السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيۡهِمۡۛ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗۛ يَتِيهُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

{ قال } تعالى : { فإنها } أي : الأرض المقدّسة { محرّمة عليهم } أن يدخلوها وقوله تعالى : { أربعين سنة يتيهون } أي : يتحيرون { في الأرض } اختلف في العامل في أربعين فقيل : محرمة فيكون التحريم مؤقتاً غير مؤبد فلا يخالف ظاهر قوله تعالى : { التي كتب الله لكم } ( المائدة ، 21 ) وقيل : هو يتيهون أي : يسيرون فيها متحيرين ، قال الزجاج : والأوّل خطأ لأنه جاء في التفسير أنها محرمة عليهم أبداً فنصبها بيتيهون أي : فيكون التحريم مطلقاً قال البغويّ : لم يرد به تحريم تعبد وإنما أراد تحريم منع وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه الصلاة والسلام : بي حلفت لأحرّمنّ عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبدي يوشع وكالب ولأتيهنهم في هذه البريّة أربعين سنة مكان كل يوم من الأيام التي تجسسوا فيها سنة ، ولألقين جيفهم في هذه القفار وأما بنوهم الذين لم يعملوا الشر فيدخلونها فلبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ ، وقيل : تسعة فراسخ قال ابن عباس : وهم ستمائة ألف مقاتل وكانوا يسيرون كلّ يوم جادّين فإذا أمسوا كانوا في الموضع الذي ارتحلوا عنه وكان الغمام يظلّهم من الشمس وعمود نور يطلع بالليل فيضيء لهم وكان طعامهم المنّ والسلوى وماؤهم من الحجر الذي يحملون فإذا ولد لأحدهم مولود كان عليه ثوب مثل الظفر في رأي العين يطول بطوله ويتسع بقدرة الله والله أعلم بما يحكى من ذلك .

فإن قيل : كيف ينزل المنّ والسلوى في حال العقوبة ؟ أجيب : بأنه سبب البقاء وهو أبقى للعقوبة فهو كإقامة الحدود مع بقاء الخطاب ، واختلفوا هل كان موسى وهارون عليهما السلام فيهم أو لا ؟ قال البغويّ : الأصحّ أنهما كانا فيهم إلا أنه كان ذلك راحة لهما وزيادة في درجتهما وعقوبة لهم ، وهو أبلغ في الإجابة أن يشاهدوهما في حال العقوبة فلا يصيبهما ما أصابهم ولم يدخل الأرض المقدّسة أحد ممن قال لن ندخلها بل هلكوا في التيه ، وإنما قاتل الجبابرة أولادهم واختلفوا هل مات موسى وهارون في التيه أم لا ؟ قال البيضاويّ : الأكثرون إنهما كانا معهم في التيه وإنهما ماتا فيه ، مات هارون قبل موسى وموسى بعده بسنة ، قال عمرو بن ميمون : مات هارون قبل موسى وكانا خرجا إلى بعض الكهوف فمات هارون فدفنه موسى وانصرف إلى بني إسرائيل فقالوا : قتله لحبّنا إياه وكان محببّاً في بني إسرائيل فتضرّع موسى إلى ربه فأوحى الله تعالى إليه أن انطلق بهم إلى هارون فإني باعثه فانطلق بهم إلى قبره فناداه يا هارون فخرج من قبره ينفض رأسه فقال : أنا قتلتك ؟ قال : لا ولكن مت قال : فعد إلى مضجعك وانصرفوا وعاش موسى صلى الله عليه وسلم بعده سنة .

روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( جاء ملك الموت إلى موسى فقال له : أجب أمر ربك فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها فقال ملك الموت : يا رب إنك أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت وقد فقأ عيني قال : فردّ الله عينه وقال : ارجع إلى عبدي وقل له : الحياة تريد ؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة قال : ثم مه قال : ثم تموت قال : الآن من قريب ؟ قال : رب أدنني من الأرض المقدّسة رمية حجر ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر ) قال وهب : خرج موسى ليقضي حاجة فمرّ برهط من الملائكة يحفرون قبراً لم ير شيئاً أحسن منه ولا مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة فقال لهم : يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر فقالوا : لعبد كريم على ربه فقال : إنّ هذا العبد لمن الله بمنزلة ما رأيت كاليوم أحسن منه مضجعاً فقالت الملائكة : يا صفيّ الله تحب أن يكون لك ؟ قال : وددت قالوا : فانزل فاضطجع فيه وتوجه إلى ربك قال : فاضطجع فيه وتوجه إلى ربه ثم تنفس أسهل نفس فقبض الله تعالى روحه ثم سوّت عليه الملائكة التراب وقيل : إنّ ملك الموت أتاه بتفاحة من الجنة فشمها فقبض الله روحه وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة ، فلما مات موسى عليه السلام وانقضت الأربعون سنة بعث الله تعالى يوشع عليه السلام نبياً فأخبرهم أنّ الله تعالى قد أمرهم بقتال الجبابرة فصدّقوه وبايعوه فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحاء ومعه تابوت الميثاق وأحاط بمدينة أريحاء ستة أشهر وفتحوها في الشهر السابع ودخلوها فقاتلوا الجبارين وهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم وكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها وكان القتال يوم الجمعة فبقيت منهم بقية وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت فقال : اللهمّ اردد الشمس عليّ وقال للشمس : إنك في طاعة الله وأنا في طاعة الله فسأل الشمس أن تقف والقمر أن يقيم حتى ينتقم من أعداء الله قبل دخول السبت فردّت عليه الشمس وزيد في النهار ساعة حتى قتلهم أجمعين .

وروى الإمام أحمد في مسنده حديثاً : ( إنّ الشمس لم تحبس على بشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس ) ثم تتبّع ملوك الشأم فاستباح منهم أحداً وثلاثين ملكاً حتى غلب على جميع أرض الشأم وصارت الشأم كلها لبني إسرائيل وفرق عمّاله في نواحيها وجمع الغنائم فلم تنزل النار فأوحى الله تعالى إلى يوشع إنّ فيها غلولاً فمرهم فليبايعوك فبايعوه فالتصقت يد رجل منهم بيده فقال : هلمّ ما عندك فأتاه برأس ثور من ذهب مكلل باليواقيت والجواهر ، وكان قد غلّه فجعله في القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان ثم مات يوشع ودفن في جبل إبراهيم وكان عمره مائة وستاً وعشرين سنة وتدبر أمر بني إسرائيل بعد موسى سبعاً وعشرين سنة فسبحان الباقي بعد فناء خلقه .

ولما ندم موسى عليه السلام على الدعاء عليهم قال تعالى : { فلا تأس على القوم الفاسقين } فبين تعالى أنهم أحقاء بذلك لفسقهم .