[ 26 ] { قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين ( 26 ) } .
{ قال فإنها } أي الأرض المقدسة { محرمة عليهم } أي : بسبب أقوالهم هذه/ وأفعالهم . لا يدخلونها ولا يملكونها ، ممن قال هذه المقالة أو رضيها أحد ، فالتحريم تحريم منع لا تحريم تعبد { أربعين سنة يتيهون في الأرض } أي : يترددون في البرية متحيرين في الأرض حتى يهلكوا كلهم ، و ( التيه ) المفازة التي يتيه فيها سالكها فيضل عن وجه مقصده { فلا تأس } أي : تحزن { على القوم الفاسقين } أي الخارجين من قيد الطاعات .
قال العلامة البقاعي : ثم بعد هلاكهم أدخلها بنيهم الذين ولدوا في التيه . وفي هذه القصة أوضح دليل على نقضهم للعهود التي بنيت السورة على طلب الوفاء بها ، وافتتحت بها ، وصرح بأخذها عليهم في قوله{[2949]} : { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل . . . } الآيات ، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعلونه معه ، وتذكير له بالنعمة على قومه بالتوفيق ، وترغيب لمن أطاع منهم ، وترهيب لمن عصى . ومات في تلك الأربعين ، كل من قال ذلك القول أو رضيه حتى النقباء العشرة . وكان الغمام يظلهم من حر الشمس . ويكون لهم عمود من نور بالليل يضيء عليهم . وغير هذا من النعم . لأن المنع بالتيه كان تأديبا لهم . لا غضب . إذ أنهم تابوا . ثم ساق البقاعي- رحمه الله- شرح هذه القصة من التوراة التي بين أيديهم بالحرف . ونحن نأتي على ملخصها تأثرا له ، فنقول :
جاء في سفر ( العدد ) في الفصل الثالث عشر : إن شعب بني إسرائيل لما ارتحلوا من حصيروت ونزلوا ببرية فاران ، كلم الرب موسى بأن يبعث رجالا يجسون أرض كنعان . من كل سبط رجلا واحدا . وكلهم يكونون من رؤساء بني إسرائيل ؛ فأرسلهم موسى وأمرهم أن ينظروا إلى الأرض ، أجيدة أم رديئة ؟ وإلى أهلها ، أشديدون أم ضعفاء ؟ قليلون أم كثيرون ؟ وأن يوافوه بشيء من ثمرها فساروا واجتسوا الأرض من برية صين على رحوب عند مدخل حماة ، ثم رجعوا بعد أربعين يوما . وكان موسى وقومه في برية فاران في قادش ، فأروهم ثمر الأرض ، وقصوا عليهم ما شهدوه من جودة الأرض ، وأنها تدر لبنا وعسلا . ومن شدة أهلها وقوتهم وتحصن مدنهم ؛ فاضطرب قوم موسى . فأخذ كالب- أحد النقباء- يسكنهم عن موسى ويقول : نصعد ونرث الأرض فإنا قادرون عليها . وخالفه بقية النقباء وقالوا : لا نقدر أن نصعد إليهم لأنهم أشد منا . وهولوا على بني إسرائيل الأمر وقالوا : شاهدنا أناسا طوال القامات ، سيما بني عناق . فصرنا في عيوننا كالجراد . وكذلك كنا في عيونهم . فعند ذلك ضج قوم موسى ورفعوا أصواتهم وبكوا وقالوا : ليتنا متنا في أرض مصر أو في هذه البرية ، ولا تكون نساؤنا وأطفالنا غنيمة للجبابرة . وخير لنا أن نرجع إلى مصر . وقالوا : لنقم لنا رئيسا ونرجع إلى مصر . فلما شهد موسى ذلك منهم وقع هو وأخوه هارون على وجوههما أمام الإسرائيليين . ومزق ، من النقباء ، يوشع بن نون وكالب ، ثيابهما . وكلما بني إسرائيل قائلين : إن الأرض التي مررنا فيها جيدة ، وإذا كان ربنا راضيا عنا فإنه يدخلنا إياها . فلا تتمردوا ولا تخافوا أهلها فسيكونون طعمة لنا . إذ الرب معنا . فلما سمع بنو إسرائيل كلام يوشع وكالب قالوا : ليرجما بالحجارة ، وكاد حينئذ أن يحيق ببني إسرائيل العذاب الإلهي ، لولا تضرع موسى إلى ربه بأن يعفو عنهم ، كيلا يكونوا أحدوثة عند أعدائهم المصريين . فعفا تعالى عنهم . وأعلم موسى ؛ أن قومه لن يروا الأرض التي أقسم عليها لآبائهم . وأنهم يموتون جميعا في التيه . إلا كالبا . فإنه لحسن انقياده سيدخل الأرض ، وكذلك يوشع ؛ وأعلمه تعالى أيضا بأن أطفال قومه الذين سيهلكون في التيه يكونون رعاة فيه أربعين سنة بعدد الأيام التي تجسس النقباء فيها أرض الكنعانيين . كل يوم وزره سنة ليعرفوا انتقامه ، وعز سلطانه . ثم هلك النقباء العشرة ، الذين شنعوا لدى قومهم تلك الأرض ، بضربة عجلت لهم . لا فوز لكم الآن بالنصر الرباني . وإن فعلتم فإن العدو يهزمكم وتسقطون تحت سيفه . فتجبروا وصعدوا إلى رأس الجبل . فنزل العمالقة والكنعانيون عليهم فضربوهم وحطموهم ، ثم بعد انقضاء الأربعين سنة فتحت الأرض المقدسة على يد يوشع ، كما شرح في ( سفره ) ، والله أعلم .
الأول : قوله تعالى : { أربعين سنة } ظرف متعلق ب { يتيهون } . واحتمال كونه ظرف ل { محرمة } كما ذكره غير واحد – لا يصح إلا بتكلف ؛ لما شرحناه من سياق القصة .
الثاني : قال الحاكم : دل قوله تعالى : { فلا تأس على القوم الفاسقين } على أن من لحقه عذاب الله لا يجوز أن يحزن عليه لأن ذلك حكمه ، بل يحمد الله تعالى إذا أهلك عدوا من أعدائه .
الثالث : قال ابن كثير : ذكر كثير من المفسرين ههنا أخبارا من وضع بني إسرائيل ، في عظمة خلق هؤلاء الجبارين ، وأن منهم عوج بن عنق بنت آدم عليه السلام . وأن طوله ثلاثة آلاف ذراع ، وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعا وثلث ذراع . تحرير الحساب . وهذا شيء يستحيى من ذكره . ثم هو مخالف لما ثبت في ( الصحيحين ) : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا ، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن " . ثم ذكروا أن هذا الرجل كان كافرا ، وأنه كان ولد زنية ، وأنه امتنع من ركوب سفينة نوح ، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبتيه . وهذا كذب وافتراء ، فإن الله تعالى ذكر أن نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا }{[2950]} . وقال تعالى : { فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين }{[2951]} . وقال تعالى : { لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم }{[2952]} ؛ وإذا كان ابن نوح ، الكافر ، غرق ، فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر وولد زنية ؟ هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع . في وجود رجل يقال له عوج بن عنق ، نظر . والله أعلم .
