتِهِنَّۚ وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (31)

27

30

( وقل للمؤمنات : يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ) . .

فلا يرسلن بنظراتهن الجائعة المتلصصة ، أو الهاتفة المثيرة ، تستثير كوامن الفتنة في صدور الرجال . ولا يبحن فروجهن إلا في حلال طيب ، يلبي داعي الفطرة في جو نظيف ، لا يخجل الأطفال الذين يجيئون عن طريقه عن مواجهة المجتمع والحياة !

( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) . .

والزينة حلال للمرأة ، تلبية لفطرتها . فكل أنثى مولعة بأن تكون جميلة ، وأن تبدو جميلة . والزينة تختلف من عصر إلى عصر ؛ ولكن أساسها في الفطرة واحد ، هو الرغبة في تحصيل الجمال أو استكماله ، وتجليته للرجال .

والإسلام لا يقاوم هذه الرغبة الفطرية ؛ ولكنه ينظمها ويضبطها ، ويجعلها تتبلور في الاتجاه بها إلى رجل واحد - هو شريك الحياة - يطلع منها على ما لا يطلع أحد سواه . ويشترك معه في الاطلاع على بعضها ، المحارم والمذكورون في الآية بعد ، ممن لا يثير شهواتهم ذلك الاطلاع .

فأما ما ظهر من الزينة في الوجه واليدين ، فيجوز كشفه . لأن كشف الوجه واليدين مباح لقوله [ صلى الله عليه وسلم ] لأسماء بنت أبي بكر : " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض ، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا - وأشار إلى وجهه وكفيه " .

( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) . .

والجيب فتحة الصدر في الثوب . والخمار غطاء الرأس والنحر والصدر . ليداري مفاتنهن ، فلا يعرضها للعيون الجائعة ؛ ولا حتى لنظرة الفجاءة ، التي يتقي المتقون أن يطيلوها أو يعاودوها ، ولكنها قد تترك كمينا في أطوائهم بعد وقوعها على تلك المفاتن لو تركت مكشوفة !

إن الله لا يريد أن يعرض القلوب للتجربة والابتلاء في هذا النوع من البلاء !

والمؤمنات اللواتي تلقين هذا النهي . وقلوبهن مشرقة بنور الله ، لم يتلكأن في الطاعة ، على الرغم من رغبتهن الفطرية في الظهور بالزينة والجمال . وقد كانت المرأة في الجاهلية - كما هي اليوم في الجاهلية الحديثة ! - تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء . وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها ، وأقرطة أذنيها . فلما أمر الله النساء أن يضربن بخمرهن على جيوبهن ، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ، كن كما قالت عائشة رضي الله عنها - : " يرحم الله نساء المهاجرات الأول . لما أنزل الله : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن )شققن مروطهن فاختمرن بها . . وعن صفية - بنت شيبة قالت : بينما نحن عند عائشة . قالت : فذكرن نساء قريش وفضلهن . فقالت عائشة - رضي الله عنها - إن لنساء قريش لفضلا . وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار ، وأشد تصديقا لكتاب الله ، ولا إيمانا بالتنزيل . لما نزلت في سورة النور : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن )انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ؛ ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته ، وعلى كل ذي قرابته . فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل ، فاعتجرت به تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه . فأصبحن وراء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان " .

لقد رفع الإسلام ذوق المجتمع الإسلامي ، وطهر إحساسه بالجمال ؛ فلم يعد الطابع الحيواني للجمال هو المستحب ، بل الطابع الإنساني المهذب . . وجمال الكشف الجسدي جمال حيواني يهفو إليه الإنسان بحس الحيوان ؛ مهما يكن من التناسق والاكتمال . فأما جمال الحشمة فهو الجمال النظيف ، الذي يرفع الذوق الجمالي ، ويجعله لائقا بالإنسان ، ويحيطه بالنظافة والطهارة في الحس والخيال .

وكذلك يصنع الإسلام اليوم في صفوف المؤمنات . على الرغم من هبوط الذوق العام ، وغلبة الطابع الحيواني عليه ؛ والجنوح به إلى التكشف والعري والتنزي كما تتنزى البهيمة ! فإذا هن يحجبن مفاتن أجسامهن طائعات ، في مجتمع يتكشف ويتبرج ، وتهتف الأنثى فيه للذكور حيثما كانت هتاف الحيوان للحيوان !

