الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيۡهِمۡۛ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗۛ يَتِيهُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

قوله تعالى : " قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض " استحباب الله دعاءه وعاقبهم في التيه أربعين سنة . وأصل التيه في اللغة الحيرة ، يقال منه : تاه يتيه تيها وتوها إذا تحير . وتيهته وتوهته بالياء والواو ، والياء أكثر . والأرض التيهاء التي لا يهتدى فيها ، وأرض تيه وتيهاء ومنها قال{[5444]} :

تِيهٌ أتاويهُ على السُّقَّاطَ

وقال آخر :

بتيهاء قفرٍ والمَطِيُّ كأنَّها قطا *** الحَزْنِ قد كانت فراخا بيوضها

فكانوا يسيرون في فراسخ قليلة - قيل : في قدر سنة فراسخ - يومهم وليلتهم فيصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا ، فكانوا سيارة لا قرار لهم . واختلف هل كان معهم موسى وهارون ؟ فقيل : لا ؛ لأن التيه عقوبة ، وكانت سنو{[5445]} التيه بعدد أيام العجل ، فقوبلوا على كل يوم سنة ، وقد قال : " فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " . وقيل : كانا معهم لكن سهل الله الأمر عليهما كما جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم . ومعنى " محرمة " أي أنهم ممنوعون من دخولها ، كما يقال : حرم الله وجهك على النار ، وحرمت عليك دخول الدار ، فهو تحريم منع لا تحريم شرع ، عن أكثر أهل التفسير ؛ كما قال الشاعر :

جالت لتَصْرَعَنِي فقلتُ لها اقْصِرِي *** إني امرؤٌ صَرْعِي عليك حَرَامُ

أي أنا فارس فلا يمكنك صرعي . وقال أبو علي : يجوز أن يكون تحريم تعبد . ويقال : كيف يجوز على جماعة كثيرة{[5446]} من العقلاء أن يسيروا في فراسخ يسيرة فلا يهتدوا للخروج منها ؟ فالجواب : قال أبو علي : قد يكون ذلك بأن يحول الله الأرض التي هي عليها إذا ناموا فيردهم إلى المكان الذي ابتدؤوا منه . وقد يكون بغير ذلك من الاشتباه والأسباب المانعة من الخروج عنها على طريق المعجزة الخارجة عن العادة . " أربعين " ظرف زمان للتيه ، في قول الحسن وقتادة ، قالا : ولم يدخلها أحد منهم ، فالوقف على هذا على " عليهم " . وقال الربيع بن أنس وغيره : إن " أربعين سنة " ظرف للتحريم ، فالوقف على هذا على " أربعين سنة " ، فعلى الأول إنما دخلها أولادهم ، قاله ابن عباس . ولم يبق منهم إلا يوشع وكالب ، فخرج منهم يوشع بذرياتهم إلى تلك المدينة وفتحوها . وعلى الثاني : فمن بقي منهم بعد أربعين سنة دخلوها . وروي عن ابن عباس أن موسى وهارون ماتا في التيه . قال غيره : ونبأ الله يوشع وأمره بقتال الجبارين ، وفيها حبست عليه الشمس حتى دخل المدينة ، وفيها أحرق الذي وجد الغلول عنده ، وكانت تنزل من السماء إذا غنموا نار بيضاء فتأكل الغنائم ، وكان ذلك دليلا على قبولها ، فإن كان فيها غلول لم تأكله ، وجاءت السباع والوحوش فأكلته ، فنزلت النار فلم تأكل ما غنموا فقال : إن فيكم الغلول فلتبايعني كل قبيلة فبايعته ، فلصقت يد رجل منهم بيده فقال : فيكم الغلول فليبايعني كل رجل منكم فبايعوه رجلا رجلا حتى لصقت يد رجل منهم بيده فقال : عندك الغلول فأخرج مثل رأس البقرة من ذهب{[5447]} ، فنزلت النار فأكل الغنائم . وكانت نارا بيضاء مثل الفضة لها حفيف أي صوت مثل صوت الشجر وجناح الطائر فيما يذكرون ، فذكروا أنه أحرق الغال ومتاعه بغور يقال له الآن عاجز ، عرف باسم الغال ، وكان اسمه عاجزا .

