معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ لَمَآ ءَاتَيۡتُكُم مِّن كِتَٰبٖ وَحِكۡمَةٖ ثُمَّ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مُّصَدِّقٞ لِّمَا مَعَكُمۡ لَتُؤۡمِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥۚ قَالَ ءَأَقۡرَرۡتُمۡ وَأَخَذۡتُمۡ عَلَىٰ ذَٰلِكُمۡ إِصۡرِيۖ قَالُوٓاْ أَقۡرَرۡنَاۚ قَالَ فَٱشۡهَدُواْ وَأَنَا۠ مَعَكُم مِّنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ} (81)

قوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة } . قرأ حمزة " لما " بكسر اللازم ، وقرأ الآخرون بفتحها ، فمن كسر اللام فهي لام الإضافة دخلت على ما الموصولة ، ومعناه الذي يريد للذي آتيتكم ، أي أخذ ميثاق النبيين لأجل الذي آتاهم من الكتاب والحكمة ، وأنهم أصحاب الشرائع ، ومن فتح اللام فمعناه للذي آتيتكم ، بمعنى الخبر ، وقيل : بمعنى الجزاء ، أي " لئن آتيتكم " ومهما آتيتكم . وجواب الجزاء قوله

" لتؤمنن به " .

قوله ( لما آتيتكم ) قرأ نافع وأهل المدينة " آتيناكم " على التعظيم ، كما قال ( وآتينا داود زبورا ) ( وآتيناه الحكم صبياً ) وقرأ الآخرون بالتاء لموافقة الخط ، ولقوله( وأنا معكم ) . واختلفوا في المعني بهذه الآية . فذهب قوم إلى أن الله تعالى أخذ الميثاق على النبيين خاصة أن يبلغوا كتاب الله ورسالاته إلى عباده ، وأن يصدق بعضهم بعضاً ، وأخذ العهود على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء ، وينصره إن أدركه ، فإن لم يدركه أن يأمر قومه بنصرته إن أدركوه . فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى ، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وقال الآخرون : بما أخذ الله الميثاق منهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، فعلى هذا اختلفوا فمنهم من قال : إنما أخذ الميثاق على أ هل الكتاب الذين أرسل منهم النبيين ، وهذا قول مجاهد والربيع ، ألا ترى إلى قوله ( ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ) ، وإنما كان محمد صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى أهل الكتاب دون النبيين يدل عليه : أن في قراءة عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب . وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ، وإنما القراءة المعروفة ( وإذ اخذ الله ميثاق النبيين ) فأراد أن الله أخذ ميثاق النبيين أن يأخذوا الميثاق إلى أممهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدقوه ، وينصروه ، إن أدركوه . وقال بعضهم : أراد اخذ الله الميثاق على النبيين وأممهم جميعاً في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، فاكتفى بذكر الأنبياء لأن العهد على المتبوع عهد على الأتباع ، وهذا معنى قول ابن عباس ، وقال علي بن أبي طالب : لم يبعث الله نبياً ، آدم ومن بعده ، إلا أخذ عليه الميثاق والعهد في أمر محمد ، وأخذ العهد على قومه ليؤمنن به ، ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه .

قوله تعالى : { ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم .

قوله تعالى : { لتؤمنن به ولتنصرنه قال } يقول الله تعالى للأنبياء حين استخرج الذرية من صلب آدم عليه السلام والأنبياء فيهم كالمصابيح والسرج ، وأخذ عليهم الميثاق في أمر محمد صلى الله عليه وسلم .

قوله تعالى : { أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري } أي قبلتم على ذلكم عهدي ؟ والإصر : العهد الثقيل .

قوله تعالى : { قالوا أقررنا قال } الله تعالى .

قوله تعالى : { فاشهدوا } أي فاشهدوا أنتم على أنفسكم وعلى أتباعكم .

قوله تعالى : { وأنا معكم من الشاهدين } عليكم وعليهم ، وقال ابن عباس : ( فاشهدوا ) أي فاعلموا ، وقال سعيد بن المسيب قال الله تعالى للملائكة فاشهدوا عليهم ، كناية عن غير مذكور .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ لَمَآ ءَاتَيۡتُكُم مِّن كِتَٰبٖ وَحِكۡمَةٖ ثُمَّ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مُّصَدِّقٞ لِّمَا مَعَكُمۡ لَتُؤۡمِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥۚ قَالَ ءَأَقۡرَرۡتُمۡ وَأَخَذۡتُمۡ عَلَىٰ ذَٰلِكُمۡ إِصۡرِيۖ قَالُوٓاْ أَقۡرَرۡنَاۚ قَالَ فَٱشۡهَدُواْ وَأَنَا۠ مَعَكُم مِّنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ} (81)

وبعد أن نزه - سبحانه - الأنبياء عن أن يقولوا قولا أو يأمروا بأمر لم يأذن به الله ، أتبع ذلك ببيان الميثاق الذى أخذه الله - تعالى - عليهم ، فقال - سبحانه - : { وَإِذْ أَخَذَ . . . . } .

