قوله تعالى : { قال } الله تعالى
قوله تعالى : { فإنها محرمة عليهم } ، قيل : هاهنا تم الكلام معناه : تلك البلدة محرمة عليهم أبداً ، لم يرد به تحريم تعبد ، وإنما أراد تحريم منع ، فأوحى الله تعالى إلى موسى : لأحرمن عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبدي يوشع وكالب ، ولأتيهنهم في هذه البرية .
قوله تعالى : { أربعين سنة } يتيهون مكان كل يوم من الأيام التي تجسسوا فيها سنة ، ولألقين جيفهم في هذه القفار ، وأما بنوهم الذين لم يعلموا الشر فيدخلونها ، فذلك قوله تعالى : { فإنها محرمة عليهم أربعين سنة } .
قوله تعالى : { يتيهون في الأرض } . يتحيرون .
قوله تعالى : { فلا تأس على القوم الفاسقين } ، أي لا تحزن على مثل هؤلاء القوم ، فلبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ ، وهم ستمائة ألف مقاتل ، وكانوا يسيرون كل يوم جادين ، فإذا أمسوا كانوا في الموضع الذي ارتحلوا عنه . وقيل : إن موسى وهارون عليهما السلام لم يكونا فيهم ، والأصح أنهما كانا فيهم ، ولم يكن لهما عقوبة ، إنما كانت العقوبة لأولئك القوم ، ومات في التيه كل من دخلها ممن جاوز عشرين سنة غير يوشع وكالب ، ولم يدخل أريحاء أحد ممن قالوا { إنا لن ندخلها أبداً } فلما هلكوا وانقضت الأربعون سنة ، ونشأت النواشئ من ذراريهم ، ساروا إلى حرب الجبارين . واختلفوا فيمن تولى تلك الحرب ، وعلى يدي من كان الفتح ، فقال قوم : إنما فتح موسى أريحاء ، وكان يوشع على مقدمته ، فسار موسى عليه السلام إليهم فيمن بقي من بني إسرائيل ، فدخلها يوشع ، فقاتل الجبابرة ، ثم دخلها موسى عليه السلام ، فأقام فيها ما شاء الله تعالى ، ثم قبضه الله تعالى إليه ، ولا يعلم قبره أحد ، هذا أصح الأقاويل لاتفاق العلماء أن عوج بن عنق قتله موسى عليه السلام . وقال الآخرون : إنما قاتل الجبارين يوشع ، ولم يسر إليهم إلا بعد موت موسى عليه السلام ، وقالوا : مات موسى وهارون جميعاً في التيه .
قال السدي : أوحى الله عز وجل إلى موسى أني متوفي هارون فأت به جبل كذا وكذا ، فانطلق موسى وهارون عليهما السلام نحو ذلك الجبل ، فإذا هما بشجرة لم ير مثلها ، وإذا ببيت مبني وفيه سرير عليه فرش ، وإذا فيه ريح طيبة ، فلما نظر هارون إلى ذلك أعجبه ، فقال : يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير قال : فنم عليه ، فقال : إني أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب علي ، قال له موسى : لا ترهب ، إني أكفيك أمر رب هذا البيت فنم ، قال : يا موسى نم أنت معي ، فإن جاء رب البيت غضب علي وعليك جميعاً ، فلما ناما أخذ هارون الموت ، فلما وجد مسه قال : يا موسى خدعتني ، فلما قبض رفع البيت ، وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير به إلى السماء ، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل وليس معه هارون قالوا : إن موسى قتل هارون ، وحسده لحب بني إسرائيل له ، فقال موسى عليه السلام : ويحكم ! كان أخي ، فكيف أقتله ! فلما أكثروا عليه قام ، فصلى ركعتين ، ثم دعا الله تعالى ، ونزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : صعد موسى وهارون عليهما السلام الجبل فمات هارون ، فقالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام : أنت قتلته ، فآذوه ، فأمر الله الملائكة فحملوه ، حتى مروا به على بني إسرائيل ، وتكلمت الملائكة بموته ، حتى عرف بنو إسرائيل أنه قد مات ، فبرأه الله تعالى مما قالوا ، ثم إن الملائكة حملوه ، ودفنوه ، فلم يطلع على موضع قبره أحد إلا الرخم ، فجعله الله أصم وأبكم . وقال عمرو بن ميمون : مات هارون قبل موسى عليه السلام في التيه ، وكانا قد خرجا إلى بعض الكهوف ، فمات هارون ، ودفنه موسى ، وانصرف إلى بني إسرائيل ، فقالوا : قتله لحبنا إياه ، وكان محبباً في بني إسرائيل ، فتضرع موسى عليه السلام إلى ربه عز وجل ، فأوحى الله إليه : أن انطلق بهم إلى قبره فإني باعثه ، فانطلق بهم إلى قبره ، فناداه موسى ، فخرج من قبره ينفض رأسه ، فقال : أنا قتلتك ؟ قال : لا ، ولكني مت . قال : فعد إلى مضجعك ، وانصرفوا .
