قوله تعالى : { والذين صبروا } ، على طاعة الله ، وقال ابن عباس : على أمر الله عز وجل . وقال عطاء : على المصائب والنوائب ، وقيل : عن الشهوات . وقيل : عن المعاصى . { ابتغاء وجه ربهم } ، طلب تعظيمه أن يخالفوه . { وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانيةً } ، يعني يؤدون الزكاة . { ويدرؤون بالحسنة السيئة } ، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : يدفعون بالصالح من العمل السيء من العمل ، وهو معنى قوله : { إن الحسنات يذهبن السيئات } [ هود-114 ] . وجاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها ، السر بالسر والعلانية بالعلانية " .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنبأنا محمد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن ابن لهيعة ، حدثني يزيد بن أبي حبيب ، حدثنا أبو الخير ، أنه سمع عقبة بن عامر رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته ، ثم عمل حسنة ، فانفكت عنه حلقة ، ثم عمل أخرى فانفكت أخرى ، حتى يخرج إلى الأرض " . وقال ابن كيسان : معنى الآية : يدفعون الذنب بالتوبة . وقيل : لا يكافئون الشر بالشر ، ولكن يدفعون الشر بالخير . وقال القتبي : معناه : إذا سفه عليهم حلموا ، فالسفه : السيئة ، والحلم : الحسنة . وقال قتادة : ردوا عليهم معروفا ، نظيره قوله تعالى : { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } [ الفرقان-63 ] . وقال الحسن : إذا حرموا أعطوا وإذا ظلموا عفوا وإذا قطعوا وصلوا . قال عبد الله بن المبارك : هذه ثمان خلال مشيرة إلى ثمانية أبواب الجنة . { أولئك لهم عقبى الدار } " ، يعني الجنة ، أي : عاقبتهم دار الثواب .
ثم أضاف - سبحانه - إلى الصفات السابقة لأولى الألباب صفات أخرى حميدة فقال : { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ } أى : أن من صفاتهم أنهم صبروا على طاعة الله ، وصبروا عن معصيته ، وصبروا على المصائب وآلامها ، صبرا غايته رضا ربهم وخالقهم ، لا رضا أحد سواء .
أى : أن صبرهم في كل مجال يحمد فيه الصبر لم يكن من أجل الرياء أو المباهاة أو المجاملة أو غير ذلك ، وإنما كان صبرهم من أجل رضا الله - تعالى - وطلب ثوابه .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ } فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ومشاق التكليف { ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ } لا ليقال ما أصبره وأحمله للنوازل ، وأوقره عند الزلازل ، ولا لئلا يعاب بالجزع ، ولئلا يشمت به الاعداء ، كقوله :
وتجلدى للشامتين أريهم *** أنى لريب الدهر لا أتزعزع
ولا لأنه لا طائل تحت الهلع ، ولا مرد فيه للفائت .
وكل عمل له وجوه يعمل عليها ، فعلى المؤمن أن ينوى منها ما به كان حسنا عند الله - تعالى - وإلا لم يستحق به ثوابا ؛ وكان فعلا كلا فعل .
{ وَأَقَامُواْ الصلاة } أى : أدوها في أوقاتها كاملة الأركان والسنن والأذكار ، بخشوع وإخلاص . { وَأَنْفَقُواْ } بسخاء وطيب نفس { مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } أى : مما أعطيناهم من عطائنا الواسع العميم . { سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } أى : ينفقون مما رزقناهم سرا . حيث يحسن السر ، كإعطاء من لم يتعود الأخذ من غيره ، وينفقون { علانية } حيث تحسن العلانية ، كأن ينفقوا بسخاء في مجال التنافس في الخير ، ليقتدى بهم غيرهم { وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة } والدرء : الدفع والطرد . يقال : درأه درءاً ، إذا دفعه .
أى : أن من صفات أولى الألباب - أيضا - أنهم يدفعون بالعمل الصالح العمل السئ ، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - " وأتبع السيئة الحسنة تمحها " أو أنهم يدعفون سيئة من أساء إليهم بالإِحسان إليه ، أو بالعفو عنه ، متى كان هذا الإِحسان أو العفو لا يؤدى إلى مفسدة .
قال صاحب الظلال ما ملخصه : " وفى الآية إشارة خفية إلى مقابلة السيئة بالحسنة ، عندما يكون في هذا درء السيئة ودفعها لا إطماعها واستعلاؤها ، فأما حين تحتاج السيئة إلى القمع ، ويحتاج الشر إلى الدفع ، فلا مكان لمقابلتهما بالحسنة ، لئلا ينتفش الشر ويتجرأ ويستعلى .