قوله - تعالى - { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين } الظرف " إذ " منصوب بفعل مقدر تقديره اذكر ، والخطاب فيه للنبى صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح للخطاب .

والميثاق : هو العقد المؤكد بيمين .

اى : اذكر يا محمد أو أيها المخاطب وقت أن أخذ الله الميثاق من النبيين .

وللمفسرين فى تفسير هذه الآية الكريمة أقوال أشهرها قولان :

أولهما : وهو رأى جمهور العلماء - أن المراد أن الله - تعالى - أخذ الميثاق من النبيين .

وثانيهما : وهو رأى بعض العلماء - أن المراد أن الأنبياء هم الذين أخذوا الميثاق من غيرهم .

والمعنى على رأى فريق من أصحاب القول الول-منهم الحسن والسدى وسعيد بن جبير- :

أن الله - تعالى - أخذ الميثاق من النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً ، وأخذ العهد على كل نبى أن يؤمن بمن يأتى بعده من الأنبياء وينصره إن أدركه ؛ فإن لم يدركه يأمر قومه بنصرته إن أدركوه . فأخذ - سبحانه - الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى ، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد - صلوات الله وسلامه عليهم جميعا - وإذا كان حكم الأنبياء ، كانت الأمم بذلك أولى وأحرى .

والمعنى على رأى فريق من أصحاب هذا القول منهم على وابن عباس وقتادة : أن الله - تعالى - أخذ الميثاق من النبيين أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا أدركوه ، وأن يأمروا أقوامهم بالإيمان به .

قالوا : يؤيد هذا ما أخرجه ابن جرير عن على بن أبى طالب قال : لم يبعث الله بنياً : آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم لئن بعث وهو حى ليؤمنن به ولينصرنه ، ويأمره فيأخذ العهد على قومه . ثم تلا الآية " .

فكأن اصحاب هذا القول الأول متفقون فيما بينهم عن أن الميثاق إنما أخذه الله من النبيين إلا أن بعضهم يرى أن هذا الميثاق أخذه الله منهم لكى يصدق بعضهم بعضا والبعض الآخر يرى أن هذا الميثاق أخذه الله منهم فى شأن محمد صلى الله عليه وسلم خاصة .

قال ابن كثير ما ملخصه . وما قاله الحسن ومن معه لا يضاد ما قاله على وابن عباس ولا ينفيه ، بل يستلزمه ويقتضيه . . . . وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن ثابت قال : " جاء عمر إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله : إنى مررت بأخ لى من بنى قريظة ، فكتب لى جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك ؟ قال : فتغير وجه النبى صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن ثابت : فقلت له : ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر : رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا . قال : فسري عن النبى صلى الله عليه وسلم وقال : " والذى نفسى بيده لو أصبح فيكم موسى - عليه السلام - ثم اتبعتموه وتركتمونى لضللتم ، إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين " " .

وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا . وإنكم إما أن تصدقوا بباطل وإما أن تكذبوا بحق ، وإنه والله لو كان موسى حيًّا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعنى " وفى بعض الأحاديث : " لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي " .

فالرسول محمد صلى الله عليه وسلم " هو الإمام الأعظم الذى لو وجد فى أى عصر وجد - كان هو الواجب الطاعة المقدم على الأنبياء كلهم " .

هذا هو معنى الجملة الكريمة عند أصحاب الرأى الأول الذين يرون أن الله - تعالى - أخذ الميثاق من النبيين . وأصحاب هذا الرأى كما سبق أن بيناهم جمهور العلماء .

أما أصحاب الرأى الثانى الذين يرون أن المراد من الآية أن الأنبياء هم الذين أخذوا الميثاق من غيرهم ، فالمعنى عليه .

واذكر يا محمد أو أيها المخاطب وقت أن أخذ الأنبياء العهد على أقوامهم بأنه إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم وأدركوه فعليهم أن يؤمنوا به ويصدقوه وينصروه فكأن معنى الآية : واذكر وقت أن أخذ الله الميثاق الذى وثق الأنبياء على أقوامهم .

هذا ، وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذين الرأيين وغيرهما فقال :

" ميثاق النبيين " فيه غير وجه :

أحدهما : أن يكون على ظاهره من أخذ الميثاق على النبيين بذلك .

والثانى : أن يضيف الميثاق إلى النبيين إلى الموثق لا إلى الموثق عليه ، كما تقول : ميثاق الله وعهد الله كأنه قيل : وإذ أخذ الله الميثاق الذى وثقه النبيون على أممهم .