وأما وفاة موسى عليه السلام ، قال ابن إسحاق : كان موسى عليه الصلاة والسلام قد كره الموت وأعظمه ، فأراد الله أن يحبب إليه الموت ، فنبأ يوشع بن نون ، فكان يغدو ويروح عليه ، قال : فيقول له موسى عليه السلام : يا نبي الله ، ما أحدث الله إليك ؟ فيقول له يوشع : يا نبي الله ، ألم أصحبك كذا وكذا سنة ؟ فهل كنت أسألك شيئاً مما أحدث الله إليك حتى تكون أنت الذي تبتدئ به وتذكره ؟ ولا يذكر له شيئاً ، فلما رأى ذلك موسى كره الحياة ، وأحب الموت .
أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي ، أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن همام بن منبه ، قال : أخبرنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جاء ملك الموت إلى موسى بن عمران ، فقال له : أجب ربك ، قال : فلطم موسى عليه السلام عين ملك الموت ففقأها ، قال : فرجع ملك الموت إلى الله تعالى فقال : إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عيني ، قال : فرد الله إليه عينه ، وقال : ارجع إلى عبدي فقل له : الحياة تريد ؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور ، فما وارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة ، قال : ثم مه ؟ قال : ثم تموت . قال : فالآن من قريب ، رب أدنني من الأرض المقدسة رمية بحجر . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر " .
وقال وهب : خرج موسى لبعض حاجته ، فمر برهط من الملائكة يحفرون قبراً لم ير شيئاً قط أحسن منه ، ولا مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة ، فقال لهم : يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر ؟ قالوا : لعبد كريم على ربه ، فقال : إن هذا العبد لمن الله له بمنزلة ، ما رأيت كاليوم مضجعاً ، فقالت الملائكة : يا صفي الله ، تحب أن يكون لك ؟ قال : وددت ، قالوا : فانزل واضطجع فيه وتوجه إلى ربك ، قال فاضطجع فيه ، وتوجه إلى ربه ثم تنفس أسهل تنفس ، فقبض الله تبارك وتعالى روحه ، ثم سوت عليه الملائكة . وقيل : إن ملك الموت أتاه بتفاحة من الجنة فشمها ، فقبض روحه . وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة ، فلما مات موسى عليه السلام وانقضت الأربعون سنة بعث الله يوشع نبياً ، فأخبرهم أن الله قد أمره بقتال الجبابرة ، فصدقوه وتابعوه ، فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحاء ومعه تابوت الميثاق ، فأحاط بمدينة أريحاء ستة أشهر ، فلما كان السابع نفخوا في القرون ، وضج الشعب ضجة واحدة ، فسقط سور المدينة ودخلوا ، فقاتلوا الجبارين وهزموهم ، وهجموا عليهم يقتلونهم ، وكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها حتى يقطعوها ، فكان القتال يوم الجمعة فبقيت منهم بقية ، وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت ، فقال : اللهم اردد الشمس عليّ وقال للشمس : إنك في طاعة الله سبحانه وتعالى وأنا في طاعته ، فسأل الشمس أن تقف والقمر أن يقيم ، حتى ينتقم من أعداء الله تعالى قبل دخول السبت ، فردت عليه الشمس وزيدت في النهار ساعة حتى قتلهم أجمعين ، وتتبع ملوك الشام ، فاستباح منهم أحداً وثلاثين ملكاً حتى غلب على جميع أرض الشام ، وصارت الشام كلها لبني إسرائيل وفرق عماله في نواحيها ، وجمع الغنائم ، فلم تنزل النار ، فأوحى الله إلى يوشع أن فيها غلولاً فمرهم فليبايعوك ، فبايعوه ، فالتصقت يد رجل منهم بيده فقال : هلم ما عندك ؟ فأتاه برأس ثور من ذهب مكلل باليواقيت والجواهر كان قد غله ، فجعله في القربان ، وجعل الرجل معه ، فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان ، ثم مات يوشع ودفن في جبل إفراثيم ، وكان عمره مائة وستاً وعشرين سنة ، وتدبيره أمر بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام سبعاً وعشرين سنة .
