الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيۡهِمۡۛ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗۛ يَتِيهُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

{ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ }

يتحيرون في الأرض فلبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيروا في كل يوم جادّين حتّى إذا أمسوا وباتوا فإذا هم في الموضع الذي ارتحلوا عليه ، وكانوا ستمائة الف مقاتل ومئات من النقباء العشرة الذين أفشوا الخبر بغتة فكل من دخل التيه ممن جاوز عشرين سنة مات في التيه غير يوشع وكالب ، ولم يدخل أريحا أحد ممن قالوا { إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً } فلمّا هلكوا وانقضت أربعون سنة ونشأت النواشي من ذرياتهم ساروا إلى حرب الجبارين .

واختلف العلماء في من تولي ذلك الحرب وعلى يد من كان الفتح ، فقال القوم : إنمّا فتح أريحا موسى ( عليه السلام ) وكان يوشع على مقدمته فسار موسى إليهم بمن بقي من بني إسرائيل فدخل بهم يوشع وقاتل الجبابرة التي كانوا بها ثم دخلها موسى ( عليه السلام ) بني إسرائيل فأقام فيها ما شاء اللّه أن يقيم فيه ثم قبضه اللّه إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلائق ، وهذا أصح الأقاويل ، لإجماع العلماء أن عوج ابن عناق قتله موسى ، واللّه أعلم .

وقال الآخرون : إنّما قاتل الجبّارين يوشع ولم يسر إليهم إلاّ بعد موت موسى ، وهلاك جميع من أبى المسير إليها فقالوا : مات موسى وهارون في التيه .

قصة وفاة هارون ( عليه السلام )

قال السدّي : أوحى اللّه عز وجل إلى موسى : أني متوفي هارون ، فأت به جبل كذا وكذا فانطلق موسى وهارون نحو الجبل ، فإذا هما بشجر لم ير شجر مثلها وإذا بيت مبني فيه سرير عليه فرش وإذا فيه ريح طيبة فلمّا نظر هارون إلى ذلك بجنبه أعجبه وقال : يا موسى إنّي أحب أن أنام على هذا السرير ، قال : فنم عليه ، فقال : إنّي أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب عليّ ، قال له موسى : لا ، أنا أكفيك رب هذا البيت فنم ، قال : يا موسى بل نم معي فإن جاء رب البيت غضب عليّ وعليك جميعاً ، فلما ناما أخذ هارون الموت فلما وجد حتفه قال : يا موسى خذ عيني فلما قبض رفع ذلك البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير إلى السماء ، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل وليس معه هارون ، قالوا : إنّ موسى قتل هارون وحسده حبّ بني إسرائيل له ، فقال موسى : ويحكم فإنّ أخي أُمر ولن أقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا اللّه فنزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه .

وقال عمرو بن ميمون : كان وفاة موسى وهارون في التيه ، ومات هارون قبل موسى . فكانا خرجا في التيه إلى بعض الكهوف ، فمات هارون ودفنه موسى ، وانصرف إلى بني إسرائيل ، فقالوا : ما فعل هارون ؟ قال : مات ، قالوا : كذبت ولكنك قتلته لمحبّتنا إياه ، وكان محبباً في بني إسرائيل .

فتضرع موسى إلى ربّه وشكى ما لقي من بني إسرائيل فأوحى اللّه عز وجل إليه أن انطلق بهم إلى قبر هارون حتى تخبرهم أنه مات موتاً ولم تقتله ، وانطلق بهم إلى قبر هارون فنادى : يا هارون فخرج من قبره ينفض من رأسه فقال : أنا قتلتك ؟ قال : لا واللّه ولكنّي متّ قال : فعد إلى مضجعك ، وانصرفوا .