والثالث : أن يراد ميثاق أولاد النبيين وهم بنو إسرائيل على حذف المضاف .

والرابع : أن يراد أهل الكتاب وأن يرد زعمهم تهكما بهم ؛ لأنهم كانوا يقولون : نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب ، ومنا كان النبيون " .

والذى تسكن إليه النفس فى معنى الآية . هو الرأى الأول الذى قال به جمهور العلماء ، وذلك لأن الآيات الكريمة مسوقة - كما يقول الفخر الرازى لتعديد تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب ، مما يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قطعاً لعذرهم ، وإظهاراص لعنادهم ، ومن جملة هذه الأشياء ما ذكره - سبحانه - فى هذه الآية . وهو أنه - تعالى - أخذ الميثاق من الأنبياء بأنهم كلما جاءهم رسول مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه ، وأخبر أنهم قبلوا ذلك ، وحكم - سبحانه - بأنه من رجع عن ذلك كان من الفاسقين .

فحاصل الكلام أنه - تعالى - أوجب على جميع الأنبياء الإيمان بكل رسول جاء مصدقا لما معهم ، ولا شك أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد جاء مصدقا لما معهم فوجب على الجميع أن يؤمنوا به " .

ولأن هذا المعنى هو الظاهر من الآية الكريمة . ولا تحتاج إلى تقدير مضاف أو غيره ، والأخذ بالمعنى الظاهر الذى لا يحتاج إلى تقدير أولى من الأخذ بغيره .

ولأن أخذ العهد على الأنبياء بأن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم أعلى وأشرف لقدره صلى الله عليه وسلم من أخذه على أممهم وأقوامهم .

ولأن أخذ العهد على الأنبياء أخذ له على الأمم ، إذ كل أمة يجب أن تصدق بما جاءها به نبيها .

واللام فى قوله - تعالى - { لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } قرأها الجمهور بالفتح . وقرأها حمزة بالكسر .

أما قراءة الفتح فلها وجهان :

أولهما : أن تجعل " ما " اسم موصول مبتدأ ، وما بعده صلة له ، وخبر قوله { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ } .

والتقدير : واذكر وقت أن أخذ الله ميثاق النبيين قائلا لهم : الذى آتيتكم إياه من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما أوتيتموه لتؤمنن بهذا الرسول ولتنصرنه . وعلى هذا الوجه تكون اللام فى قوله " لما " للابتداء وحسن دخولها هنا لأن قوله { لَمَآ آتَيْتُكُم } فى مقام المقسم عليه ، وقوله { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين } فى مقام القسم ، إذ هو بمنزلة الاستحلاف تقول : أخذت ميثاقك لتفعلن كذا فكأنك قلت : استحلفتك لتفعلن كذا . .

وثانيهما : أن تجعل " ما " ههنا ، اسم شرط جازم في موضع نصب بآتيتكم .

والتقدير : ما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم ، لتؤمنن به ولتنصرنه .

وعلى هذا الوجه يكون فعل الشرط مكونا من جملتين :

الأولى : { آتَيْتُكُم } .

والثانية : { ثُمَّ جَآءَكُمْ } وهما معا فى محل جزم بما الشرطية . وقوله { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ } جواب القسم الذى تضمنه قوله : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين } وجواب الشرط محذوف ، لأن القاعدة النحوية أنه إذا اجتمع شرط . وقسم فالجواب المذكور للسابق منهما وجواب اللاحق محذوف وهنا السابق هو القسم . قال ابن مالك :

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم . . . جواب ما أخرت فهو ملتزم

وأما على قراءة الكسر التى قرأها حمزة فتكون اللام للتعليل كأنه قيل : اذكر وقت أن أخذ الله ميثاق النبيين ، لأن إيتاءهم الكتاب والحكمة ، ثم مجىء من يصدقهم يوجب عليهم الإيمان بهذا الرسول المصدق لما معهم ويوجب عليهم نصرته .

والمراد بالكتاب : ما أنزله الله - تعالى - على هؤلاء النبيين من كتب تنطق بالحق .

والمراد بالحكمة : الوحى الوارد بالتكاليف المفصلة التى لم يشتمل عليها الكتاب .

أو المراد بها العلم النافع الذى أعطاه - سبحانه - لهم ، ووفقهم للعمل به .

و { مِّن } فى قوله { مِّن كِتَابٍ } للبيان .

قال القرطبى : والمراد بالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم واللفظ وإن كان نكرة فالإشارة إلى معين ، كقوله - تعالى - { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً } إلى قوله - تعالى - { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ } فأخذ الله ميثاق النبيين أجمعين أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وينصروه إن أدركوه ، وأمرهم أن يأخذوا بذلك الميثاق على أممهم " .