وهذا الرجاء من موسى لربه في معنى الدعاء عليهم بسبب جبنهم وعصيانهم وقد أجاب الله - تعالى - دعاءه فيهم ، بأن أضلهم ظاهرا كما ضلوا باطنا وجاء الحكم الفاصل ممن يملكه فقال - تعالى - : { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين } .
وقوله : { يَتِيهُونَ } من التيه وهو الحيرة . يقال : تاه يتيه ويتوه إذا تحير وضل الطريق . ووقع فلان في التيه أي : في مواضع الحيرة .
وقوله : { فَلاَ تَأْسَ } أي : فلا تحزن عليهم من الأسى وهو الحزن . يقال : أسى - كتعب - أي : حزن . فهو أسين مثل حزين . وأسا على مصيبته - من باب عدا - أي : حزن قال امرؤ القيس :
وقوفا بها صحبي على مطيهم . . . يقولون لا تهلك أسى وتجمل
أي : يقولون لا تهلك نفسك حزنا وتجمل بالصبر .
والمعنى : قال الله - تعالى - لنبيه موسى مجيبا لدعائه : يا موسى إن الأرض المقدسة محرمة على هؤلاء الجبناء العصاة مدة أربعين سنة ، يسيرون خلالها في الصحراء تائيهن حياري لا يستقيم لهم أمر ، ولا يستقر لهم قرار ، فلا تحزن عليهم بسبب هذه العقوبة ؛ فإننا ما عاقبناهم بهذه العقوبة إلا بسبب خورجهم عن طاعتنا ، وتمردهم على أوامرنا ، وجبنهم عن قتال أعدائنا ، وسوء أدبهم مع أنبيائنا .
قال الآلوسي : قوله : { مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } أي : لا يدخلونها ولا يملكونها . والتحريم تحريم منع لا تحريم تعبد ، وجوز أن يكون تحريم العبد والأول أظهر وقوله { أَرْبَعِينَ سَنَةً } متعلق بقوله : محرمة فيكون التحريم مؤقتا لا مؤبداً ، فلا يكون مخالفا لظاهر قوله - تعالى - { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } والمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها أحد منهم هذه المدة ، لكن لا بمعنى أن كلهم يدخلونها بعدها ، بل بعضهم ممن بقي - يجوز له دخولها - فقد روى أن موسى سار بمن بقي من بني إسرائيل - بعد انقضاء هذه المدة - إلى الأرض المقدسة .
وقوله : { يَتِيهُونَ فِي الأرض } استئناف لبيان كيفية حرمانهم . وقيل حال من ضمير { عَلَيْهِمْ } وقيل : الظرف متعلق بقوله : { يَتِيهُونَ } فيكون التيه مؤقتا والتحريم مطلقا يحتمل التأبيد وعدمه .
وقال الفخري الرازي : اختلف الناس في أن موسى وهارون - عليهما السلام - هل بقيا في التيه أو لا ؟ فقال قوم : إنهما ما كانا في التيه ؛ لأن موسى دعا الله أن يفرق بينه وبين القوم الفاسقين ، ودعوات الأنبياء مجابة ، لأن التيه كان عذاباً والأنبياء لا يُعذبون .
وقال آخرون : إنهما كانا مع القوم في ذلك التيه ، إلا أن الله - تعالى - سهل عليهما ذلك العذاب كما سهل النار على إبراهيم فجعلها بردا وسلاما . وإنهما قد ماتا في التيه وبقي يوشع بن نون - وكان ابن أخت موسى ووصيه بعد موته - وهو الذي فتح الأرض المقدسة - بعد انقضاء مدة التيه .
وقيل بل بقي موسى بعد ذلك وخرج من التيه وحارب الجبارين وقهرهم وأخذ الأرض المقدسة .
هذا ونرى من المناسب في هذا المقام أن نتعرض بشيء من التفصيل للمسائل الآتية :
أولا : الرد على اليهود في دعواهم أن الأرض المقدسة - فلسطين - ملك لهم مستندين إلى قوله - تعالى - : { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } .
ثانيا : الحكمة في كون عقابهم أربعين سنة يتيهون في الأرض .
ثالثاً : ما يؤخذ من هذه الآيات من العبر والعظات .
وللإِجابة على المسألة الأولى نقول : للمفسرين أقوال في المراد من الكتابة في قوله - تعالى - { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } أشهرها قولان :
أولهما : أن معنى { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } : أمركم بدخولها ، وفرضه عليكم كما أمركم بالصلاة والزكاة فالكتب هنا مثله في قوله - تعالى - { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } أي : فرض عليكم وهذا قول قتادة والسدى .