وأما وفاة موسى ( عليه السلام )

فقال ابن إسحاق : كان صفي اللّه موسى قد كره الموت وأعظمة فلما كرهه أراد اللّه أن يحبِّب إليه الموت ويكرِّه إليه الحياة فالتقى يوشع بن نون وكان يغدو ويروح عليه فيقول له موسى : يا نبي الله ما أحدث اللّه ؟ فيقول له يوشع : يا نبي اللّه ألم أصحبك كذا وكذا سنة وهل كنت أسألك عن شيء مما أحدث اللّه إليك حتّى تكون أنت الذي تهتدي به وتذكره ولا تذكر له شيئاً ؟ فلما رأى ذلك موسى كره الحياة وأحبّ الموت ، ثم اختلفوا في صفة موته .

فروى همام بن منبه عن أبي هريرة عن محمد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : " جاء ملك الموت إلى موسى ( عليه السلام ) فقال له : أجب ربك ، قال فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها فرجع ملك الموت إلى اللّه تعالى فقال : إنّك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت ، وقد فقأ عيني ، قال : فرّد اللّه عينه وقال : إرجع إلى عبدي ، فقل له : الحياة تريد فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعره فإنك تعيش بعدد كل شعرة من ذلك سنة قال : ثم ماذا ، قال : ثم تموت ، قال : فألان من قريب قال : ياربّ أدنني من الأرض المقدسة قدر رمية حجر " ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " واللّه لو إني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطور الطريق عند الكثيب الأحمر " .

قال الثعلبي : سمعت أبا سعيد بن حمدون قال : سمعت أبا حامد المقري قال : سمعت محمد ابن يحيى يقول : قد صحّ هذا من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم معنى قصة ملك الموت وموسى لا يردّها إلاّ ضال . وفي حديث آخر : أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : " إنّ ملك الموت كان يأتي النّاس عياناً حتّى أتى موسى ليقبضه فلطمه ففقأ عينه فرجع ملك الموت ، فجاء بعد ذلك خفية " .

وقال السّدي : في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : " كان موسى ( عليه السلام ) يمشي وفتاه يوشع إذ أقبلت ريح سوداء فلما نظر إليها يوشع ظن أنها الساعة فالتزم موسى . فقال : تقوم الساعة وأنا ملتزم لموسى نبي الله فأستلّ موسى من تحت القميص وترك القميص في يدي يوشع ، فلما جاء يوشع بالقميص أخذته بنو إسرائيل . وقالوا : أقتلت نبي اللّه ؟ قال : لا واللّه ما قتلته ولكن استلّ منّي ، فلم يصدّقوه وأرادوا قتله ، قال : فإذا لم تصدقوني فأخّروني ثلاثة أيام فدعا اللّه عز وجل فأتى كل رجل ممّن كان يحرسه في المنام فأخبر أن يوشع لم يقتل وإنا قد رفعناه إلينا فتركوه " .

وقال وهب : خرج موسى ( عليه السلام ) لبعض حاجته فمرّ برهط من الملائكة يحفرون قبراً فعرفهم فأقبل إليهم حتى وقف عليهم فإذا هم يحفرون قبراً لم ير شبيهاً قط أحسن منه ولم ير مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة ، فقال لهم : يا ملائكة اللّه لمن تحفرون هذا القبر ؟ قالوا : نحفره واللّه لعبد كريم على ربّه ، قال : إنّ لهذا العبد من اللّه لمنزلة فإني ما رأيت كاليوم مضجعاً ، فقالت الملائكة : يا صفي اللّه أتحب أن يكون لك ؟ قال : وددت ، قالوا : فانزل فاضطجع فيه وتوجّه إلى ربك ثم تنفس أسهل تنفس تنفّسته قط ، فنزل فاضطجع فيه وتوجّه إلى ربه ثم تنفس فقبض اللّه روحه ثم سوّت عليه الملائكة .

وقيل : إن ملك الموت أتاه فقال له : يا موسى أشربت الخمر ؟ قال : لا ، فاستكرهه فقبض روحه . وقيل : بل أتاه بتفاحة من الجنّة فشمها فقبض روحه .