قلت : ويستفاد من هذا عقوبة الغال قبلنا ، وقد تقدم حكمه{[5448]} في ملتنا . وبيان ما انبهم من اسم النبي والغال في الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( غزا نبي من الأنبياء ) الحديث أخرجه مسلم وفيه قال : ( فغزا فأدنى للقرية{[5449]} حين صلاة العصر أو قريبا من ذلك فقال للشمس : أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها{[5450]} علي شيئا فحبست عليه حتى فتح الله عليه - قال : فجمعوا ما غنموا فأقبلت النار لتأكله فأبت أن تطعمه فقال : فيكم غلول فليبايعني من كل قبيل رجل فبايعوه - قال - فلصقت يده بيد رجلين أو ثلاثة فقال فيكم الغلول ) وذكر نحو ما تقدم . قال علماؤنا : والحكمة في حبس الشمس على يوشع عند قتاله أهل أريحاء وإشرافه على فتحها عشي يوم الجمعة ، وإشفاقه من أن تغرب الشمس قبل الفتح أنه لو لم تحبس عليه حرم عليه القتال لأجل السبت ، ويعلم به عدوهم فيعمل فيهم السيف ويجتاحهم ، فكان ذلك آية له خص بها بعد أن كانت نبوته ثابتة خبر موسى عليه الصلاة والسلام ، على ما يقال . والله أعلم . وفي هذا الحديث يقول عليه السلام : ( فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا ) ذلك بأن الله عز وجل رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا . وهذا يرد قول من قال في تأويل قوله تعالى : " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " إنه تحليل الغنائم والانتفاع بها . وممن قال إن موسى عليه الصلاة{[5451]} والسلام مات بالتيه عمرو بن ميمون الأودي ، وزاد وهارون ، وكانا خرجا في التيه إلى بعض الكهوف فمات هارون فدفنه موسى وانصرف إلى بني إسرائيل ، فقالوا : ما فعل هارون ؟ فقال : مات ، قالوا : كذبت ولكنك قتلته لحبنا له ، وكان محبا في بني إسرائيل ، فأوحى الله تعالى إليه أن انطلق بهم إلى قبره فإني باعثه حتى يخبرهم أنه مات موتا ولم تقتله ، فانطلق بهم إلى قبره فنادى يا هارون فخرج من قبره ينفض رأسه فقال : أنا قاتلك ؟ قال : لا ، ولكني مت ، قال : فعد إلى مضجعك ، وانصرف . وقال الحسن : إن موسى لم يمت بالتيه . وقال غيره : إن موسى فتح أريحاء ، وكان يوشع على مقدمته فقاتل الجبابرة الذين كانوا بها ، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم ، ثم قبضه الله تعالى إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلائق . قال الثعلبي : وهو أصح الأقاويل .