والثاني : أن معنى { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } قدرها لكم وقضى أن تكون مساكن لكم دون الجبارين . وهذا القضاء مشروط بالإِيمان ، وطاعة الأنبياء ، والجهاد في سبيل نصرة الحق ، فإذا لم يكونوا كذلك - وهم لم يكونوا كذلك فعلا - لم يتحقق لهم التمكين في الأرض المقدسة ، ولذا بعد أن أغراهم نبيهم موسى - عليه السلام - بدخولها ، حذرهم من الجبن والعصيان فقال لهم : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } .
قال الآلوسي : " وترتيب الخيبة والخسران على الارتداد يدل على اشتراط الكتب بالمجاهدة المترتبة على الإيمان .
وقال ابن عباس : كانت هبة من الله لهم ثم حرمها - سبحانه - عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم .
وقال الفخر الرازي : إن الوعد بقوله { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } مشروط بقيد الطاعة فلما لم يوجد الشرط لا جرم لم يوجد المشروط .
والخلاصة أن الكتابة في قوله - تعالى - { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } : إما أن تكون تكليفية على معنى : أن الله - تعالى - كتب عليكم وفرض أن تدخلوها مجاهدين مطيعين لنبيكم فإذا خالفتم ذلك حقت عليكم العقوبة .
وإما أن تكون كتابة قدرية . أي : قضى وقدر - سبحانه - أن تكون لكم متى آمنتم وأطعتم . وبنو إسرائيل ما آمنوا وما أطاعوا ، بل كفروا وعصوا فحرمها - سبحانه - عليهم .
وبذلك ترى أن دعوى اليهود بأن الأرض المقدسة ملك لهم ، بدليل قوله - تعالى - { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } لا أساس لها من الصحة ولا يشهد لها عقل أو نقل .
وللإِجابة على المسألة الثانية نقول : اقتضت حكمة الله - تعالى - أن يجعل عقوبته لقوم مناسبة لما اجترحوا من ذنوب وآثام وبنو إسرائيل لطول ما ألفوا من ذل واستعباد ، هانت عليهم نعمة الحرية . وضعف عندهم الشعور بالعزة . وأصبحت حياة الذلة مع العقود . أحب إليهم من حياة العزة مع الجهاد ولهذا عندما أمرهم نبيهم موسى - عليه السلام - بدخول الأرض المقدسة اعتذروا بشتى المعاذير الواهية وأكدوا له عدم اقترابهم منها ما دام الجبارون فيها :
وقالوا : { إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } .
فاقتضت حكمة الله - تعالى - أن يحرمهم منها جزاء جبنهم وعصيانهم وأن يعاقبهم بما يشبه القعود ، بأن يحكم عليهم بالتيهان في بقعة محدودة من الأرض ، يذهبون فيها ويجيئون وهم حيارى لا يعرفون لهم مقرا وأن يستمروا على تلك الحالة أربعين سنة حتى ينشأ من بينهم جيل آخر سوى ذلك الجيل الذي استمرأ الذل والهوان .
قال ابن خلدون في مقدمته . . ويظهر من مساق قوله - تعالى - { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض } ومن مفهومه : أن حكمة ذلك التيه مقصودة ، وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر ، وأفسدوا من عصبيتهم ، حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف القهر ولا يسام بالمذلة .
فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر .
هذا ولصاحب المنار كلام حسن في كمة هذه العقوبة ، نرى من المناسب إثباته هنا ، فقد قال - رحمه الله - في ختام تفسيره لهذه الآيات :
" إن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد ، والإِحساس بالظلم والاضطهاد ، تفسد أخلاقها ، وتذل نفوسها . وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة ، حتى تكون كالغرائز الفطرية . والطبائع الخلقية ، وإذا أخرجت صاحبها من بيئتها ، ورفعت عن رقبته نيرها ، ألفيته ينزع بطبعه إليها ويتفلت منك ليقتحم فيها ، وهذا شأن البشر في كل ما يألفونه ، ويجرون عليه من خير وشر ، وإيمان وكفر .
أفسد ظلم فرعون فطرة بني إسرائيل في مصر ، وطبع عليها بطابع المهانة والذل . وقد أراهم الله - تعالى - من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته وصدق رسوله موسى - عليه السلام - وبين لهم أنه أخرجهم من مصر لينقذهم من الذل إلى الحرية . ولكنهم كانوا مع هذا كله إذا أصابهم ضرر يتطيرون بموسى ، ويذكرون مصر ويحنون إليها .