ويروى أن يوشع بن نون رآه بعد موته في المنام فقال : كيف وجدت الموت . قال كشاة تُسلخ وهي حيّة ، وكان عمر موسى ( عليه السلام ) مائة وعشرون سنة ، عشرين سنة منها في ملك إفريدون ومائة في ملك منوهر فلما انقضت الأربعون سنة مات .

ولما مات موسى بعث اللّه تعالى إليهم يوشع نبياً فأخبرهم إنه نبي اللّه وأن اللّه أمرهم بقتال الجبّارين فصدقوه وبايعوه فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحا ومعه تابوت الميثاق فأحاط بمدينة أريحا ستة أشهر فلما كان في السابع نفخ في القرون وضجّ الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة فدخلوا وقاتلوا الجبّارين وهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم وكانت الغلبة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها حتى يقطعونها وكان القتال يوم الجمعة فبقيت منهم بقية وكادت الشمس تغرب ودخل ليلة السبت فخشي أن يعجزوا فقال : اللهم أردد الشمس عليّ فقال للشمس : إنّك في طاعة اللّه فسأل الشمس أن تقف والقمر أن يقم حتى ينتقم من أدعائه دخول السبت فردت عليه الشمس وزيد له في النهار ساعة حتى قطعهم أجمعين ثمّ أرسل ملوك الأرمانيين بعضهم إلى بعض فكانوا خمسة فجمعوا كلمتهم على يوشع وقومه وهزمت بنو إسرائيل الملوك حتى أهبطوهم إلى هبطة خوران ورماهم اللّه تعالى بأحجار مبرّد وكان من قبله البرد أكثر مما قبله بنو إسرائيل بالسيف ، وهرب الخمسة الملوك فاختفوا في غار فأمرهم يوشع فأخرجوا فقتلهم وصلبهم ثم أنزلهم فطرحهم في ذلك الغار وتتّبع سائر ملوك الشام فاستباح منهم واحداً وثلاثين ملكاً حتى غلب على جميع أرض الشام وصارت الشام كلها لبني إسرائيل ، وفرق عمّاله في نواحيها ثم جمع الغنائم فلم ينزل النار .

فأوحى اللّه تعالى إلى يوشع أنّ فيها غلولا فمرهم فليبايعوك فبايعوه فالتصقت . فدخل بينهم بيده ، فقال صلى الله عليه وسلم هلمّ لما عندك فأتاه برأس الثور مكلل بالياقوت والجوهر كان قد غلّه فجعله في القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فأحنث الرجل والقربان .

معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : " غزا نبي من الأنبياء فقال : لقومه لا يتبعني رجل قد ناكح امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما بنى ولا آخر قد بنى بناء له ولما يرفع سقفها ، ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينتظر ولادها . قال : فغزا فدنا للدير حين صلّى العصر أو قريباً من ذلك . فقال للشمس : أنت مأمورة وأنا مأمور ، اللّهم احبسها عليّ ساعة فحبست له ساعة حتى فتح اللّه عليه . قال من علمي أنها لم تُحبس لأحد قبله ولا بعده ثم وضعت الغنيمة فجمعوا فجاءت النار ولم تأكلها فقال : إنّ فيكم غلول فليبايعني من كل قبيلة منكم رجل فبايعوه فلصقت يد رجل بيده . فقال : فيكم الغلول أنتم غللتم ، قال : فأخرجوا مثل رأس بقرة من ذهب فألقوه في الغنيمة وهو بالصعيد فأقبلت النار فأكلتها " قال النبي صلى الله عليه وسلم " فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا وذلك لأن اللّه تعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيّبها لنا " .

قالوا : ثم مات يوشع ( عليه السلام ) ودفن في جبل أفرايم وكان عمره مائة وستاً وعشرين سنة . وتدبّر أمر بني إسرائيل بعد وفاة موسى سبعاً وعشرين سنة .