هذا التحشم وسيلة من الوسائل الوقائية للفرد والجماعة . . ومن ثم يبيح القرآن تركه عندما يأمن الفتنة . فيستثني المحارم الذين لا تتوجه ميولهم عادة ولا تثور شهواتهم وهم :

الآباء والأبناء ، وآباء الأزواج وأبناؤهم ، والإخوة وأبناء الإخوة ، وأبناء الأخوات . . كما يستثني النساء المؤمنات : ( أو نسائهن )فأما غير المسلمات فلا . لأنهن قد يصفن لأزواجهن وإخوتهن ، وأبناء ملتهن مفاتن نساء المسلمين وعوراتهن لو اطلعن عليها . وفي الصحيحين : " لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه يراها " . . أما المسلمات فهن أمينات ، يمنعهن دينهن أن يصفن لرجالهن جسم امرأة مسلمة وزينتها . . ويستثني كذلك ( ما ملكت أيمانهن )قيل من الإناث فقط ، وقيل : ومن الذكور كذلك . لأن الرقيق لا تمتد شهوته إلى سيدته . والأول أولى ، لأن الرقيق إنسان تهيج فيه شهوة الإنسان ، مهما يكن له من وضع خاص ؛ في فترة من الزمان . . ويستثني ( التابعين غير أولي الإربة من الرجال ) . . وهم الذين لا يشتهون النساء لسبب من الأسباب كالجب والعنة والبلاهة والجنون . . وسائر ما يمنع الرجل أن تشتهي نفسه المرأة . لأنه لا فتنة هنا ولا إغراء . . ويستثني ( الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ) . . وهم الأطفال الذين لا يثير جسم المرأة فيهم الشعور بالجنس . فإذا ميزوا ، وثار فيهم هذا الشعور - ولو كانوا دون البلوغ - فهم غير داخلين في هذا الاستثناء .

وهؤلاء كلهم - عدا الأزواج - ليس عليهم ولا على المرأة جناح أن يروا منها ، إلا ما تحت السرة إلى تحت الركبة . لانتفاء الفتنة التي من أجلها كان الستر والغطاء . فأما الزوج فله رؤية كل جسدها بلا استثناء .

ولما كانت الوقاية هي المقصودة بهذا الإجراء ، فقد مضت الآية تنهي المؤمنات عن الحركات التي تعلن عن الزينة المستورة ، وتهيج الشهوات الكامنة ، وتوقظ المشاعر النائمة . ولو لم يكشفن فعلا عن الزينة :

( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ) . .

وإنها لمعرفة عميقة بتركيب النفس البشرية وانفعالاتها واستجاباتها . فإن الخيال ليكون أحيانا أقوى في إثارة الشهوات من العيان . وكثيرون تثير شهواتهم رؤية حذاء المرأة أو ثوبها ، أو حليها ، أكثر مما تثيرها رؤية جسد المرأة ذاته . كما أن كثيرين يثيرهم طيف المرأة يخطر في خيالهم ، أكثر مما يثيرهم شخص المرأة بين أيديهم - وهي حالات معروفة عند علماء الأمراض النفسية اليوم - وسماع وسوسة الحلى أو شمام شذى العطر من بعيد ، قد يثير حواس رجال كثيرين ، ويهيج أعصابهم ، ويفتنهم فتنة جارفة لا يملكون لها ردا . والقرآن يأخذ الطريق على هذا كله . لأن منزله هو الذي خلق ، وهو الذي يعلم من خلق . وهو اللطيف الخبير .

وفي النهاية يرد القلوب كلها إلى الله ؛ ويفتح لها باب التوبة مما ألمت به قبل نزول هذا القرآن :

( وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) .

بذلك يثير الحساسية برقابة الله ، وعطفه ورعايته ، وعونه للبشر في ضعفهم أمام ذلك الميل الفطري العميق ، الذي لا يضبطه مثل الشعور بالله ، وبتقواه . .