الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيۡهِمۡۛ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗۛ يَتِيهُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

أخرج ابن جرير عن قتادة في قوله { فإنها محرمة عليهم } قال : أبداً . وفي قوله { يتيهون في الأرض } قال : أربعين سنة .

وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال : ذكر لنا أنهم بعثوا اثني عشر رجلاً ، من كل سبط رجلاً عيوناً ليأتوهم بأمر القوم ، فأما عشرة فجبنوا قومهم وكرهوا إليهم الدخول ، وأما يوشع بن نون وصاحبه فأمرا بالدخول واستقاما على أمر الله ورغبا قومهم في ذلك ، وأخبراهم في ذلك أنهم غالبون حتى بلغ { ههنا قاعدون } . قال : لما جبن القوم عن عدوّهم وتركوا أمر ربهم قال الله { فإنها محرمة عليهم أربعين سنة } إنما يشربون ماء الاطواء ، لا يهبطون قرية ولا مصراً ، ولا يهتدون لها ولا يقدرون على ذلك .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال : حرمت عليهم القرى ، فكانوا لا يهبطون قرية ولا يقدرون على ذلك ، إنما يتبعون الاطواء أربعين سنة ، والاطواء الركايا ، وذكر لنا أن موسى توفي في الأربعين سنة ، وأنه لم يدخل بيت المقدس منهم إلا أبناؤهم والرجلان اللذان قالا .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : تاهوا أربعين سنة ، فهلك موسى وهرون في التيه ، وكل من جاوز الأربعين سنة ، فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم يوشع بن نون ، وهو الذي قام بالأمر بعد موسى ، وهو الذي قيل له اليوم يوم الجمعة فهموا بافتتاحها ، فدنت الشمس للغروب ، فخشي إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا ، فنادى الشمس : إني مأمور وإنك مأمورة . فوقفت حتى افتتحها ، فوجد فيها من الأموال ما لم ير مثله قط ، فقربوه إلى النار فلم تأتِ فقال : فيكم الغلول ، فدعا رؤوس الاسباط وهم اثنا عشر رجلاً فبايعهم ، فالتصقت يد رجل منهم بيده فقال : الغلول عندك ، فأخرجه فأخرج رأس بقرة من ذهب ، لها عينان من ياقوت ، وأسنان من لؤلؤ ، فوضعا مع القربان ، فأتت النار فأكلتها .

وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : تاهت بنو إسرائيل أربعين سنة ، يصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا في تيههم .

وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة عن وهب بن منبه قال : إن بني إسرائيل لما حرم الله عليهم أن يدخلوا الأرض المقدسة أربعين سنة يتيهون في الأرض ، شكوا إلى موسى فقالوا : ما نأكل ؟ فقال : إن الله سيأتيكم بما تأكلون . قالوا : من أين ؟ قال : إن الله سينزل عليكم خبزاً مخبوزاً . فكان ينزل عليهم المنّ وهو خبز الرقاق ومثل الذرة . قالوا : وما نَأْتَدِمُ ، وهل بُدِّلْنَا من لحم ؟ قال : فإن الله يأتيكم به . قالوا : من أين ؟ فكانت الريح تأتيهم بالسلوى ، وهو طير سمين مثل الحمام . فقالوا : فما نلبس ؟ قال : لا يخلق لأحدكم ثوب أربعين سنة . قالوا : فما نحتذي ؟ قال : لا ينقطع لأحدكم شسع أربعين سنة . قالوا : فإنه يولد فينا أولاد صغار فما نكسوهم ؟ قال : الثوب الصغير يشب معه . قالوا : فمن أين لنا الماء ؟ قال : يأتيكم به الله . فأمر الله موسى أن يضرب بعصاه الحجر قالوا : فما نبصر تغشانا الظلمة ، فضرب له عموداً من نور في وسط عسكره أضاء عسكره كله . قالوا : فبم نستظل ؟ الشمس علينا شديدة ، قال : يظلكم الله تعالى بالغمام .

وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس قال : ظلل عليهم الغمام في التيه قدر خمسة فراسخ أو ستة ، كلما أصبحوا ساروا غادين ، فإذا أمسوا إذا هم في مكانهم الذي ارتحلوا منه ، فكانوا كذلك أربعين سنة ، وهم في ذلك ينزل عليهم المن والسلوى ولا تبلى ثيابهم ، ومعهم حجر من حجارة الطور يحملونه معهم ، فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً .

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : خلق لهم في التيه ثياب لا تخلق ولا تذوب .

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن طاوس قال : كانت بنو إسرائيل إذا كانوا في تيههم تشب معهم ثيابهم إذا شبوا .

وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال : لما استسقى موسى لقومه أوحى الله إليه : أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، فقال لهم موسى : ردوا معشر الحمير . فأوحى الله إليه : قلت لعبادي معشر الحمير ، وإني قد حرمت عليكم الأرض المقدسة ؟ . قال : يا رب فاجعل قبري منها قذفة حجر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لو رأيتم قبر موسى لرأيتموه من الأرض المقدسة قذفة بحجر » .

وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال : لما استسقى لقومه فسقوا قال : اشربوا يا حمير . فنهاه عن ذلك ، وقال : لا تدعُ عبادي يا حمير .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله { فلا تأس } قال : لا تحزن .

وأخرج الطستي في مسائله عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله عز وجل { فلا تَأْسَ } قال : لا تحزن . قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم ، أما سمعت امرؤ القيس وهو يقول :

وقوفاً بها صحبي عليّ مطيهم *** يقولون لا تهلك أسى وتجمَّل

وأخرج عبد الرزاق في المصنف والحاكم وصححه عن أبي هريرة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن نبياً من الأنبياء قاتل أهل مدينة ، حتى إذا كاد أن يفتحها خشي أن تغرب الشمس فقال : أيتها الشمس إنك مأمورة وأنا مأمور ، بحرمتي عليك إلا وقفت ساعة من النهار . قال : فحبسها الله تعالى حتى افتتح المدينة ، وكانوا إذا أصابوا الغنائم قربوها في القربان فجاءت النار فأكلتها ، فلما أصابوا وضعوا القربان فلم تجئ النار تأكله . فقالوا : يا نبي الله ، ما لنا لا يقبل قرباننا ؟ ! قال : فيكم غلول . قالوا : وكيف لنا أن نعلم من عنده الغلول ؟ قال : وهم اثنا عشر سبطاً قال : يبايعني رأس كل سبط منكم ، فبايعه رأس كل سبط ، فلزقت كفه بكف رجل منهم فقالوا له : عندك الغلول . فقال : كيف لي أن أعلم ؟ قال تدعو سبطك فتبايعهم رجلاً رجلاً ، ففعل ، فلزقت كفه بكف رجل منهم قال : عندك الغلول . قال : نعم ، عندي الغلول . قال : وما هو ؟ قال : رأس ثور من ذهب أعجبني فغللته ، فجاء به فوضعه في الغنائم ، فجاءت النار فأكلته ، فقال كعب : صدق الله ورسوله هكذا ، والله في كتاب الله يعني في التوراة ، ثم قال : يا أبا هريرة ، أحدثكم النبي صلى الله عليه وسلم أي نبي كان ؟ قال : هو يوشع بن نون . قال : فحدثكم أي قرية ؟ قال : هي مدينة أريحاء ، وفي رواية عبد الرزاق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم تحل الغنيمة لأحد قبلنا ، وذلك أن الله رأى ضعفنا فطيبها لنا ، وزعموا أن الشمس لم تحبس لأحد قبله ولا بعده .