ثم حكى - سبحانه - ما قاله لهم بعد أن أمرهم بالإيمان بهذا الرسول وبنصرته فقال : { قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي } ؟ .

والإصر : العهد . وأصله من الإصار - أى الحبال التى يعقد بها الشىء ويشد - وسمى العهد إصرا لأنه تقوى به الأقوال والعقود .

أى - قال الله - تعالى - لنبيين : أأقررتم بهذا الذى أمرتكم به وقبلتم عهدى ؟ والاستفهام للتقرير والتوكيد عليهم لاستحالة معناه الحقيقي فى حقه - سبحانه - .

ثم حكى - سبحانه - ما أجاب به الرسل وما ورد به عليهم فقال : { قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين } .

أى : قال الرسل مجيبين لخالقهم - عز وجل - أقررنا يا ربنا وقبلنا عهدك وأطعناه .

فرد عليهم - سبحانه - بقوله : { فاشهدوا } أى فليشهد بعضكم على بعض بهذا الإقرار ، وأنا على إقراركم وإشهاد بعضكم على بعض من الشاهدين .

وهذا توكيد عليهم ، وتحذير من الرجوع .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ لَمَآ ءَاتَيۡتُكُم مِّن كِتَٰبٖ وَحِكۡمَةٖ ثُمَّ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مُّصَدِّقٞ لِّمَا مَعَكُمۡ لَتُؤۡمِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥۚ قَالَ ءَأَقۡرَرۡتُمۡ وَأَخَذۡتُمۡ عَلَىٰ ذَٰلِكُمۡ إِصۡرِيۖ قَالُوٓاْ أَقۡرَرۡنَاۚ قَالَ فَٱشۡهَدُواْ وَأَنَا۠ مَعَكُم مِّنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ} (81)

65

بعد ذلك يصور حقيقة الترابط بين موكب الرسل والرسالات ، على عهد من الله وميثاق ، ينبني عليه فسوق من يتولى عن اتباع آخر الرسالات ، وشذوذه عن عهد الله وناموس الكون كله على الإطلاق :

( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين : لما آتيتكم من كتاب وحكمة ، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه . قال : أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ؟ قالوا : أقررنا . قال : فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين . فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون . أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ، وإليه يرجعون ؟ ) . .

لقد أخذ الله - سبحانه - موثقا رهيبا جليلا كان هو شاهده وأشهد عليه رسله . موثقا على كل رسول . أنه مهما آتاه من كتاب وحكمة ، ثم جاء رسول بعده مصدقا لما معه ، أن يؤمن به وينصره ، ويتبع دينه . وجعل هذا عهدا بينه وبين كل رسول .

والتعبير القرآني يطوي الأزمنة المتتابعة بين الرسل ؛ ويجمعهم كلهم في مشهد . والله الجليل الكبير يخاطبهم جملة : هل أقروا هذا الميثاق وأخذوا عليه عهد الله الثقيل :

( قال : أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ؟ ) . .

وهم يجيبون :

( قالوا أقررنا ) . .

فيشهد الجليل على هذا الميثاق ويشهدهم عليه :

( قال : فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) :

هذا المشهد الهائل الجليل ، يرسمه التعبير ، فيجف له القلب ويجب ؛ وهو يتمثل المشهد بحضرة البارىء الجليل ، والرسل مجتمعين . .

وفي ظل هذا المشهد يبدو الموكب الكريم متصلا متساندا مستسلما للتوجيه العلوي ، ممثلا للحقيقة الواحدة التي شاء الله - سبحانه - أن تقوم عليها الحياة البشرية ، ولا تنحرف ، ولا تتعدد ، ولا تتعارض ، ولا تتصادم . . إنما ينتدب لها المختار من عباد الله ؛ ثم يسلمها إلى المختار بعده ، ويسلم نفسه معها لأخيه اللاحق به . فما للنبي في نفسه من شيء ؛ وما له في هذه المهمة من أرب شخصي ، ولا مجد ذاتي . إنما هو عبد مصطفىومبلغ مختار . والله - سبحانه - هو الذي ينقل خطى هذه الدعوة بين أجيال البشر ؛ ويقود هذا الموكب ويصرفه كيف يشاء .

ويخلص دين الله - بهذا العهد وبهذا التصور - من العصبية الذاتية . عصبية الرسول لشخصه . وعصبيته لقومه . وعصبية أتباعه لنحلتهم . وعصبيتهم لأنفسهم . وعصبيتهم لقوميتهم . . ويخلص الأمر كله لله في هذا الدين الواحد ، الذي تتابع به وتوإلى ذلك الموكب السني الكريم .