وكان الله - تعالى - يعلم أنهم لا تطاوعهم أنفسهم المهينة على دخول أرض الجبارين ، وأن وعده - تعالى - لأجدادهم إنما يتم على وفق سنته في طبيعة الاجتماع البشرى ، إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ في الوثنية والعبودية . ونشأ بعده جيل جديد في حرية البداوة ، وعدل الشريعة ، ونور الآيات الإِلهية ، وما كان الله ليهلك قوما بذنوبهم ، حتى يبين لهم حجته عليهم ، ليعلموا أنه لم يظلمهم إنما يظلمون أنفسهم .
وعلى هذه السنة العادلة أمر الله - تعالى - بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة ، فأبوا واستكبروا . فأخذهم الله بذنوبهم وأنشأ من بعدهم قوماً آخرين .
فعلينا أن نعتبر بهذه الأمثال التي ضربها الله لنا ، وأن نعلم أن إصلاح الأمم من بعد فسادها بالظلم والاستبداد إنما يكون بإنشاء جيل جديد جمع بين حرية البداوة واستقلالها وعزتها ، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل بها .
وللإِجابة على المسألة الثالثة - وهي ما يؤخذ من هذه الآيات من عظات وعبر - نقول : إن هذه الآيات الكريمة قد اشتملت على لون حكيم في أسلوب الدعوة إلى الله - تعالى - فقد بدأت بتذكير بني إسرائيل بأمجادهم وبعظم نعم الله عليهم ، لتغرس فيهم الشعور بالعزة ؛ ولتغريهم بالاستجابة لما أمر به - سبحانه - .
كما اشتملت على تحذيرهم من مغبة الجبن والمخالفة لأن ذلك يؤدي إلى الخسران .
وفوق ذلك فقد صورت تصويرا معجزا طبيعة بني إسرائيل على حقيقتها وكشفت عن خور عزيمتهم ، وسقوط همتهم وسوء اختيارهم لأنفسهم . . بما جعلهم أهلا العقوبات الرادعة وفي كل ذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما لحقه من اليهود المعاصرين له من أذى ، وتحذير لهم من السير على طريق آبائهم المعوجة ، حتى لا يعرضوا أنفسهم للعقوبات التي حلت بأسلافهم .
قال الإِمام ابن جرير : عند تفسيره للآيات الكريمة : وهذا - أيضاً - من الله - تعالى تعريف - لنبيه صلى الله عليه وسلم يتمادى هؤلاء اليهود في الغي ، وبعدهم عن الحق ، وسوء اختيارهم لأنفسهم ، وشدة خلافهم لأنبيائهم وبطء إثابتهم إلى الرشاد ، مع كثرة نعم الله عندهم ، وتتابع آياته وآلائه عليهم ، مسليا بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم عما ينزل به من مجادلاتهم في ذات الله ، يقول الله - له : لا تأس على ما أصابك منهم ، فإن الذهاب عن الله ، والبعد عن الحق ، وما فيه من الحظ لهم في الدنيا والآخرة ، من عاداتهم وعادات أسلافهم ، وأوائلهم ، وتعزّ بما لاقى منهم أخوك موسى - عليه السلام - .
وقال الإِمام ابن كثير : وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود ، وبيان فضائحهم ، ومخالفتهم لله ولرسوله ، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمرهم به من الجهاد ، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ومقاتلتهم ، مع أن بين أظهرهم كليم الله وصفيه من خلقه في ذلك الزمان . وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم . هذا مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوهم فرعون من الغرق له ولجنوده في اليم وهم ينظرون . لتقر به أعينهم - وما بالعهد من قدم - ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازن عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم . وظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ، ولا يسترها الذيل .
وقال - رحمه الله - قبل ذلك : وما أحسن ما أجاب به الصحابة - رضي الله عنهم - يوم بدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استشارهم في قتال قريش . فقد قالوا فأحسنوا .
لقد قال المقداد : يا رسول الله ، إنا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى ؛ { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن نقول لك : " إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون " .
كذلك يؤخذ من هذه القصة أن معصية الله ورسله تؤدي إلى الخسران ، فإن بني إسرائيل لما جبنوا عن دخول الأرض المقدسة ، وعصوا أمر نبيهم ، عاقبهم الله بالتيه مدة أربعين سنة ، صارت قصتهم عبرة للمعتبرين ، وموعظة للمتقين .