/ الرابع : قال ابن كثير : تضمنت هذه القصة تقريع اليهود ، وبيان فضائحهم ومخالفتهم لله ولرسوله ، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمراهم به من الجهاد ، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجادلتهم ومقاتلتهم ، مع أن بين أظهرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك الزمان . وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم . هذا ، مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوهم ، من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم وهم ينظرون ، لتقر به أعينهم ( وما بالعهد من قدم ) . ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازن عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم . وظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام . وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ولا يسترها الذيل . وقال – رحمه الله- قبل ذلك : وما أحسن ما أجاب به الصحابة{[2953]}- رضي الله عنهم- يوم بدر رسول الله حين/ استشارهم في قتال النفير الذين جاءوا لمنع العير الذي كان مع أبي سفيان . فلما فات اقتناص العير ، واقترب منهم النفير ، وهم في جمع ما بين التسعمائة إلى الألف في العدة والبيض واليلب . " فتكلم أبو بكر –رضي الله عنه- فأحسن . ثم تكلم ، من الصحابة ، من المهاجرين . ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أشيروا علي أيها المسلمون ! وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار . لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذ . فقال سعد بن معاذ : كأنك تعرض بنا يا رسول الله ؟ فوالذي بعثك بالحق ! لو استعرضت بنا هذا البحر ، فخضته ، لخضناه معك . ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا . إنا لصبر في الحرب ، صدق في اللقاء . لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك . فسر بنا على بركة الله . فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونشطه لذلك " .
وروى الإمام أحمد{[2954]} عن عبد الله بن مسعود قال : " لقد شهدت من المقداد مشهدا ، لأن أكون أنا صاحبه ، أحب إلي مما عدل به . أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعوا على المشركين فقال : والله ! يا رسول الله ! لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون } . ولكنا نقاتل عن يمينك ، وعن يسارك ، ومن بين يديك ، ومن خلفك .
/ فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك . وسره ذلك " وهكذا رواه البخاري{[2955]} في ( المغازي )
الخامس : استنبط العمرانيون من هذه الآية أن من عوائق الملك حصول المذلة للقبيل ، والانقياد لسواهم .
قال الحكيم ابن خلدون في ( مقدمة العبر ) في الفصل 19 تحت العنوان المذكور : إن المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية وشدتها . فإن انقيادهم دليل على فقدانها ، فمارئموا ( ألفوا ) للمذلة حتى عجزوا عن المدافعة ، ومن عجز عن المدافعة ، فأولى أن يكون عاجزا عن المقاومة والمطالبة . واعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه السلام إلى ملك الشام ، وأخبرهم أن الله قد كتب لهم ملكها ، كيف عجزوا عن ذلك ، قالوا{[2956]} : { إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها } . أي : يخرجهم الله منها بضرب من قدرته غير عصبيتنا ، وتكون من معجزاتك يا موسى ، ولما عزم عليهم لجوا وارتكبوا العصيان وقالوا{[2957]} له : { اذهب أنت وربك فقاتلا } . وما ذلك إلا لما آنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة والمطالبة ، كما تقتضيه الآية وما يؤثر في تفسيرها ؛ وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد ، ومارئموا من الذل للقبط أحقابا حتى ذهبت العصبية منهم جملة . مع أنهم / لم يؤمنوا حق الإيمان بما أخبرهم به موسى ، ومن أن الشام لهم ، وأن العمالقة الذين كانوا بأريحاء فريستهم ، بحكم من الله قدره لهم . فأقصروا عن ذلك وعجزوا ، تعويلا على ما علموا من أنفسهم من العجز عن المطالبة ، لما حصل لهم من خلق المذلة . وطعنوا فيما أخبرهم به نبيهم من ذلك وما أمرهم به . فعاقبهم الله بالتيه . وهو أنهم تاهوا في قفر من الأرض ما بين الشام ومصر أربعين سنة . لم يأووا فيها لعمران ، ولا نزلوا مصرا ، ولا خالطوا بشرا ، كما قصه القرآن ، لغلظة العمالقة بالشام والقبط بمصر عليهم ، لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه . ويظهر من مساق الآية ومفهومها : أن حكمة ذلك التيه مقصودة . وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة وتخلقوا به . وأفسدوا من عصبيتهم ، حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ، ولا يسام المذلة . فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب ؛ ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر ، سبحان الحكيم العليم . وفي هذا أوضح دليل على شأن العصبية . وأنها هي التي تكون بها المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة . وأن من فقدها عجز عن جميع ذلك كله . 1ه .