ودرء السيئة بالحسنة يكون غالبا في المعاملة الشخصية بين المتماثلين فأما في دين الله فلا .
إن المستعمر الغاشم لا يجدى معه إلى الدفع الصارم ، والمفسدون في الأرض لا يجدى معهم إلا الأخذ الحاسم ، والتوجيهات القرآنية متروكة لتدبر المواقف ، واستشارة الألباب ، والتصرف بما يرجح أنه الخير والصواب . "
وجملة { أولئك لَهُمْ عقبى الدار } بيان الجزاء الحسن ، الذي أعده الله - تعالى - لهؤلاء الأخيار .
والعقبى : مصدر كالعاقبة ، وهى الشئ الذي يقع عقب شئ آخر .
والمراد بالدار : الدنيا . وعقباها الجنة . وقيل المراد بالدار : الدار الآخرة . وعقباها الجنة للطائعين ، والنار للعاصين .
أى : أولئك الموصوفون بتلك الصفات الكريمة ، لهم العاقبة الحسنة وهى الجنة . والجملة الكريمة خبر عن { الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله . . . } وما عطف عليها .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَأَنْفَقُواْ مِمّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السّيّئَةَ أُوْلََئِكَ لَهُمْ عُقْبَىَ الدّارِ } .
يقول تعالى ذكره : وَالّذِينَ صَبَرُوا على الوفاء بعهد الله وترك نقض الميثاق وصلة الرحم ، ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبّهِمْ ويعني بقوله : ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبّهِمْ طلب تعظيم الله ، وتنزيها له أن يخالف في أمره أو يأتي أمرا كره إتيانه فيعصيَه به . وأقامُوا الصّلاةَ يقول : وأدّوا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها . وأنْفقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرّا وَعَلانِيَةً يقول : وأدّوا من أموالهم زكاتها المفروضة ، وأنفقوا منها في السبل التي أمرهم الله بالنفقة فيها ، سرّا في خفاء وعلانية في الظاهر .
كما : حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وأقامُوا الصّلاةَ يعني الصلوات الخمس ، وأنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَةً يقول الزكاة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد الصبر : الإقامة ، قال : وقال الصبر في هاتين ، فصبر لله على ما أحبّ وإن ثقل على الأنفس والأبدان ، وصبر عما يكره وإن نازعت إليه الأهواء ، فمن كان هكذا فهو من الصابرين . وقرأ : سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنعْمَ عُقْبَى الدّارِ .
وقوله : وَيَدْرَءُونَ بالحَسَنَةِ السّيّئَةَ يقول : ويدفعون إساءة من أساء إليهم من الناس ، بالإحسان إليهم . كما : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَيَدْرَءُونَ بالحَسَنَة السّيّئَةَ قال : يدفعون الشرّ بالخير ، لا يكافئون الشرّ بالشرّ ولكن يدفعونه بالخير .
وقوله : أُولَئِكَ لَهُم عُقْبَى الدّارِ يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين وصفنا صفتهم هم الذين لهم عُقبى الدار ، يقول : هم الذين أعقبهم الله دار الجنان من دارهم التي لو لم يكونوا مؤمنين كانت لهم في النار ، فأعقبهم الله من تلك هذه . وقد قيل : معنى ذلك : أولئك الذين لهم عَقِيب طاعتهم ربهم في الدنيا دار الجنان . )
«الصبر لوجه الله » يدخل في الرزايا والأسقام والعبادات وعن الشهوات ونحو ذلك .
و { ابتغاء } نصب على المصدر أو على المفعول لأجله ، و «الوجه » في هذه الآية ظاهره الجهة التي تقصد عنده تعالى بالحسنات لتقع عليها المثوبة ، وهذا كما تقول : خرج الجيش لوجه كذا ، وهذا أظهر ما فيه مع احتمال غيره و «إقامة الصلاة » هي الإتيان بها على كمالها ، و { الصلاة } هنا هي المفروضة وقوله : { وأنفقوا } يريد به مواساة المحتاج ، و «السر » هو فيما أنفق تطوعاً ، و «العلانية » فيما أنفق من الزكاة المفروضة ، لأن التطوع كله الأفضل فيه التكتم .
وقوله : { ويدرؤون بالحسنة السيئة } أي ويدفعون من رأوا منه مكروهاً بالتي هي أحسن ، وقيل : يدفعون بقوله : لا إله إلا الله ، شركهم وقيل : يدفعون بالسلام غوائل الناس .
قال القاضي أبو محمد : وبالجملة فإنهم لا يكافئون الشر بالشر ، وهذا بخلاف خلق الجاهلية ، وروي أن هذه الآية نزلت في الأنصار ثم هي عامة بعد ذلك في كل من اتصف بهذه الصفات .