قلت : قد روى مسلم عن أبي هريرة قال : أرسل ملك الموت إلى موسى عليه الصلاة{[5452]} والسلام فلما جاءه صكه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فقال : " أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت " قال : فرد الله إليه عينه وقال : " ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور ، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة " قال : " أي رب ثم مه " ، قال : " ثم الموت " قال : " فالآن " ؛ فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر ) فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم قد علم قبره ووصف موضعه ، ورآه فيه قائما يصلي كما في حديث الإسراء ، إلا أنه يحتمل أن يكون أخفاه الله عن الخلق سواه ولم يجعله مشهورا عندهم ، ولعل ذلك لئلا يعبد ، والله أعلم . ويعني بالطريق طريق بيت المقدس . ووقع في بعض الروايات إلى جانب الطور مكان الطريق . واختلف العلماء في تأويل لطم موسى عين ملك الموت وفقئها على أقوال ، منها : أنها كانت عينا متخيلة لا حقيقة ، وهذا باطل ؛ لأنه يؤدي إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له . ومنها : أنها كانت عينا معنوية وإنما فقأها بالحجة ، وهذا مجاز لا حقيقة . ومنها : أنه عليه السلام لم يعرف الموت ، وأنه رأى رجلا دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه فدافع عن نفسه فلطم عينه ففقأها ، وتجب المدافعة في هذا بكل ممكن . وهذا وجه حسن ؛ لأنه حقيقة في العين والصك ، قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة ، غير أنه اعترض عليه بما في الحديث ، وهو أن ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال : " يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت " فلو لم يعرفه موسى لما صدق القول من ملك الموت ، وأيضا قوله في الرواية الأخرى : " أجب ربك " يدل على تعريفه بنفسه . والله أعلم . ومنها : أن موسى عليه الصلاة والسلام كان سريع الغضب ، إذ غضب طلع الدخان من قلنسوته{[5453]} ورفع شعر بدنه جبته ، وسرعة غضبه كانت سببا لصكه ملك الموت . قال ابن العربي : وهذا كما ترى ، فإن الأنبياء معصومون أن يقع منهم ابتداء مثل هذا في الرضا والغضب . ومنها وهو الصحيح من هذه الأقوال : أن موسى عليه الصلاة{[5454]} والسلام عرف ملك الموت ، وأنه جاء ليقبض روحه لكنه جاء مجيء الجزم بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير ، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من ( أن الله لا يقبض روح نبي حتى يخيره ) فلما جاءه على غير الوجه الذي أعلم بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدبه ، فلطمه ففقأ عينه امتحانا لملك الموت ؛ إذ لم يصرح له بالتخيير . ومما يدل على صحة هذا ، أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة والموت اختار الموت واستسلم . والله بغيبه أحكم وأعلم . هذا أصح ما قيل في وفاة موسى عليه السلام .

وقد ذكر المفسرون في ذلك قصصا وأخبارا الله أعلم بصحتها ، وفي الصحيح غنية عنها . وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة ، فيروى أن يوشع رآه بعد موته في المنام فقال له : كيف وجدت الموت ؟ فقال : " كشاة تسلخ وهي حية " . وهذا صحيح معنى ، قال : صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( إن للموت سكرات ) على ما بيناه في كتاب " التذكرة " . وقوله : " فلا تأس على القوم الفاسقين " أي لا تحزن . والأسى الحزن ، أسي يأسى أي حزن ، قال{[5455]} :

يقولون لا تهلك أسى وتحمل


[5444]:هو العجاج. يصف أرضا مجهولة ليس بها علامات يهتدى بها، وأتاويه أفاعيل من تيه. والسقاط كل من سقط عليه، وهم الذين لا يصبرون ولا يجدون، الواحد ساقط: وصدر البيت: وبسطه بسعة البساط والبساط المكان الواسع من الأرض وقبل هذا البيت: وبلدة بعيدة النياط *** مجهولة تغتال خطو الخاطي
[5445]:في ج: سنون.
[5446]:في ج: كبيرة.
[5447]:كقدره أو كصورته من ذهب كان غله وأخفاه.
[5448]:راجع ج 4 ص 254 وما بعدها.
[5449]:لفظ البخاري "فدنا من القرية" ولعل ما هنا على حذف المفعول أي قرب جيوشه وجموعه لها. النووي.
[5450]:أي امنعها من السير زمانا حتى يتيسر لي الفتح نهارا.
[5451]:من ج.
[5452]:من ج.
[5453]:القلنسوة: ما يلبس على الرأس.
[5454]:من ج.
[5455]:هو امرؤ القيس، وصدر البيت: "وقوفا بها صحبي علي مطيهم".